الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 12 - لغة الشعر


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

12- لغة الشعر:


     عني حافظ في شعره عناية كبيرة بلغته ألفاظاً وتراكيب، وجعل من هذا الأمر هدفاً ثابتاً له، وكان يكثر البحث عن اللفظ المناسب، ويوازن بين أجزاء الجملة الواحدة طولاً وقصراً، وبين الجمل المختلفة، عطفاً ومقابلة، بحيث أمكن في النهاية أن يقدم للعربية شعراً واضحاً سهلاً مفهوماً، تقع الألفاظ فيه مواقعها الطبيعية وتنساب الجمل انسياباً جميلاً، مع حسن انتقاء للألفاظ تظهر فيها روح الشاعر المؤثرة للجزالة مع الوضوح، وحسن السبك مع الإشراق.

     وسبب ذلك وضوح شخصيته التي تقدم لنا ما تريد قوله من أيسر سبيل وكراهيتها للتكلف والتعقيد، وشعبيته الواسعة في صداقاته وعلاقاته وهو ما جعله يحرص حرصاً شديداً على الوصول إلى الناس، من خلال شعر يتصف بالوضوح والجزالة معاً ليفهمه السامع ويبهر به، وأخيراً لحرصه على أن يلقي شعره بنفسه بأسلوبه البارع في الإلقاء لينتزع إعجاب السامعين بما يوفره من عناصر مختلفة أهمها اللفظة الدالة، وجودة السبك، وهما من لوازم الخطابة والإلقاء اللذين لهما في شعر حافظ أثر بين.

     ولعله من أجل ذلك كان يحرص على أن يردد بينه وبين نفسه، ما ينظمه من شعر حتى يتبين له حسن وقعه على السمع فيرضى عنه أولاً قبل أن يقدمه للناس. ويتصل بهذا الأمر شيء غريب لكنه يوضحه تمام التوضيح، وهو اختياره لرجل من عامة الشعب اسمه علي محمود حسن الكرساتي، اعتبره المستوى العام لفهم ابن البلد المصري، كان يعرض عليه ما ينظمه فإذا وجد منه فهماً للبيت أجازه وإلا غير وبدل[1].

     ولعل وقفة متأنية أمام قصيدته الثالثة في رثاء مصطفى كامل توضح لنا ما سبق قوله أحسن التوضيح. يقول حافظ:

طوفـــوا بأركــان هذا القبـــر واستـــلموا
               واقضـــــوا هنــــالك ما تقـضي به الذمم
هنــــا جنــــــان تعـــــالى الله بـارئــــــه
               ضــــــاقت بآمــــــاله الأقــدار والهـــمم
هنـــــا فــــم وبنــــــان لاح بيـــــــــنهما
               في الشـــرق فجر تحيي ضـــــوءه الأمم
هنـــــا فــم وبنـــــان طــــالمـا نـثـــــــرا
               نـثـــــراً تســــيـل به الأمثــــــال والحكم
هنـــــا الكمي الــذي شـــــادت عزائمــه
               لطـــــالب الحـــق ركنـــاً ليــس ينهـــدم
هنـــــا الشهيـــــد هنــا رب اللواء هنـــا
               حامي الذمار هنا الشهم الذي علموا[2]

     فالمطلع خطابي مؤثر، فيه فخامة وقوة، وفيه استثارة لاهتمام السامعين، نجد فيه ثلاثة أفعال أمر ((طوفوا)) و((استلموا)) و ((اقضوا)) وهي أفعال تنبه وتوقظ وتهيئ النفوس لما سيقال لها، ثم تأتينا خمسة أبيات متوالية، تتكرر فيها كلمة ((هنا)) تكراراً ملحاً قد لا يسر به طالب المتعة العقلية، وراغب الخيال المتألق، ولكن يطرب له السامع العادي الذي يصل إلى مقاصد الشاعر من أيسر السبل حيث تتوالى العبارات بعد ظرف المكان ((هنا)) سهلة واضحة، يأخذ بعضها برقاب بعض، فلا يوجد فيه ما يشق على أن يفهم، أو على أن يتلفظ به، والكلمات كلها مشرقة مفهومة، ولكن إلى جانب ذلك فيها جزالة وقوة، والسبك فيه جودة وإحكام، فإذا أضيف إلى ذلك أن المعنى نفسه سهل قريب، كان لنا أن نقول: إننا أمام شعر، سهل من ناحية، متين من ناحية، مفهوم من ناحية، فكأنه من قبيل السهل الممتنع، وتلك هي مزية حافظ في شعره، وتلك أيضاً ثمرة من ثمار شخصيته بمزاجها وثقافتها، وتطلعها إلى دورها في الشعر الذي ارتضته وأحبته.

     وفي أبيات حافظ التالية من القصيدة نفسها:

إني أرى وفـــؤادي ليس يكذبـــني     روحـــاً يحف به الإكبار والعظــم
أرى جـلالاً، أرى نوراً، أرى ملكاً     أرى محيــــاً، يحيينـــــا، ويبتســم
الله أكبـــر هـــــذا الوجـــه أعرفــه     هذا فتى النيل هذا المفـرد العــــلم
غضوا العيـــــــون وحيوه تحيـــته     من القـــلوب إذا لم تسعـد الكــــلم
وأقســـموا أن تذودوا عن مبادئـــه     فنحن في موقف يحـــلو به القســم
لبيــــك نحن الألى حركت أنفسـهم     لما سكنت ولما غـــالك العـــــــدم

     نجد كل ما سبقت إليه الإشارة من خصائص الصياغة لدى حافظ، ونجد بجلاء تام أثر الخطابة والإلقاء على شعره في توزيعه لأجزاء الكلام، واختيار البحر والقافية، وتهيئة أذهان السامعين لحشد الولاء لمبادئ المرثي، ثم مطالبتهم بالقسم على الوفاء لها، ثم إجابة الشاعر عن نفسه وعن الآخرين إجابة يخاطب فيها الفقيد ليعلن له أن الجميع على العهد.

     فإذا جئنا إلى قصيدته في رثاء محمد المويلحي الذي توفي عام 1930م، وجدنا خصائصه في صياغته في هذه الأبيات وأمثالها:

دمعـــــة من دمـــوع عهد الشبـــاب
                 كنــــــت خبـــــأتها ليوم المصـــاب
لو شــــهدتـم محــــــــمداً وهو يملي
                 آي عيسى ومعجـــــــزات الكتـــاب
وقفـــت حولـــه صفوف المعــــاني
                 وصفــــوف الألفــاظ من كل بـــاب
لعــــلمتـم بـــــأن عهد ((ابن بحر))
                 عــــاود الشرق بعد طول احتجــاب
أدب مســـــــتـو، وقـلــــب جميــــع
                 وذكـــــاء يريـك ضـــــوء الشهـاب
عنــــد رأي موفـــــق عند حــــــزم
                 عنـــد عـــــلم يفيض فيض السحاب
جــــل أســــلوبه النقي المصــــــفى
                 عن غموض ونفرة واضطراب[3]

     فالألفاظ واضحة مع جزالة وحسن انتقاء، والجمل متوالية مسترسلة بدون نبو أو شذوذ، مع الحرص على التقابل والعطف والإضافة، بما يوضح المعنى ويزيده بساطة وقرباً، وبما يثري الموسيقى الداخلية في جميع الأبيات، تجد ذلك كله فتجد شعراً سهلاً جزلاً، ذا صياغة جميلة، وموسيقى غنية، ومعان قريبة، وذلك هو حافظ، شخصاً وشعراً.

     وقد عني الدكتور عبد الحميد سند الجندي بدراسة لغة حافظ، ووقف عندها وقفة متأنية، بين فيها مدى عناية الشاعر بالألفاظ، وعلل ذلك، ونقل بعض الروايات والآراء المتصلة به.

     يقول الدكتور الجندي: ((وكان حافظ يفتش عن اللفظ المناسب للموضوع، ويوائم بين موسيقى الطول والقصر وبين المعاني والأغراض، وكان يعيد النظر في شعره ويبدل لفظة بأخرى، ويقدم ويؤخر بغية توفير الجمال لفنه، وكان يسمي هذه العملية ((بالتذوق)) ويمدح بعض الشعراء بأنه ((ذواق)) ... وكان كما يحكي عنه أصدقاؤه يصنع البيت فيردده على أذنه بإنشاده اللطيف حتى يتبين موقعه من أذنه قبل أن يوقعه على آذان الناس ... وكان حافظ يعنى أشد عناية بتوفير عناصر الجمال اللفظي لشعره، وكان احتفاله بالمعنى لا يساوي شيئاً بجانب احتفاله باللفظ))[4].

     ويورد الدكتور الجندي ما يؤيد رأيه في لغة حافظ كعبارة الشيخ عبدالعزيز البشري وكان صديقاً لحافظ، التي يقرر فيها أن حافظ كان يؤمن قبل كل شيء بالصنعة والديباجة ونسج الكلام ويرى أن ما بعد هذا عنده فضل، وأهم من ذلك يورد عبارة لحافظ جاءت في حديث له مع محرر مجلة الهلال عام 1928م قال فيها: ((أما أنا فأميت المعنى إذا لم يتفق لي لفظ رائع))[5] لينتهي إلى أن سبب ذلك هو خطابية حافظ، وبساطته، وسطحية ثقافته، وخوفاً من الظن بأن ذلك قد يعد عيباً يحسب على حافظ، استدرك الدكتور الجندي ليقرر ((وأحب أن أقول إن الجزالة وسلاسة العبارة وسطوة الألفاظ وعذوبة الجرس ليست بالشيء الهين في الشعر فهي عنصر هام وركن قوي من أركانه، وقديماً كان أدباء العرب يعتبرون هذه الناحية هي كل شيء في الشعر، والمعنى بجانبها خسيس المقدار لأنه لا يكلف الشاعر عناء في اقتناصه، أما اللفظ ففيه يتفاضل الشعراء وتتباين قدراتهم))[6].

     وثقافة حافظ العربية الخالصة، وكثرة محفوظاته من جيد المنظوم والمنثور العربيين، أكدت فيه هذا التوجه وعمقته، فإذا أضيف هذا إلى خطابيته وشعبيته وبساطته، وإلى محبته للبارودي وإعجابه به، كان لنا أن نتوقع من لغته، مفردات وتراكيب، أن تكون على ما كانت عليه، على أنه من الضروري ألا يغيب عنا هنا أثر البارودي على حافظ ذلك لأنه كان شديد التأثر به، وهو تأثر جعله يقلده في لغته الفخمة القوية مع حرص على الوضوح، يقول الدكتور شوقي ضيف: ((وفي هذه الفترة من سنة 1903م إلى سنة 1911م ينضج فن حافظ ويبلغ الأوج المنتظر. حقاً إنه تلميذ البارودي وقد أخذ يغشى مجالسه منذ عاد من منفاه سنة 1900م ويتلقى عنه قوالب شعره محكمة تامة، ولكن من المحقق أنه لم يقلده تقليد الضرير، إنما كان يتأثر خطاه ويحاول أن يتمم رسالته من تصوير الشاعر لأمته وعصره، ومن المحقق أيضاً أنه يتميز منه ومن شوقي في أساليبه فهو أكثر منهما وضوحاً، وأكثر منهما استخداماً للفصيح المألوف في لغتنا المصرية، لسبب بسيط هو أنه ابن الشعب لم ينشأ مثلهما في طبقة أرستقراطية، إنما نشأ في طبقة ديمقراطية ولذلك كان أدنى إلى الشعب في لغته وفي روحه))[7].

     وفي رثاء حافظ للبارودي نلمح ذلك كله، بل نلمح إلى جانبه نبرة بدوية لعلها كانت من أثر البارودي الفارس المقاتل على حافظ، لذلك ظهرت في مرثيته فيه، بأوضح مما ظهرت في مراثيه في الآخرين. يقول حافظ:

ردوا علي بيـــــــــاني بعـــــد محمود
               فقـــد عييـــت وأعيا الشعر مجـهودي
ما للبــــلاغة غضـــبى لا تطــاوعني
               وما لحبـــــل القـــوافي غير ممـــدود
ظنـــت سكوتي صفحــــاً عن مودتـه
               فأسلمتـــــني إلى هــم وتســــــــــهيـد
ولو درت أن هــذا الخطـــب أفحمني
               لأطلقت من لســــاني كل معقــــــــود
لبيــــك يا مؤنس الموتى وموحشنــــا
               يا فارس الشعر والهيجاء والجود[8]

     ففي هذه الأبيات تظهر لغة حافظ بكل خصائصها، ومن أهمها الوضوح مع القوة، والصحة مع جودة السبك، والجزالة مع الفخامة، فضلاً عن وتر بدوي لا يخفى.

     وفي رثاء حافظ للأستاذ الإمام محمد عبده، نجد التكرار، وتقسيم العبارات إلى جمل متقابلة، ونجد الألفاظ المعطوفة على بعضها:

سلام على الإســـــلام بعد محـــــــــمد
               سلام على أيـــــــــامه النضــــــــرات
على الدين والدنيــا على العلم والحجـا
               على البر والتقوى على الحسنـــــــات
لقد كنت أخشى عادي الموت قبــــــله
               فأصبحت أخشى أن تطول حياتي[9]

     والأمر نفسه نجده في رثائه لمصطفى كامل مع نبرة خطابية أوضح وأعلى، لأنها أليق بالزعيم الوطني ومواقفه:

شهيــــد العــــــلا لازال صوتك بيننــا
               يـــــرن كما قد كـــــــان بالأمس داويا
يهيـــــب بنـــا هذا بنـــــــاء أقمتـــــــه
               فــــلا تهــــدموا بالله ما كنت بانيـــــــا
يصيــــح بنــا لا تشعروا النـــاس أنني
               قضيـــــت وأن الحي قد بــات خاليــــا
ينـــــاشــدنــا بــالله ألا تفــــــــــــرقوا
               وكونـــوا رجـــالاً لا تسروا الأعاديــا
أجــل أيهــا الداعي إلى الخير إننـــــــا
               على العهـــــد ما دمنا فنم أنت هانيــــا
بنــــاؤك محفوظ، وطيفك ماثــــــــــل
               وصوتك مسموع،وإن كنت نائيا[10]

     وهكذا تتضح من هذه النماذج من مراثي حافظ صياغته التي عرف بها واشتهر، من حيث انتقاء الألفاظ، وتراكيب الجمل، بحيث يمكن تلخيصها بأنها الوضوح مع الجزالة، والسهولة مع جودة السبك، ومراعاة أجزاء الجملة داخل الأبيات، والعناية بالتكرار، وهو ما يزيد من جمال الإيقاع الموسيقي جمالاً يتكامل مع انتقاء البحور والقوافي، لنظفر آخر الأمر بشعر حافظ، بكل مقوماته الدالة على شخصيته أحسن الدلالة، وهي شخصية العربي المصري، السهل الواضح، الذي يضع في اعتباره بادئ ذي بدء أنه يخاطب الجمهور ويريد أن يظفر بإعجابه، والذي كان يدرك أن تلك هي مزيته الكبرى، ونقطة قوته، فضلاً عن أنها رغبته العميقة، وهدفه الذي يسعى إليه عن سابق وعي واختيار.

     ولغة حافظ تذكرنا بلغة البارودي، ذلك أنها أهم ما ظفر به منه، وهو أستاذه الذي جعله مثلاً أعلى له. يقول الدكتور شوقي ضيف عن حافظ: ((فالبارودي كان مثله الأعلى، وأخذ يطابق مطابقة تامة بين هذا المثل وشعره، واستطاع أن يظفر من ذلك بما كان يطمح إليه، فقد حول إلى شعره صيغه الجزلة الرصينة، وإن كان قد حاول تبسيطها، إلا أن قوالبه تمتاز دائماً بما تمتاز به قوالب البارودي من الرصانة والجزالة والبعث لأساليب العربية الأصيلة))[11]. وإذا كان ثمة من فرق بين لغتي الشاعرين، فهو أن لغة البارودي أميل إلى المتانة، بل والبداوة أحياناً، ولغة حافظ أميل إلى الوضوح والبساطة.

--------------
[1] مقدمة الديوان، ص 34.
[2] الديوان، ص474.
[3] الديوان، ص 552.
[4] حافظ إبراهيم شاعر النيل، ص 100.
[5] مجلة فصول، فبراير، مارس، 1983م، ص 281.
[6] حافظ إبراهيم شاعر النيل، ص 102.
[7] فصول في الشعر ونقده، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1977م، ص 353.
[8] الديوان، ص 453.
[9] الديوان، ص 458.
[10] الديوان، ص 463.
[11] الأدب العربي المعاصر في مصر، ص 104.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة