الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 13 - الصورة الشعرية


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

13- الصورة الشعرية:


     كان حافظ إنساناً واضحاً بسيطاً، مستقيم الطبع، نقي السريرة، يمكن الوصول بيسر إلى أعماق شخصيته التي لا عقد فيها ولا التواء ولا خفايا، يغضب بسرعة، ويرضى بسرعة، ولا يستطيع أن يظهر على خلاف حقيقته حتى لو حاول، لذلك كان الوضوح من أبرز خصائصه، وقد برزت خاصية الوضوح في شعره بحيث تلقاك في كل قصائده، وفي صوره فيها.

     وأياً كانت الصورة الشعرية عند حافظ فهي واضحة مفهومة لا تعقيد فيها ولا إغراب، ولا صعوبة قط في فهمها واستيعاب عناصرها، وربما كانت الصورة عنده مفصلة، وربما كانت مكثفة، وربما كانت جميلة رائعة، وربما كانت غير موفقة، ولكنها تبقى في كل الحالات واضحة ومفهومة.

     في رثائه لسليمان أباظة نجده يصور الثرى غولاً لا يشبع، فالبشر زاده منذ أول الدهر، وقد كاد هذا الزاد ينفد لكن الثرى لم يزل جائعاً، لذلك يطلب منه أن يتجه إلى المجرة والنجوم ليجعل منها زاده طعاماً وشراباً في مبالغة غير مستساغة:

أيهــذا الثــــرى إلام التمــــادي     بعــد هذا أأنت غرثــان صادي
أنت تـــروى من مدمع كل يوم     وتغــــذى من هـــذه الأجســـاد
قد جعلت الأنام زادك في الدهـ     ـــر وقد آذن الـورى بالنفــــــاد
فـالتمس بعــــده المجــرة ورداً     وتـــزود من النجـــوم بزاد[1]

     وفي قصيدته الثانية التي قالها في رثاء الفقيد نفسه، نجده يصور مزايا الفقيد بشكل مبالغ فيه، فخلقه كالضوء أو الروض أو الزهر أو الخمر أو الماء، وشمائله قادرة على تبديل طبع الليل لو مازجته، أما محامده فهي عفة وسماحة وإباء، أما مناقبه فيمكن وصفها بأنها مناقب النبي الكريم × لولا التقى، وأما عزائمه فكانت تفل الأحداث والأعداء والأيام، لذلك كانت المصيبة به جليلة عطلت الشعر، وطوت مواسم الشعراء:

خـلق كضوء البدر أو كالروض أو
               كالـزهــر أو كالخــمر أو كالمـــاء
وشـــمائل لو مازجت طبـع الدجى
               ما بــــات يشكوه المحب النـــــائي
ومحــــامد نســـجت له أكـفــــــانه
               من عفــــة وسمـــــــاحة وإبـــــاء
ومنـــــاقب لـولا المهــــابة والتقى
               قلنــــا منـــاقب صـاحب الإســراء
وعزائــــم كـــانت تفـل عزائم الــ
               أحــــداث والأيـــــــام والأعــــداء
عطلت فـــن الشعر بعدك وانطوى
               أجل القريض وموسم الشعراء[2]

     وفي رثائه للبارودي يبالغ حافظ في تصوير الكفن الذي يطلبه للفقيد، والقبر الذي يريده له، والشمس التي ينبغي أن تنعاه للناس:

لو أنصفــــوا أودعوه جوف لؤلـــــؤة
               من كـنـــز حكمتــــه لا جوف أخــدود
وكـفـنــــــــوه بــدرج من صحــــائفـه
               أو واضح من قميص الصبح مقـــدود
وأنزلــــوه بأفـــــق من مطـــــــــالعه
               فــوق الكواكـــب لا تحـــت الجلاميـد
ونــاشدوا الشمس أن تنعى محاسنــــه
               للشرق والغرب والأمصار والبيد[3]

     أما المصاب بالإمام محمد عبده فهو مصاب كوني عند حافظ الذي يصوره، والشهب فيه تتبادل التعازي، والنعش يختال فخراً بمن فيه، والدموع استحالت نهراً، والشرق كله يبكي، وعيون الكون باكية:

وشاعت تعازي الشهب باللمح بيــــنها
               عن الـنيــــر الهــــاوي إلى الفــــلوات
مشى نعشـــــه يختــــال عجبــــاً بربه
               ويخـــــطر بين اللمــس والـقبـــــلات
بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة
               وضــاقت عيون الكون بالعبـرات[4]

     وفي رثائه لمصطفى كامل يطلب حافظ من النيل أن يجري دماً أحمر، ومن مصر أن تحفظ عهد الفقيد وإلا فإن انحلالها مستمر، وهو أمر مبالغ فيه، والصورة غير مستساغة:

فيــــا نيــــل إن لم تجر بعد وفاتـــه
               دماً أحمراً لا كنـــــت يا نيل جاريـا
ويا مصر إن لم تحفظي ذكر عهـده
               إلى الحشر لازال انحلالك باقيا[5]

     وجنازة مصطفى كامل بما فيها من أحزان متقدة، وجموع متلاطمة، وعيون باكية، يجعلها حافظ يوم الحشر:

شاهدت يوم الحشر يوم وفـــاته     وعلمت منه مراتب الأقدار[6]

     وفي رثائه لسعد زغلول نجد حافظ يصور وفاة الفقيد تصويراً فيه المبالغة وفيه التهويل، فهو يسائل الليل هل أدرك حجم المصيبة ويطلب منه أن يبلغ المشارق والمغارب نبأها، وأن ينعاه للشهب والكواكب:

إيــه يا ليـــــل هل شهـــــدت المصابـــا
               كيـــف ينصــب في النفوس انصبابـــــا
بــلـغ المشـــرقين قبــل انبـلاج الصبـــ
               ـــح أن الرئـيــــــــس ولى وغابـــــــــا
وانـــع للنيـــــرات سعــــــداً فسعـــــــد
               كان أمضى في الأرض منها شهابا[7]

     وفي صورة أكثر تهويلاً وإثارة ومبالغة يطلب حافظ من الليل أن يقتطع من لونه ثوباً للنجوم والضحى، وأن ينسج منه نقاباً للشمس وأن يخبر الشمس أن تحتجب حزناً على سعد متشحة بسواده حداداً عليه:

قــــد يا ليـــل من ســــوادك ثوبـــــاً
               للدراري وللضـــــحى جـلبــــــــابـا
انســـج الحالـكـــات منـــــك نقـاـــباً
               واحـب شـــمس النهــــار ذاك النقابا
قل لها غاب كوكب الأرض في الأر
               ض فغيـــبي عن الســماء احتجــابـا
والبسيــــني عليــــه ثـــوب حــــداد
               واجـلــسي للعــــــزاء فالحزن طابـا

     والبكاء على سعد طويل وغزير وشامل، لذلك استحال إلى سحب تنصب على مصر فتغطي منها الأخضر واليابس:

واستهلت سحب البكاء على الوا     دي فغطت خضـــراءه واليبــابا

     وفي كثير من الأحيان تميل الصورة عند حافظ إلى التفصيل الذي يكرر الجزئيات، وهو ما يجعله يقع في السطحية والتكرار أحياناً كقوله في رثاء سليمان أباظة:

رحــم الله منـــــه لـفظــاً شهيـــاً     كـان أحلى من رد كيد الأعــادي
رحــــم الله منــه طرفــــاً تقـيـــاً     ويمينــــاً تسيــــل سيل الغـوادي
رحــــم الله منــــه شهــماً وفيـــاً     كان ملء العيون في كل ناد[8]

     وفي رثائه لمصطفى كامل الذي يطلب فيه من السامعين أن يجعلوا من قبر الفقيد كعبة يطوفون بها، يقدم لنا صورة مفصلة تفصيلاً جزئياً تقريرياً، يخبرنا فيها أن قبر الفقيد فيه قلب قوي وفم وبنان، وفيه الشجاع الباني والشهيد ورب اللواء وحامي الذمار والشهم المعروف، وهو تفصيل لا تحتمله طبيعة الشعر:

طوفــــوا بأركـــان هذا البيت واستـلموا
               واقضــــوا هنــــالك ما تقضي به الذمـم
هنــــا جنـــــــان تعـــــالى الله بارئـــــه
               ضــــاقـت بآمــــاله الأقـــدار والهــــمم
هنـــا فـــم وبنـــــــــــان لاح بيـــــنهمـا
               في الشـــرق فجـر تحيي ضـــوءه الأمم
هنــــا فــم وبنـــــــان طــــالما نثــــــرا
               نثــــراً تسيــــر به الأمثـــال والحــــكم
هنـــــــا الكمي الذي شــــــادت عزائمه
               لطــــالب الحـــق ركنــاً ليــس ينهــــدم
هنــــا الشهيـــــد هنــا رب اللواء هنــــا
               حامي الذمار هنا الشهم الذي علموا[9]

     ولعل هذا التصوير التقريري الذي يعتمد على التكرار ثمرة من ثمار خطابية حافظ وأثر من آثارها على شعره، والشاعر حين يجعل همه الأكبر إرضاء الجمهور الذي يستمع إليه، إنما يجور على نفسه وعلى شعره معاً، وهو ما وقع فيه حافظ.

     لكن الشاعر يحالفه الحظ في صورة أخرى مفصلة في القصيدة نفسها حيث استطاع أن يقدم لنا عناصر الصورة في مشهد حي متكامل:

إني أرى وفــؤادي ليس يكذبني     روحاً يحف به الإكبــار والعظم
أرى جلالاً أرى نوراً أرى ملكاً     أرى محيــــاً يحيينـــا ويبتســـم
الله أكبــر هذا الوجـــــه أعرفـه     هذا فتى النيــل هذا المفرد العلم
غضوا العيــــون وحيوه تحيـته     من القلوب إذا لم تسعـــــد الكلم
وأقســموا أن تذودوا عن مبادئه     فنحن في موقف يحـلو به القسم
لبيك نحن الألى حركت أنفسـهم     لما سكنــــت ولما غالك العــدم

     لقد وفق الشاعر توفيقاً بعيداً في هذه الصورة المفصلة التي استطاع أن يصور فيها رؤيته لروح الفقيد، وتعرفه إلى صاحبها، والهتاف بأنه فتى النيل المفرد العلم ومطالبته للسامعين أن يغضوا من أبصارهم تلقاءه وأن يحيوه وأن يذودوا عن مبادئه، ثم حديثه للفقيد نيابة عن السامعين أنهم على العهد وأنهم أوفياء، وذلك في مشهد حي درامي مؤثر لابد أن قدرة حافظ المعروفة على الإلقاء زادته توهجاً وتأثيراً.

     وفي رثاء حافظ لعلي يوسف صاحب المؤيد يبدأ قصيدته بستة أبيات يقدم لنا فيها قلم الفقيد في صورة تفصيلية جيدة، يطلب فيها صيانة القلم، واستشارته عند النوائب، فقد كان لمصر سيفاً وعزاء، وكان يجلو عنها كرباً كثيرة ورزايا، وكانت له صولة أشد من صولة السيوف والرماح:

صونـــــوا يـــراع علي في متـــــــاحفـكم
               وشـــــاوروه لــدى الأرزاء والـنــــــــوب
واستـــــلهمـوه إذا ما الــرأي أخطـــــــأكم
               يــوم النضـــــال عن الأوطان والـنشــــب
قــــد كــــان سلوة مصر في مكــــــارهها
               وكان جمـــرة مصـــــر ســــاعة الغضب
في شـقـــــــه ومراميـــــــــه وريـقـتــــــه
               ما في الأساطيـــــل من بطش ومن عطب
كم رد عنـــــا وعيــــن الغـــــرب طامحة
               من الرزايـــــا وكـــم جــــلى من الكــرب
لــــــه صريــــر إذا جــــد الـنـــــــزال به
               ينسي الكماة صليل البيض والقضب[10]

     وفي رثائه لعلي أبي الفتوح يقدم لنا حافظ صورة مفصلة يلوم فيها القبر على ما فعل بوجه الفقيد المتهلل، ونضرته الجميلة، وشعره الفاحم:

يـا قبر ويحك ما صنعـ     ـــت بوجـــهه المتهـلل
عبســـت منـــه نضـرة     كانت ريـاض المجتلي
وعبثــــت منه بطـــرة     سوداء لما تنصل[11]

     وفي صورة أخرى يسائل حافظ القبر عن أنامل الفقيد، ويتوجع لما أصابها وكيف كانت تسيل سيل الجدول على الأوراق، وتحل المشكلات في الجدال، وتسعف طلاّب العون:

يا قبر هل لعــب البلى     بـلطــــاف تلك الأنمـل
لهفي عليها في الطرو     س تسيل سيل الجدول
لهفي عليها في الجــدا     ل تحل عقـد المشــكل
لهفي عليها للرجــــــا     ء وللعـفــــــــاة السؤل

     والصورتان مفصلتان تفصيلاً جزئياً ممدداً لا روعة فيه ولا جمال، وهو ما يجعل الأبيات أقرب إلى السطحية والتقريرية والنثرية.

     وفي رثائه للسلطان حسين كامل عام 1917م يصور لنا الكارثة بوفاة الفقيد تصويراً مفصلاً تقريرياً بارداً، يتساءل فيه عن هول الخسارة ويرجو أن يمن الله على الكنانة بلطف خفي يجبر ما انكسر، بسبب غياب السلطان الذي لم تكد تهنأ به النفوس ولم تكد تسعد به البلاد:

قــد تســـــاءلت يوم مات حسيــن     أفـقــــــدنـا بفقــــــــــده كــــل شي
أم تــرى يسعـــد الكنــــــانة باريـ     ـهـــا ويقضي لهــــا بـلطـف خفي
لم تـكـــد تـــدرك النفـــوس مراداً     في زمــــان المتـــــوج العــــلوي
لم تكــــد تبـــــلغ البـــلاد منــــاها     تحت أفياء عرشه الكسروي[12]

     ولما أراد أن يصور لنا كرم السلطان الفقيد جاءنا بصورة من أربعة أبيات، مفصلة تقريرية باردة يغني بيت واحد مكثف عنها:

لم يكـــــد ينعــــم الفقيـــد بعيــــش
               من نـــــداه وفيضه الحـــــــــاتمي
حجب الموت مطلع الجود يا مصـ
               ــــر فجـــودي له بدمـــــــع سخي
ومضى واهــب الألـــــوف فولــت
               يـــــوم ولى بشـــــــاشــة الأريحي
وقضى كافــــــل الـيتـــــامى فويل
               للـيتــــــامى من الزمـــــــان العتي

     وفي رثاء حافظ لباحثة البادية ملك حفني ناصف عام 1918م، يقدمها في صورة تقريرية باردة مفصلة جافة:

سادت على أهل القصـــو     ر وســـودت أهل الوبـــر
غربيــــة في عـلمهـــــــا     مرموقـــــة بين الأســـــر
شرقيــــة في طبـــــــعها     مخــــدورة بين الحجــــر
بينــــا تراهـــا في الطرو     س تخــط آيـــــات العبــر
وتريــك حكـــــمة نابــــه     عــرك الحـوادث واختبـر
فــــإذا بهــــا في مطبـــخ     تطهــــو الطعـام على قدر
وإذا بهــــا قعـــدت تخيـــ     ـــط وترتضي وخز الإبر
بالعــــــلم حلت صــدرها     لا بالـــــلآلئ والـــــــدرر
ذنــب المنـــية في اغتيـــا     ل شبـــــابها لا يغتـفــــــر
يــا ليــــتها عاشت لمصـ     ـر ولم تغيبها الحفر[13]

     وحين نتأمل في الصورة نجدها ممددة جداً، باردة تقريرية، كأنها قطعة من النثر، تتلاحق فيها التفاصيل والجزئيات دون خيال يروع أو تصوير يبهر.

     وحين أراد أن يصور ذكاء سعد زغلول ودهاءه الذي ينجو به من كيد الإنجليز حين يفاوضهم فيغلبهم، ولا يقع في شباكهم وفخاخهم، قدم لنا ذلك في صورة مفصلة، لكن فيها تنوعاً وحياة يسموان بها عن التقريرية والنثرية:

أي مــكر يـــدق عن ذهن سعــــد
               أي ختـــل يريــغ منه اضطرابــا
شـــــاع في نفســـه اليقين فوقــــا
               ه بــه الله عثـــــرة أو تبـــــــــابـا
عجـــزت حيـلة الشباك وكان الــ
               شرق للصيــــد مغنــماً مستطابــا
كلما أحكــــموا بأرضــك فخـــــاً
               من فخــــاخ الدهاء خابوا وخابــا
أو أطاروا الحمـــــام يوماً لزجـل
               قابلوا منك في السماء عقابا[14]

     فالصورة مفصلة حية، تتنوع عناصرها وتتكامل، فلا مكر يدق على عقله النابه، واليقين الذي يشيع في قلبه المؤمن يقيه المزالق، والشباك المنصوبة تعجز عن اصطياده، والفخاخ المزروعة تخيب ويخيب من وضعها، وهو عقاب كاسر منقض وكل طائر يأتيه إنما هو حمام زاجل لا قبل له به.

     وكما وفق حافظ في تصويره المفصل لذكاء سعد ودهائه، وفق أيضاً في تصويره المفصل لأخلاق عبدالخالق ثروت:

حلو التواضع لم يخـــــالط نفسه     زهو المدل يحـــاط بالإعجـــاب
حـــلو الأنـــاة إذا يسوس وعنده     أن التعجــــل آفــــة الأقطـــــاب
حـــلو السـكوت ككوكب متــألق     والليـــل ســـاج أسود الجلبـــاب
يهــــدي السبيل لسالكيه ولم يرد     شكراً ولم يعمل لنيل ثواب[15]

     ووفق أيضاً في تصويره لسيطرته على نفسه، ووزنه للأمور، ونفوذ ذهنه، ودقة حسابه، وحسن تأتيه:

متـــمكن من نفسه لم يعــــــره     قلق الضعيف وحيرة المرتـاب
يزن الأمور كأنما هو صيرف     يزن النضـــار بدقة وحســـاب
ويحل غامضها بثــــاقب ذهنه     حل الطبيب عناصر الأعشاب

     وحين أراد حافظ أن يصور عمق الفقيد، ودهاءه، ولبوسه لكل حال ما يناسبها حتى كاد يصبح لغزاً يحار إزاءه الناس، قدمه في صورة مفصلة دقيقة جداً وبديعة جداً وصفت معالم شخصيته بحيث لا تدري أمدحه فيها أم ذمه:

لله ســـــر في بنـــــــاية ثروت     سبحــــان باني هذه الأعصاب
إني ســـــألت العارفين فلم أفز     منـــهم على عرفــانهم بجـواب
هو مستقيــــم ملتــــــو هو لين     صلب هو الواعي هو المتغابي
هو حـول هو قــلب هو واضح     هو غامض هو قـاطع هو نابي
هو ذلك الطلسم من أعيا الحجا     حـــلاً ومات ولم يفــز بطلاب

     وفي صورة رائعة أخرى مفصلة، يصور لنا حافظ دهاء الفقيد وقدرته على مفاوضة الإنجليز والنجاة من مكايدهم ومخادعته لمن يفاوضه منهم وترويضه له، حتى بات أسطول الإنجليز خشباً متناثراً فوق العباب، وحتى صارت لمصر من ذكاء الفقيد حصون تحتمي بها، ولا غرابة فقد نال أقصى ما يقدر عليه مفاوض، واستل تصريح 28 فبراير 1922م من بين أشداق الأسد الإنجليزي المتحكم:

هو ما تراه مفاوضاً كيف انبرى     لـكبيـــــرهم بذكــــــائه الوثــاب
لم يـــــأت من باب لصيد دهـائه     إلا نجـــــا بدهــــــائه من بـــاب
ويظــل يرقبـــــه ويغـــزو كبره     بــليـــــــونة ولبـــــاقة وخــلاب
ويروضـــه حتى يرى أسطــوله     خشبـــاً تنـــاثر فوق ظهر عباب
ويرى صنوفــاً من ذكاء صففت     دون الحمى تعيي أسود الغـــاب
وأتى بأقصى ما ينال مفـــاوض     يسعى بغير كتـــــــائب وحراب
واستــل من أشداق آساد الشرى     علماً عضضن عليه بالأنيــــاب

     وفي رثائه لمحمد عاطف بركات يقدم حافظ صورة تفصيلية رائعة للفقيد، نراه فيها على الفراش، والسقم باد والجسم بال، إلا أن ذلك لم يضعف عزم الفقيد، فلم يستطع الداء الذي عصف بجسمه أن يصل إلى نفسه القوية فظلت في مداها الطليق لا تبالي:

كنت فوق الفراش والسقـــــم بــاد     لهــــف نفسي عليك والجسم بـال
لم يزحزحك عن نهوضك بالأعبا     ء داء يهــــد أســــــد الـدحـــــال
شغـلتـــــك الجهود والـداء يمشي     فيك مشي المحاذر المغتـــــــــال
لم يـدع منــــــك غير قـــوة نفـس     تتجـــــلى في هيكل من خيـــــال
عجــــز السـقم عن بـــلوغ مداها     فمضت في سبيلها لا تبالي[16]

     ويرزق حافظ التوفيق أحياناً فتتحول الصورة عنده إلى مشهد متكامل مؤثر، كقوله في البارودي حينما أراد أن يصور إقدامه، فأشار إلى شجاعته والأبطال تهرب، وحمله نفسه على المكروه، فإذا به ينسخ بموقفه في حرب ((كريت)) ما قالوا عن ((ذي قار)) لأن الفقيد نظم أعداءه في سلك الفناء كما اعتاد أن ينظم أشعاره، فالأعداء منظومة بسيفه، والكلمات منظومة بقوافيه:

كم وقفــــة لك والأبطال طــــــــائـرة
               والحرب تضرب صنديداً بصنـــــديد
تقـــول للنفـــس إن جاشت إليـــك بها
               هذا مجــــالك سودي فيـــه أو بيـــدي
نسخــــت يــوم كريد كــل ما نقــــلوا
               في يوم ذي قار عن هاني بن مسعـود
نظمت أعـــداك في سلك الفنـــــاء به
               على روي ولكـــن غير معهـــــــــود
كأنهـــم كــــلم والمــوت قـــــــــــافية
               يرمي بهـــــا عربي غير رعديد[17]

     ويقدم لنا مصطفى كامل في مشهد حي مؤثر يتكون من خمسة أبيات كأنها قطعة منسوجة، يصور لنا فيه عزم الفقيد الذي كان فوق جسمه فجار عليه، إذ لم يستطع أن يجاريه فهده الجهاد الذي كان مشغولاً به، وكان جهاده بالقلم يعجز الفرسان المجاهدين بالرماح، وعزم الفقيد يحمله على طلب العلياء لكن الموت يصرعه وهو لا يزال في ميدان السبق، فواهاً لمصر التي يفتك الموت بكل قائد يكون رجاء لها:

قد ضاق جسمك عن مداك فلم يطق     صبــــراً عليه وأنت شعــــــلة نـار
أودى به ذاك الجهـــــــــــــاد وهده     عــــزم يهــــــد جلائــل الأخطــار
لعبــــت يمينـك باليـــراع فأعجزت     لعـــــب الفـــــوارس بالقنا الخطار
وجريت للعليـــــاء تبغي شـــــأوها     فجـرى القضاء وأنت في المضمار
أو كـلما هز الرجــــــاء مهنـــــــداً     بـدرت إليه غوائــــل الأقـدار[18]

     وفي صورة حية أخرى تتحول إلى مشهد درامي مؤثر تتكامل عناصره ومقوماته يصور حافظ جنازة الفقيد، فهي كالحشر وهي أمارة على وفاء الشعوب لقادتها، والناس في الجنازة تسعون ألفاً محزونون باكون تخط دموعهم السطور على التراب، يشتد بهم البكاء والهتاف حيناً فتعلو أصواتهم كما تعلو أصوات الحجيج حول الكعبة المشرفة، ويخضعون حيناً آخر كأنهم يسمعون القرآن الكريم في مسجد، والشاعر يأخذه تيار الجنازة الدافق هنا وهناك، ويكاد يقضى عليه لو لم يلذ بالنعش:

شــــاهدت يوم الحشر يوم وفاتــه
               وعـلمت منــــه مراتـــــب الأقدار
ورأيت كيف تفي الشعوب رجالها
               حـــــق الولاء وواجب الإكبــــــار
تســــعون ألفاً حول نعشك خشــع
               يمشــــون تحت لوائـك السيــــــار
خطوا بأدمعهم على وجـه الثــرى
               للحــزن أسطــــاراً على أسطـــار
آنــــــاً يوالــون الضجيـــج كأنهم
               ركب الحجيــــج بكعـبــــة الزوار
وتخــــالهم آناً لفـرط خشـــوعهـم
               عند المصلى ينصتــــون لقــاري
غلب الخشـــوع عليهم فدموعهـم
               تجــــري بلا كلح ولا استنثــــــار
قد كنت تحت دموعهم وزفيــرهم
               ما بيـــن سيل دافـــــق وشـــــرار
أسعى فيأخذني اللهيــــــب فأنثـني
               فيصــــدني متــــــدفق الـتيـــــــار
لو لم ألـذ بالنعــــش أو بظـــــلاله
               لقضيـــــــت بين مراجل وبخــــار

     وفي صورة رائعة أخرى هي مشهد يتكون من أربعة أبيات، يصور لنا حافظ كيف سفرت الحرائر المخدرات غداة وداع الفقيد الذي كان أمة في نعش، وقد أمنت عيون الناظرين، لأن جلال الحزن منح الموقف قدسية كانت خير ستار:

كم ذات خدر يوم طاف بك الردى
               هتـــــكت عليك حرائر الأستــــار
سفـــرت تـــــودع أمة محــــمولة
               في النعـــش لا خبــراً من الأخبار
أمنت عيـون النـــــاظرين فمزقت
               وجه الخمـــار فلم تلذ بخــــــــمار
قد قــــــام ما بين العيون وبينـــها
               ستــــر من الأحـــزان والأكـــدار

     وفي صورة رائعة أخرى تتكون من مشهد درامي حزين في ثلاثة أبيات مترابطة محكمة، يقدم لنا حافظ صورة الفقيد الذي لف في علم البلاد، فهما علمان متحابان، أحسا بدنو الفراق فاشتد بهما الحزن فأخذا يتعانقان وهما على شفير هار:

أدرجت في العلم الذي أصفيـــته
               منــــك الوداد فكان خيــــر شعار
علمان من فوق الرؤوس كلاهما
               في طيــــه ســر من الأســــــرار
نــــــاداهما داعي الفراق فأمسيـا
               يتعــــانقـان على شفيـــــر هاري

     وفي رثاء حافظ لتولستوي يقدم لنا مشهداً متكاملاً طويلاً فيه ثلاث شخصيات، هي الشاعر والمرثي والمعري، وفي هذا المشهد يخاطب الشاعر تولستوي ويطلب منه أن يقف باحترام عند المعري حينما يلاقيه، وأن يسأله عما غاب عنه، يلي ذلك جواب المعري لتولستوي، وهو جواب كامل مفصل ذو طبيعة فلسفية بينة، يحيي المعري فيه تولستوي ويشيد به، ويقدم له تجربته، ويشير إلى ما بينهما من تشابه، وما حل بهما من أذى، يبدأ حافظ المشهد بقوله لتولستوي:

إذا زرت رهن المحبسيــــن بحفــــرة
               بهـــا الزهـــد ثــــــاو والذكاء ستيـــر
وأبصرت أنس الزهد في وحشة البلى
               وشــــاهدت وجه الشيـــخ وهو منيـــر
وأيقنـــت أن الـديـــــن لله وحـــــــــده
               وأن قبـــور الزاهديــــــن قصـــــــور
فقـــــف ثم ســــلم واحتشم إن شيخنــا
               مهيـــب على رغم الفنــــــاء وقـــــور
وســـــائـله عما غــــاب عنك فإنـــــه
               عليـــــم بأسـرار الحيــــــاة بصيـــــر
يخبـــــرك الأعمى وإن كنت مبصـراً
               بمـــا لم تخبــر أحرف وسطور[19]

     ثم ينتقل حافظ بالحوار من مخاطبته لتولستوي إلى المعري ليخاطب تولستوي بعد أن يمهد لذلك بقوله:

كأني بسمع الغيب أسمع كل ما     يجيـــــب به أستاذنــــا ويحيــر

     والأستاذ هو المعري الذي يأخذ بالحديث مع تولستوي، حتى نهاية القصيدة، مستغرقاً في ذلك واحداً وعشرين بيتاً:

يناديك أهلاً بالذي عاش عيشنا     ومات ولم يــدرج إليه غـــرور
قضيت حيـاة ملؤها البر والتقى     فأنت بأجــــر المتقين جديــــــر

     وتتوالى الأبيات يشيد فيها المعري بتولستوي ويصفه فيها بأنه زاهد وفيلسوف، ومحسن وأجير، وداعية إلى الإصلاح يحاول رفع الظلم، ويبين له أن الحياة خير وشر والصراع بينهما قائم، ولولا ذلك لما جاء الأنبياء ولا ظهر الأحرار.

     وينهي المعري حديثه إلى تولستوي بأبيات يخبره فيها أنه دعا إلى الإصلاح قبله فأخفق، وأنه اتهم بما ليس فيه من قبل، كما اتهم هو بما ليس فيه من بعد، وتنتهي القصيدة بهذا البيت المتشائم:

وما صد عن فعل الأذى قول مرسل     وما راع مفتـــــون الحيـــــاة نذيـــر

     وقصيدة حافظ في رثاء جرجي زيدان، تبدأ بصورة جميلة مؤثرة تتحول إلى مشهد متكامل يصور فيه الشاعر أساه وفجيعته بأحبائه، ويرثي نفسه رثاء هادئاً مريراً:

دعـــاني رفـــــاقي والقوافي مريضة
               وقد عقــــدت هوج الخطوب لســـاني
فجئــــت وبي ما يعـــــلم الله من أسى
               ومن كــــمد قد شفـــــني وبـــــــراني
مللــت وقــــــوفي بيـــنكم متلهفـــــــاً
               على راحل فــارقتـــــه فشجــــــــاني
أفي كل يوم يبضـــــع الحزن بضعــة
               من القـــــلب إني قد فقـــدت جنــــاني
كفـــــــاني ما لـقيـت من لوعة الأسى
               وما نـــــابني يوم الإمـــام كـــــــفاني
تفــــرق أحبـــــابي وأهلي وأخـــرت
               يــد الله يومي فانتــظـــــــــرت أواني
ومـــالي صديق إن عثــرت أقــــالني
               وما لي قريب إن قضيت بكاني[20]

     إن الصورة التي قدمها لنا حافظ وجعلها مطلع قصيدته صورة حزينة جداً، وهي صورة متكاملة الأجزاء والعناصر، تشكل بمجموعها مشهداً حياً، يدعوه فيه رفاقه للرثاء لكن الخطوب تعقل لسانه، ومع ذلك يأتي الشاعر محزوناً لمصابه في أصحابه واحداً بعد واحد، مالاً من وقوفه كل حين يرثيهم، متذكراً وفاة الإمام الذي كان له ذخراً، منتظراً وفاته، شاكياً سوء موقفه الذي جعله بلا صديق يقيله إذا عثر، ولا قريب يبكيه إذا مات.

     وهكذا تتجاوز الصورة الشعرية عند حافظ في بعض الأحيان حدود البلاغة المعتادة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز لتصبح صورة كلية شاملة، كأنها لوحة فنية مكتملة، ومن ذلك قصيدته الرائعة التي قالها على لسان والد عبدالحميد رمزي في رثاء ابنه، ففيها صورتان رائعتان محزنتان، تستحيل كل منهما إلى مشهد متكامل.

     في المشهد الأول يخاطب الوالد ابنه في تساؤل حزين، لماذا سلبه الدهر قوته أولاً وإياه ثانياً، وهو أحوج ما يكون إليه في مشيبه حيث تتطلع آماله إلى ابنه الشاب أحسن ما يكون رجاء وأفضل ما يكون قوة:

أو حيـــــن ابتـــــز دهــــري قــــــوتي
               وذوى عــودي ووافــــــاني مشيـــــبي
واكـتـــسى غصنـــــك من أوراقـــــــه
               تحت شــــمس العز والجــاه الخصيـب
ورجونــا فيــــك ما لـــــم يرجــــــــــه
               منجــــب الأشبــــال في الشبل النجيـب
ينتـــــويك الموت في شرخ الصبـــــــا
               والشباب الغض في البرد القشيب[21]

     وفي المشهد الآخر يطلب الشاعر من ابنه أن ينظر إليه ليراه في شر حال فهو ذاهل من فرط الحزن، يهزه الشوق إليه كلما رأى ترباً له، ويسأل عنه الأغصان والأقمار، غمر الحزن أقطار نفسه وأذابت لبه الخطوب السوداء فأنى له أن ينتفع بالعيش، ومتى كانت الأبدان تصلح بلا قلوب:

إيه يا عبد الحميـــــد انظــر إلى     والد جم الأسى بادي الشحـــوب
ذاهـل من فـــــرط ما حـــــل به     بيــن أترابك يمشي كالغـــريـب
كـــلما أبصــــر منـــــهم واحـداً     هزه الشـــوق إلى وجه الحبيـب
يســـأل الأغصان في إزهـارها     عن أخيها ذلك الغصن الرطيب
يســـأل الأقمــــار في إشراقـها     عن محياً غاب من قبل المغيب
غــــمر الحــــزن نواحي نفســه     وأذابت لبــــه سود الخطــــوب
فهـــو لا ينفعـــه العيـــش وهل     تصلح الأبدان من غير قــــلوب

     والقصيدة التي قالها حافظ في ذكرى الأستاذ الإمام عام 1922م وهي قصيدة تفيض حزناً ووفاء ولوعة، يبدؤها بمجموعة من الأبيات، تقدم لنا في صورة تفصيلية مشهداً رائعاً للإحساس بدنو الأجل، ووحشة القبر، والسكينة النفسية التي تجعل الشاعر لا يراع من الموت بعد أن ريع من فقد شبابه، فصار يحن إلى الثرى الذي يرجو أن يجد فيه مضجعاً أحن عليه من دنياه وشدائدها ورتابة عيشها:

آذنــت شـــمس حيــــاتي بمغيــــب
               ودنـــــا المنهـــل يا نفس فطيــــبي
إن من ســـــار إليه سيـــــــرنــــــا
               ورد الـراحـــة من بعد اللغــــــوب
قـــد مضى حفـــــني وهـذا يومنـــا
               يتـــــدانى فاستيثـــــــبي وأنيـــــبي
وارقـبيـــــه كــل يـــــــوم إنـمـــــا
               نحـــن في قبضة علام الغـيـــــوب
اذكـــري الموت لــــدى الـنـوم ولا
               تغـفـــــــلي ذكرته عند الهـبـــــوب
واذكــري الوحشـــة في القبــر فـلا
               مؤنـــس فيه سوى تقوى القـــــلوب
قدمي الخيـــر احتسابــــــاً فـكــــفى
               بعــض ما قدمت من تلك الذنــــوب
راعني فقـــد شبــــــــــابي وأنــــــا
               لا أراع الـيـــوم من فقـــد مشيـــبي
حن جنبــــاي إلى برد الـثــــــــرى
               حيــــث أنسى من عـــدو وحبـــيب
مضـــجع لا يشتـــــكي صـــــاحبه
               شــــــدة الــدهر ولا شد الخطــوب
لا ولا يســـــئـمه ذاك الــــــــــــذي
               يسئم الأحياء من عيش رتيب[22]

     ثم ينتقل حافظ إلى قصة الستة العجيبة فيقدمها لنا في مشهد مفصل مؤثر، يموتون فيه الواحد تلو الآخر، ولا يبقى في النهاية إلا حافظ الذي يشعر أن أجله قد دنا بعد أن مات الخمسة جميعهم قبله:

قد وقفنــــا ستـــــة نبــــكي على     عـــالم المشرق في يوم عصيب
وقــــف الخمسة قبــــلي فمضوا     هكذا قبــــــــلي وإني عن قريب
وردوا الحوض تبـــــاعاً فقضوا     باتفاق في منـايــــــاهم عجيـــب
أنــــا مذ بــــــانوا وولى عهدهم     حاضر اللوعة موصول النحيب
هدأت نيــــران حزني هـــــــدأة     وانطوى حفني فعــادت للشبوب

     وفي رثائه للشاعر إسماعيل صبري يقدم لنا حافظ مشهداً متكاملاً، يصور فيه كيف كان يزور الفقيد في داره، ويعرض عليه شعره، ويستفيد من توجيهاته له، حيث يصقل شعره ليكون أعلى وأروع، يضوع منه العبير، وتستاف منه العقول، ويختم المشهد بالإقرار بأستاذية الفقيد له ولغيره من الأدباء والشعراء الذين كانوا جداول صغيرة إلى جانب الفقيد الذي كان نهراً:

لقـــد كنـــت أغشـــــاه في داره     ونــــاديه فيها زهـــا وازدهــــر
وأعرض شعري على مســـمع     لطيــــف يحــس نبــو الوتــــــر
عــلى ســـمع باقعــــة حاضـــر     يميـــــز القديــــم من المبتــــكر
فيصقــــل لفظي صقل الجمــان     ويـكســـوه رقـــة أهل الحضــر
يرقـــرق فيه عبيـــر الجنـــــان     فـتستــــــاف منه النهى والفــكر
كـــذلك كــــان عليه الســــــلام     إمـــــاماً لكـــل أديب شعــــــــر
فكنــــا الجداول نروي الظمــاء     ظماء العقول وكان النهر[23]

     وفي قصيدة حافظ في رثاء أحمد حشمت وهي من أجمل مراثيه وأصدقها، يقدم لنا الشاعر مشهداً متكاملاً يصور فيه إحساسه الحاد بالألم، وإحباطه لما يراه من عقوق وغدر، وشعوره أنه وحيد لا عون له إزاء من يريدون هدمه، من صديق يواسيه أو جاه يحميه:

قد ضقت ذرعاً بالحيـاة ومن     يفقـــد أحبــــــته يضق ذرعا
وغدوت في بـلـــــد تكنــفني     فيه الشرور ولا أرى دفـعــا
كم من صديق لي يحــاسنني     وكـــأن تحــت ثيــــابه أفعى
يســعى فيخفي ليــــن ملمسه     عني مســــارب حية تســعى
كم حـــاولت هدمي معـاولهم     وأبى الإلـــــــه فزادني رفعا
أصبحت فرداً لا ينــاصرني     غيــر البيان وأصبحوا جمعا
ومنــــاهم أن يحطموا بيـدي     قـلمـــاً أثــــار عليهم النقعــا
ولـرب حــــر عـــابه نفـــــر     لا يصــــلحون لنعله شسعــا
من ذا يواسيــــني ويكــلأني     في هـذه الدنيــــا ومن يرعى
لا جــــــاه يحميــني ولا مدد     عني يرد الكيد والقذعا[24]

     وفي أحيان قليلة نجد عند حافظ الصورة المكثفة المركزة التي تومض وتروع وتوحي، بدون تفصيل ولا متابعة للجزئيات، فيغني قليلها عن الكثير. نجد ذلك في قوله يصور خشوعه على قبر الأستاذ الإمام:

وقفت عليه حاسر الرأس خاشعـــاً     كأني حيال القبر في عرفات[25]

     وهي صورة رائعة حية في بيت واحد لاغير، كما نجده في القصيدة نفسها في بيتين رائعين يصور فيهما خلو الساحة ممن يسد مسد الإمام وإيثار العيون للعمى بعد إخفاقها في أن ترى له مثيلاً:

مددنا إلى الأعلام بعدك راحنا     فردت إلى أعطافنـــا صفرات
وجالت بنا تبغي سواك عيوننا     فعــــدن وآثرن العمى شرقات

     ونلقى مثل هذا اللون من التصوير في رثائه لقاسم أمين، حيث يقدم لنا في بيتين اثنين صورة تزهو فيها القبور بقاسم ومن يماثله، وتعطل ربوع النيل بخلوها من أبنائها النابغين لأن القضاء لهم بالمرصاد فكلما أطلعت الكنانة رجلاً طاح به:

ما لي أرى الأجـــداث حـــــالية     وأرى ربــوع الـنيــل في عطـل
فـــإذا الكنـــــانة أطلعت رجــلاً     طاح القضاء بذلك الرجل[26]

     وفي رثاء سعد زغلول نعثر على بيت واحد يقدم لنا صورة مكثفة رائعة ندرك منها هول الجنازة وعظمة الفقيد:

خرجــــت أمة تشيــــع نعـشـــاً     قد حوى أمة وبحراً عبابا[27]

     وفي رثائه للسلطان حسين كامل نجد صورة غنية في بيت واحد، يجعل أخلاق المرثي كريح الزهر الذي سقاه مطر الربيع:

خلـــق مثــــلما نشقت أريج الز     هر جادته زورة الوسمي[28]

     ويفتتح حافظ قصيدته في رثاء عبدالخالق ثروت ببيتين رائعين، هما صورة مكثفة غنية، تجعل البلى يلعب بالداهية الذي كان يلاعب الألباب، ويمحو بشاشة فمه، ويطوي الردى الفقيد الداهية الذي كان كعمرو بن العاص في دهائه، ويرمي شهاب دهائه بشهاب راصد يأتي عليه:

لعـــب البـــلى بملاعب الألبـــــاب     ومحــا بشـــــاشة فـــمك الخـــلاب
وطوى الردى عمرو الكنانة غافلاً     ورمى شهاب دهائه بشـهاب[29]

     وفي صورة أخرى في بيتين يصور لنا ذكاء الفقيد الذي يدبر في الخفاء كأنه قدر محجوب، وما يلبث أن يفاجئ الناس بالعجب العجاب:

رأس يدبــــر في الخفــــاء كأنـه     قـدر يدبــــر من وراء حجـــاب
حتى إذا أرضى النهى وتناسقت     آيـــاته راع الورى بعجـــــــاب

     وفي بيت واحد يصور حافظ قدرة الفقيد على الاحتمال وتكلف البشر، في الوقت الذي يعصف به المرض فالوجه بين ابتسام وكدر:

متبسم وعلى معارف وجهه     آيـات ما يلقى من الأوصاب

     وعلى كل حال، فالصورة عند حافظ سواء أكانت جزئية بسيطة أم كلية مركبة، سهلة قريبة كشخصيته السهلة القريبة، تدرك من أيسر السبل، يقل فيها الإبداع الذي يأتي بالخيال المجنح، والصورة المكثفة الرائعة الآسرة، ويشيع أحياناً فيها التفصيل الممل الذي يكاد يلحقها بالنثرية والتقريرية، وربما أفلت بين الحين والآخر فوفق توفيقاً بعيداً في صور ذات مشاهد رائعة أو أبيات ذات صور مكثفة غنية توحي وتومض، لكن ذلك قليل.

     يقول الدكتور عبد الحميد سند الجندي وهو يتحدث عن صور حافظ وخياله: ((وعلى أية حال فقد قصر خياله عن أن يحلق عالياً في السماء فيزجي إلى الفن صوراً رائعة، ونحن لا ننكر أن له صوراً جميلة ولكنها قليلة في شعره ... وما أشك في أن إحساس حافظ بقصور خياله كان من الأمور التي دفعته إلى أن يعتمد في تعبيره على متانة الأسلوب وجودة العبارة أكثر من اعتماده على الابتداع، أو الخيال.

     ويرجع نضوب خيال حافظ وضحالته إلى أمور ثلاثة:

- الأول: أن ثقافته الغربية كانت ضئيلة تافهة، ولو قد اتصل بها اتصالاً قوياً لنضح ذلك على شعره، ولرأينا له الخيال المجنح الذي يأتي بالرائع من الصور.

- الثاني: أنه لم يعش في أحضان النعمة كما عاش شوقي، فلم يقع ناظراه على رائع المشاهد وفاخر الرياش ونفيس الآنية، ولاشك أن هذه الحياة المترفة كان لها أثرها البين في خيال شوقي واتجاهاته الفنية.

- الثالث: أنه كان قليل الأسفار والرحلات، فلا نعرف عنه أنه بارح الديار المصرية إلا قليلاً، ولم يجاوز في رحلاته الشرق العربي، اللهم إلا رحلة واحدة يتيمة سافر فيها إلى أوربا سنة 1923م، وزار إيطاليا وفرنسا، وقد كانت قلة رحلاته سبباً في ضيق خياله، لأنه لم يشهد مناظر كثيرة متباينة ولم ير بيئات مختلفة للطبيعة والناس))[30].

والحقيقة أن الدكتور الجندي وفق في تفسيره هذا، ووضع يده على التعليل المنطقي لما نجده في خيال حافظ من ضعف، وفي ملكته التصويرية من خمود، على أنه يمكن أن يضاف إلى هذه الأسباب الثلاثة سبب رابع هو خطابية حافظ التي جعلت جهده الأساسي يتجه نحو الجمهور، يريد إرضاءه وانتزاع إعجابه وقد نجح فيما أراد، لكن هذا النجاح جار على صوره لحساب لغته وأسلوبه وقد لمس هذا الأمر الدكتور عبدالحميد سند الجندي في موقع آخر من كتابه حيث قال: ((وليس من شك في أن حافظاً وأضرابه من الشعراء الذين تهافتوا على إرضاء الجماهير قد أصابوا الفن الخالص في الصميم ... ولا يرتفع شعر مهما كان شأنه يكون هدفه تصفيق الجماهير ليس غير))[31].

     وحين انتقد الدكتور أحمد هيكل الآثار السلبية لظاهرة شعر المناسبات عدد من هذه الآثار ((تشكل أسلوب الشعر بما يلائم المحافل ومجامع الجماهير، ومواقف خطابهم، ومن هنا كثر عند الشعراء المحافظين التعبير المباشر الذي يجعل الشعر أحياناً قريباً من النثر فيفسد عليه كثيراً من قيمه الفنية))[32]، ولا شك أن حافظ إبراهيم وهو من أبرز شعراء المحافل، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق قد وقع في هذا العيب الذي يذكره الدكتور هيكل، وهو عيب جار – فيما جار – على صور حافظ وأخيلته.

     إن من قدرة الشاعر الموهوب أن يأتينا بالصورة التي يغني قليلها بما يوحي ويفتح آفاق التخيل لدى المتلقي، بعيداً عن السرد التفصيلي الجزئي الكثير الذي يدفع إلى الملل. يقول الدكتور طه وادي: ((والتفاصيل السردية الكثيرة لا تلائم جوهر التجربة الشعرية، فالشعر لا يحتمل الثرثرة مطلقاً))[33]. ومن المؤسف أن صور حافظ تؤول أحياناً إلى سرد تقريري ممل يفسد على المتلقي لذة التواصل معه.

----------------------------------
[1] الديوان، ص 447.
[2] الديوان، ص 449 .
[3] الديوان، ص 453.
[4] الديوان، ص 458.
[5] الديوان، ص 463.
[6] الديوان، ص 465.
[7] الديوان، ص 532.
[8] الديوان، ص 447.
[9] الديوان، ص 474.
[10] الديوان، ص 486.
[11] الديوان، ص 490.
[12] الديوان، ص 504.
[13] الديوان، ص 507.
[14] الديوان، ص 532.
[15] الديوان، ص 544.
[16] الديوان، ص 576.
[17] الديوان، ص 453.
[18] الديوان، ص 465.
[19] الديوان، ص 478.
[20] الديوان، ص 497.
[21] الديوان، ص 514.
[22] الديوان، ص 517 .
[23] الديوان، ص 522.
[24] الديوان، ص 580.
[25] الديوان، ص 458.
[26] الديوان، ص 470.
[27] الديوان، ص 532.
[28] الديوان، ص 504.
[29] الديوان، ص 544.
[30] حافظ إبراهيم شاعر النيل، ص 122 – 123.
[31] المرجع السابق، ص 99 .
[32] تطور الأدب الحديث في مصر، ص 144.
[33] جماليات القصيدة المعاصرة، دار المعارف، القاهرة، ط 2، 1989م، ص 68.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة