الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 16 - ملحق: مراثٍ من نوع آخر


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

16- ملحق: مراثٍ من نوع آخر:


     ثمة نوع من الشعر لا ينتمي إلى شعر الرثاء الذي يتخذ من رثاء الأفراد موضوعاً له، لكنه يتصل به اتصالاً وثيقاً، فهو لا يبكي أفراداً بأعيانهم، ولكنه يبكي كوارث عامة، كزلزال، أو حريق، أو سقوط دولة، أو خلع حاكم، أو فاجعة وطنية، وما إلى ذلك.

     وفي شعر حافظ مجموعة من القصائد تنتمي إلى هذا اللون من الشعر، يحسن الوقوف عندها لاتصالها الوثيق بالرثاء.

     لحافظ قصيدة جيدة قالها في حريق ميت غمر، وهو حريق هائل شب في ميت غمر عام 1902م ودام أسبوعاً من الزمن وهو ما جعل الكارثة أكبر في الأرواح والأشياء وقد تشكلت لجنة لمساعدة المدينة المنكوبة ونشطت الصحف والناس في ذلك نشاطاً محموداً، وكان لحافظ دوره المشكور في هذه الكارثة حيث نظم قصيدته التي مطلعها:

ســـــائلوا الليل عنهم والنهــــارا     كيف باتت نساؤهم والعذارى[1]

     وهي قصيدة جيدة، فيها صدق العاطفة، وفيها الإهابة المحمودة بالنجدة، وفيها انحياز إلى هموم الفقراء والمنكوبين، وفيها تصوير حي مؤثر، يقول حافظ:

كيف أمسى رضيــعهم فقــد الأم     وكيف اصطلى مع الـقـــوم نارا
كيف طاح العجـــوز تحت جدار     يتــــداعى وأسقـــف تتجــــارى
رب إن القضــــــاء أنحى عليهم     فاكشف الكرب واحجب الأقدارا
ومر النــــــار أن تـكــــف أذاها     ومر الغيـث أن يسيــــل انهمارا

     ويوفق حافظ توفيقاً بعيداً في تصوير النار الجائحة المدمرة:

أشعـــلت فحمة الدياجي فباتت     تمــلأ الأرض والسماء شـرارا
غشيتهم والنحس يجري يمينـاً     ورمتهم والبؤس يجري يسـارا
فأغــــارت وأوجه القوم بيـض     ثم غـــارت وقد كستـــهم قـارا
أكــــلت دورهم فلما استقــــلت     لم تغـــادر صغارهم والكبــارا
أخرجتـــهم من الديـــار عـراة     حـــذر الموت يطلبون الفـرارا
يلبســـون الظـــلام حتى إذا ما     أقبـــل الصبـــح يلبسون النهارا

     ويذكر الأغنياء القادرين بواجبهم إزاء المنكوبين:

أيها الرافلون في حلل الوشـ     ـي يجرون للذيول افتخـــارا
إن فوق العراء قوماً جيــاعاً     يتـــوارون ذلة وانكســـــارا

     ولحافظ قصيدة جميلة عنوانها ((حسرة على فائت)) وفق فيها توفيقاً بعيداً، يبكي فيها أمته ويبكي فيها نفسه في حزن مرير ولوعة بادية:

لم يبـــــق شيء من الدنيا بأيدينا     إلا بقيـــة دمـــع في مآقينـــــــــا
كنـــا قلادة جيد الدهر فانفرطت     وفي يمين العــلا كنا ريـاحينــــا
كانت منـــازلنا في العز شـامخة     لا تشرق الشمس إلا في مغانينـا
وكان أقصى منى نهر المجرة لو     من مائه مزجت أقــــداح ساقينـا
والشـــهب لو أنها كانت مسخرة     لرجم من كان يبدو من أعادينـــا
فلم نزل وصروف الدهر ترمقنـا     شـــزراً وتخدعنا الدنيا وتلهينـــا
حتى غدونــــا ولا جاه ولا نشب     ولا صديق ولا خل يواسينـا[2]

     والقصيدة قطعة دامعة يتداخل فيها الحزنان الخاص والعام، وتغمرها عاطفة صادقة كسيرة والموسيقى بحراً وقافية رائعة، ولعل من دواعي توفيق الشاعر في هذه القطعة أنه قالها عام 1902م أيام بؤسه وشقائه.

     ولحافظ قصيدة دامعة هي ((إلى الإمبراطورة أوجيني)) وفي القصيدة طرافة وغرابة، وأمرها أن الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث وفدت إلى مصر عام 1869م، للمشاركة في احتفال افتتاح القناة بدعوة من الخديوي إسماعيل الذي أقام حفلاً رائعاً كانت هي إحدى نجومه الوضاء، ثم دالت دولتها بعد وفاة زوجها فهجرت فرنسا، وفي عام 1905م جاءت إلى بورسعيد لتنزل متنكرة في أحد فنادقها، فأحزن أمرها الشاعر، فنظم هذه القصيدة مواسياً إياها، وباكياً مضيفها الخديوي إسماعيل الذي عصف به الزمان:

أيـن يوم القنــــال يــا ربة الـتــــا
               ج ويـــا شمس ذلك المهرجـــــان
أين مجري القنـــال أين مميت الـ
               ــمال أين العـزيـــــز ذو السلطان
أين هارون مصر أين أبو الأشـــ
               ـــبـــال رب القصور رب القيـان
أيـــن ليـــث الجزيــــرة ابن علي
               واهب الألـــف مكـرم الضيفـــان
أين ذا القصر في الجزيرة تجري
               فيــه أرزاقنـــــا وتحبـــو الأماني
فيــه للنحس كوكب مسرع السيــ
               ـــر وللسعــــد كوكب متـــــواني
قد جـــرى النيــــل تحته بخشـوع
               وانـكســــار وهابـــــه الـفتيـــــان
كنت بالأمس جنة الحور يا قصــ
               ـــر فأصبحـــت جنــة الحيــــوان
إن أطافت بـك الخطوب فهــــذي
               سنـــة الكون من قديـــم الزمـــان
رب بـــان نـــــأى ورب بنــــــاء
               أسلمتـــه النــوى إلى غير بــــاني
تلك حـــال الإيوان يا ربة التــــــا
               ج فما حــــال صــاحب الإيـــوان
قـد طواه الردى ولو كــــان حيــاً
               لمشى في ركـــــابك الثـقـــــــلان
إن يكــن غــــاب عن جبينك تـاج
               كان بالغــــرب أشرف التيجــــان
فـلقــــد زانــك المشيـــــب بتــاج
               لا يدانيــه في الجــــــــلال مداني
كنت بالأمس ضيفــــة عنــد ملك
               فانزلي اليــــوم ضيفــــة في خان
واعذرينا على القصور، كلانــــا
               غيــــرته طوارئ الحدثــــان[3]

     والقصيدة جيدة حزينة طريفة، فيها رثاء للمضيف المنكوب، ومواساة للضيفة الزائرة، ونفس فلسفي موات للعزاء.

     ولحافظ قصيدة شهيرة في وصف ((زلزال مسينا)) وهي مدينة إيطالية أصابها زلزال عام 1908م مطلعها:

نبـئــــــاني إن كنتـــما تعــــلمان     ما دهى الكون أيها الفرقدان[4]

     وهي قصيدة طويلة تقع في تسعة وخمسين بيتاً، صور فيها الزلزال الذي عصف بالمدينة الإيطالية وصفاً فيه مبالغات غريبة، لكن فيها لفتات موفقة، وعاطفة حية وتصويراً مؤثراً كقوله:

رب طفل قد ساخ في باطن الأر     ض ينـــــادي أمي أبي أدركاني
وفتـــاة هيفاء تشـوى على الجمـ     ـــر تعــــاني من حره ما تعـاني
وأب ذاهـــل إلى النـــــار يمشي     مستميتــاً تمتـــد منه الـيـــــدان
بــاحثــــاً عن بنـــــــاته وبنيــــه     مسرع الخطو مستطير الجنـان
تــأكل النــار منه لا هو نـــــــاج     من لظـاها ولا اللظى عنه واني

     وفي القصيدة بيتان وفق حافظ فيهما توفيقاً بعيداً، في الأول منهما يجعل المدينة المنكوبة صبية حسناء يقصف الموت عمرها، وفي الثاني منهما يأتي بأربعة أفعال متوالية تصور السرعة البالغة للزلزال الذي دمرها:

ما لمسين عوجلت في صباها     ودعــــاها من الردى داعيـان
خسفت ثم أغرقت ثم بــــادت     قضي الأمر كــــله في ثواني

     ولحافظ قصيدة في السلطان عبدالحميد يوم خلعه، عنوانها ((الانقلاب العثماني)) جديرة بأن يتوقف عندها وعند صاحبها الدارس وقفة متأنية.

     كان السلطان عبد الحميد شخصية غير عادية، حكمت الدولة العثمانية فترة طويلة، في ظروف محلية وعالمية في غاية التعقيد، وكان لها دور إسلامي بارز جداً جعلها عند كثير من المسلمين الأمل المنقذ والخليفة الحامي. وفي عام 1909م عزله الجيش العثماني عن الحكم ليتولى من بعده محمد رشاد، وكان حافظ قد هنأ عبدالحميد عام 1901م بقصيدة وهنأه أيضاً عام 1908م بقصيدة أخرى.

     وفي القصيدتين ثناء كبير على السلطان، وإشادة به، ودعاء له، ومهاجمة لخصومه، لذلك لا غرابة أن نجد في قصيدته التي قالها يوم خلعه، حزناً على السلطان المعزول، ورثاء له، وإشفاقاً عليه، وإقراراً بإنجازاته، ويقيناً أنه خالد وهو في قيوده كما كان خالداً وهو في تاجه. يقول حافظ:

لا رعى الله عهـــدها من جـدود     كيف أمسيت يا ابن عبد المجيـد
أنت عبد الحميد والتــــاج معقـو     د وعبد الحميـــد رهن القيــــود
خـــالد أنت رغم أنف الليــــالي     في كبـــار الرجال أهل الخــلود
لك في الدهـر والكـــمال محـال     صفحـــات ما بين بيض وسـود
حاولوا طمس ما صنعت وودوا     لو يطيـــقون طمس خط الحديد
ذاك عبد الحميد ذخـرك عند الله     بـــاق إن ضاع عند العبيـد[5]

     ويدعو حافظ آسري السلطان إلى الرفق به ومراقبة الله تعالى فيه، ويذكرهم بضعفه وشيخوخته وبمكانته الهائلة التي جعلت المسلمين يدعون له ثلث قرن من الزمان على المنابر، فكان اسمه قريناً لاسم الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم:

أكرموه وراقبوا الله في الشـيــ     ــــخ ولا ترهقوه بالتهديـــــــد
لا تخــافوا أذاه فــالشيـــخ هاو     ليس فيــه بقيــــة للصعــــــود
ولي الأمر ثــلث قرن ينــادي     باسمه كل مسلم في الوجـــود
كلما قـــامت الصلاة دعا الـدا     عي لعبـــد الحميد بالتــــــأييد
فاسم هذا الأسير قد كان مقرو     نــاً بذكر الرسول والتوحيـــد

     ومع ما في هذه القصيدة من حزن واضح وعاطفة صادقة، يأبى حافظ إلا أن يكدرها بما ينتقص من السلطان الذي يشيد به فيصفه بالظلم، ويصف فرحة الناس بعزله، ويصف مخاوفه ممن حوله، ويتساءل عن صحة ما نسب إليه من البكاء يوم العزل ومن العبث بالدين. ويعود حافظ إلى السلطان المخلوع مرة ثانية في قصيدته ((عيد الدستور العثماني)) لينال منه نيلاً مستغرباً فيقول عنه:

ولم يغن عن عبد الحميــــد دهـــاؤه     ولا عصمت عبد الحميـد تجــــاربه
ولم يحمه حصـــن ولم ترم دونــــه     دنـــانيره والأمر بالأمر حــــــازبه
ولم يخفه عن أعين الحق مخـــــدع     ولا نفق في الأرض جـــم مســاربه
أقـــام عليه مهلــكاً عنــــد مهـــــلك     يمر بـــه روح الصبـــــا فيواثبـــــه
تحــــاماه حتى الوهم خوف اغتيـاله     فلــــو مسه طيــــف لدارت لوالبـــه
وأسرف في حب الحيـاة فحـــــاطها     بسور من الأهوال لم ينــــج راكبــه
ســـلوه أأغنت عنه في يوم خلعـــــه     عجــــــائبه أو أحــــرزته غرائبــــه
وأصبـــح في منفاه والجيـــش دونـه     يغــــالب ذكـــرى ملكه وتغــــــالبـه
ينـــاديه صوت الحق ذق ما أذقتــهم     فكـــل امرئ رهن بمــــا هو كاسبـه
ودع عنك ما أملت إن كنت حــازماً     فــــلم يبــــق للآمال فضل تجـــاذبه
مضى عهد الاستبداد واندك صرحه     وولت أفـــــاعيه وماتت عقاربه[6]

     والحقيقة أن هذا التناقض الحاد في موقف حافظ يؤخذ عليه، وهو زلة ليس له أن يقع فيها، لا تليق بوفائه الذي عرف  عنه، ولعل مردها إلى عدم تعمقه في الأمور، وإلى رغبته في الحصول على رضا الجماهير، وعلى ممالأته لنفوذ القادم الجديد الذي ولي عرش السلطنة.

     وحين قامت الحرب العالمية الأولى شكا حافظ من العلم الذي صار سبباً للدمار والخراب، فصار نكبة على الإنسانية تجعل عهد الجاهلية أرفق منه، وذلك في قصيدة بعنوان ((الحرب العظمى)) يقول فيها:

لاهم إن الغرب أصبح شعـلة     من هولها أم الصواعق تفرق
العلم يذكي نارها وتثـــــيرها     مدنية خرقـــــاء لا تترفـــــق
إن كان عهد العلم هذا شأنــه     فينا فعهد الجاهلية أرفـق[7]

     ولحافظ قطعة جميلة حزينة مؤثرة عنوانها ((أيا صوفيا)) قالها يوم احتل الحلفاء إستامبول عقب الحرب العظمى، هي في حقيقتها بكاء دين مغلوب ودولة زائلة، وأيا صوفيا هي أمارة ذلك وعلامته:

أيـــا صوفيـــا حان التفـــرق فاذكري
               عهـــود كــرام فيـــــك صلوا وسلموا
إذا عدت يوماً للصـــليـب وأهــــــــله
               وحـــلى نواحيــــك المسيـــح ومريـم
ودقــــت نواقـيــــس وقـــــــام مزمـر
               من الــروم في محـــــرابه يتــــــرنـم
فــلا تنــــكري عهـــد المـــــــآذن إنه
               على الله من عهـــد النواقيــــس أكرم
تبــــاركت، بيت القـــدس جذلان آمن
               ولا يأمن البيــــت العتيــــق المحــرم
أيرضيـــك أن تغشى سنــــابك خيلهم
               حـمــــاك وأن يمنى الحطيم وزمــزم
وكـيـــف يــــــذل المسـلمون وبيــنهم
               كتـــــابك يتـــــلى كل يـــوم ويكـــرم
نبيـــــك محـــزون وبيتـــــك مطـرق
               حيــــاء وأنصـــــار الحقيـــــــقة نوم
عصينـــــــا وخالفنـا فعــــاقبت عادلاً
               وحكمت فينا اليوم من ليس يرحم[8]

     والقصيدة تناجي أيا صوفيا وتذكرها بأيامها الإسلامية الغراء، وتدعوها أن تتذكر هذه الأيام إذا عادت كنيسة لأن الإسلام أكرم من النصرانية. والقصيدة تناجي الله جل وعلا أن يلطف بالمسلمين الذين يتهدد الخطر مقدساتهم خلافاً لمقدسات النصرانية الآمنة، وتنتهي بوصف ضعف المسلمين وعجزهم لأنهم خالفوا دينهم فعاقبهم الله بأن سلط عليهم من لا يرحمهم. والقصيدة – على قصرها – مؤثرة باكية، حارة العاطفة، تجيش بالصدق والحزن والمرارة، تبكي ديناً فرط أصحابه فيه، ودولة هوت بعد أمجاد عظيمة.

--------------------
[1] الديوان، ص 250.
[2] الديوان، ص 433.
[3] الديوان، ص 328.
[4] الديوان، ص 215.
[5] الديوان، ص 357.
[6] الديوان، ص 362.
[7] الديوان، ص 400.
[8] الديوان، ص 402.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة