الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 01 - البارودي وشعره


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

01- البارودي وشعره:


     ولد محمود سامي البارودي عام 1839م، لأسرة شركسية أماً وأباً، هيأت له مجموعة من العوامل الأساسية التي وضعت عليه بصماتها المميزة في سائر مراحل حياته العاصفة، وأول هذه العوامل: خلق الجندية التي أشبعته بمعاني الشجاعة والإقدام والطموح والإباء، وهو ما دفعه إلى أن يكون سياسياً مغامراً وفارساً تمثل خلاصة أخلاق الفرسان النبيلة المتوارثة منذ أيام الجاهلية.

     والعامل الثاني: قدر طيب من الثراء جعله يعيش ناعماً رخي البال، يعينه ما بيده على ما جبل عليه من تعفف وإباء، ويعينه أيضاً على الانكباب على دراسة دواوين الشعر العربي الأولى واستيعابها، ويعينه أيضاً على توثيق صلته بكبار رجال الدولة وشخصيات المجتمع وهو ما زاد من طموحه وثقته بنفسه.

     والعامل الثالث: أن أسرة البارودي كانت تجل الثقافة الإسلامية والعربية، وتحرص على أن ينشأ ابنها على قدر صالح منها، ومن هنا أحضرت له أمه التي كفلته بعد أبيه من يعلمه القرآن الكريم والتاريخ والحساب والشعر والفقه والتفسير، وهو ما كان له خير زاد في تكوين شاعريته وتلوينها، بل وفي توجهه السياسي، فقد أحب الشاعر الإسلام حباً جماً، كما أحب العرب باعتبارهم حملة رسالته الأوائل، وهو حب جعله يخلص أشد الإخلاص لمصر وللمصريين، بل ويقف معهم ضد أبناء عمومته من الشراكسة الذين كانوا يشعرون أنهم أفضل من المصريين بسبب التشابه والتلاقي بينهم وبين المماليك والأسرة العلوية.

     دخل البارودي المدرسة الحربية عام 1850م، ليتخرج منها عام 1854م لكنه ما يلبث أن يعمل في وزارة الخارجية في إستامبول، وكان هذا نعمة عليه، إذ وثق صلته باللغتين التركية والفارسية، فضلاً عن دواوين الشعر العربي الذي كانت كثير من مخطوطاته تقبع في مكتبات إستامبول ليحفظ منها ما يحفظ، وينسخ منها ما ينسخ فتتكون له مكتبة عامرة.

     وشاء القدر الذي أراد أن يجمع له بين الفروسية والشعر، أن يرده ثانية إلى الجندية، وذلك حين ذهب الخديوي إسماعيل إلى إستامبول عام 1863م ليشكر للسلطان العثماني توليته على مصر، حيث انتهز البارودي الفرصة والتحق بحاشية الخديوي، وعاد إلى مصر وهو في ريعان شبابه، تحدوه مطامح كبيرة وطاقة نفسية وبدنية، وموهبة أصيلة، رأت أن مكانها المواتي لغراسها هو مصر.

     ويترقى البارودي في سلم الجندية إلى مقدم فعقيد فعميد، ويذهب في زيارة عسكرية إلى بريطانيا وفرنسا تزيد من خبرته العسكرية، وتطلعه على ما في هذين البلدين من صور ومناظر جميلة.

     وحين قامت في جزيرة كريت عام 1865م ثورة ضد الحكم العثماني، أرسلت مصر حملة تعين إستامبول على قمعها، كان البارودي أحد قادتها اللامعين، وأبلى في الحرب بلاء حسناً، وهو ما جعل فروسيته على محك الامتحان العملي فنجح في هذا الامتحان فكانت فروسيته فروسية حقيقية، وليست مجرد أشعار تنظم وأحاسيس تتوهج.

     ويعود البارودي إلى مصر محفوفاً بالمجد، فيلحقه الخديوي إسماعيل بحاشيته، ثم يجعله كبير الياوران لابنه توفيق، ثم يصطفيه مجدداً سكرتيراً خاصاً به عام 1875م، ويحمله خلال ذلك رسالتين إلى الدولة العثمانية.

     ويبدو أن الشاعر ضاق بعمله في حاشية إسماعيل، ورغب في العودة إلى الجيش فكان له ذلك عام 1877م، حيث تستنجد الدولة العثمانية بمصر في حربها مع روسيا فتنجدها بحملة كان البارودي أحد قادتها فأبلى فيها بلاء كبيراً جعل الأتراك ينعمون عليه برتبة أمير اللواء ووسام شرف رفيع.

     وتتوثق صلة البارودي بجمال الدين الأفغاني الذي نزل مصر عام 1871م، والذي ترك فيها آثاراً خطيرة جداً، يمكن أن يعد بها الأب الروحي لثورة عرابي عام 1882م وهي الثورة التي كانت لها في حياة مصر عامة، وحياة البارودي خاصة، أعمق الآثار، ويظهر هذا بوضوح منذ عودة البارودي من الحرب الروسية العثمانية إلى مصر عام 1878م تسبقه أخبار شجاعته ليرقى إلى رتبة اللواء، وليبدأ دوره في الأحداث يصعد إلى قمته، فيعين مديراً للشرقية، ثم محافظاً للقاهرة، ثم وزيراً للأوقاف والمعارف للمرة الأولى في وزارة محمد شريف التي شكلها عام 1879م وهي السنة التي خلع فيها الخديوي إسماعيل عن عرش مصر ونصب ابنه محمد توفيق مكانه.

     ويتسارع إيقاع الأحداث التي تدفع بالبارودي وعرابي إلى مركز الضوء والتأثير، حيث يتقدم عرابي وصحبه بمذكرة إلى الحكومة في 17/ 1/ 1881م مطالبين فيها بعزل عثمان رفقي وزير الحربية والبحرية وإصدار قوانين تحقق العدل والمساواة بين ضباط الجيش، المصريين والشراكسة، فيقصى عثمان رفقي عن الوزارة التي تؤول إلى البارودي. على أن الخديوي توفيق لم يلبث أن يقصي البارودي، الذي يفيء إلى شيء من العزلة والترقب في ضيعة له في المنصورة.

     وتتطور الأحداث لنرى البارودي وزيراً للحربية والبحرية في وزارة محمد شريف الثانية، ثم تتطور لنرى البارودي رئيساً للوزراء عام 1882م، حيث يعهد بوزارة الحربية والبحرية لعرابي. لكنه لا يلبث أن يستقيل عقب إنذار القنصلين البريطاني والفرنسي في 25/ 5/ 1882م الذي طالبا فيه الحكومة بإقالة الوزارة وإبعاد عرابي، وهو الإنذار الذي رفضته حكومة البارودي وقبله الخديوي وهو ما حمل البارودي على الاستقالة فاستقال، وظل عرابي يصرف شؤون وزارته ويعد البلاد لمقاومة الغزو البريطاني الذي لاحت بوادره.

     وفي اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1882م يبدأ الغزو البريطاني لمصر باحتلال الإسكندرية، ويقاوم عرابي الغزاة ويعينه البارودي إذ يدعوه للقتال في معركة القصاصين، وينتهي الأمر بمأساة عامة وخاصة، عامة تقع فيها مصر في قبضة الاحتلال البريطاني، وخاصة يسجن فيها البارودي وعرابي ورفاقهما، ثم ينفون إلى سيلان، حيث تحملهم الباخرة من السويس في 28/ 12/ 1882م لتصل بهم إلى كولومبو في 10/ 1/ 1883م.

    ويظل البارودي في منفاه سبعة عشر عاماً، يتجرع غصص الأحزان والغربة والندم، وتجتمع هذه المصائب عليه مع مصيبة المرض ومصيبة الكدر الذي أصابه من تلاوم الأصدقاء، فيرحل عام 1890م إلى وسط جزيرة سيلان ويقيم في كندي في منطقة جبلية جميلة، ويتزوج ابنة أحد رفاقه في المحنة يعقوب سامي.

     ويشتد المرض بعينيه فيلح عليه الأطباء أن يقدم التماساً إلى الخديوي عباس حلمي للعفو عنه، فيستجيب له الخديوي الشاب الذي كانت بداية حكمه بداية واعدة جداً، فيعود البارودي إلى وطنه عام 1900م، وترد عليه أملاكه المصادرة، لكنه لم يلبث أن يفقد بصره نهائياً، فيمضي السنوات الأربع التي بقيت له من عمره أعمى حتى يموت في 15/12/1904م بعد أن فرض نفسه على الأحداث في مصر، وبعد أن احتل لنفسه مكانة متميزة في الشعر العربي، جعلت منه أحد أعلامه الكبار، وأحد رواده المجددين الذين غيروا في طريقه وحولوا في مجراه.

     وكما يظهر في الساسة والقادة والدعاة من يكون نقطة تحول، يظهر في الشعر من يكون نقطة تحول، والبارودي واحد من هؤلاء فهو نموذج تكاملت لديه الصفات التي جعلته بحق رائداً ومجدداً ونقطة تحول في الشعر العربي الحديث. اجتمع لديه الطبع الحاد الذكي، والذاكرة القوية اللاقطة، والدرس المتأني، وظروف العيش المواتية من مال وجاه وأسفار، وطريقة في الاتصال بروائع التراث الشعري القديم تجاوز بها المألوف من أنماط الدراسة في عصره، فنجا مما كان خليقاً أن يكبل موهبته لو أنه درس بالطريقة المعتادة، التي تعلي من تقاليد الصنعة في عصور الضعف، وتهبط بالموضوعات إلى درجة التفاهة والهوان، فعاد بذلك إلى عيون الشعر العربي في أزهى عصوره وهو ما جعل طبعه يسير في جادة الاستواء والارتقاء، فتلاقى الطبع القادر برائع الشعر الذي أكمل موهبته وصقلها، بالظرف المواتي ليجعل منه رائداً يشار إليه بالبنان.

     جدد البارودي في موضوعات الشعر، فإذا بنا نجد شعره يعبر عن نفسه، وعن عصره، وعن آمال شعبه وآلامه فثمة شعر ذاتي، وثمة شعر وطني، وثمة حديث عن الشـورى والحكم والعدالة، وثمة حديث عن الأهرام، وهذا كله جديد على موضوعات من سبقه، حيث كان الشاعر يبدد موهبته، في موضوعات تافهة مثل التهنئة بدار تبنى، أو مولود يفد إلى الحياة، أو عودة من سفر أو تعزية بأثير وما إلى ذلك. وتجديد البارودي في موضوعات شعره خلص الشعر العربي من درك الموضوعات التافهة وارتقى به إلى أفق عال ذي طابع قومي عام.

     وكما جدد البارودي موضوعياً جدد فنياً فالعبارة عنده تتصف بالفحولة، وقوة الترابط والأسر فكأنها قطع منحوته نحتاً محكماً يصلك بنماذج الشعر العربي القديم في أروع عصوره، متجاوزاً قرون الضعف والغثاثة.

    ويروعك في شعـره الصدق المؤثر، فهو ـــ لمجموع مكوناته المتميزة المتكاملة ـــ شاعر فارس أبي تمثل أخلاق الفروسية العربية أروع تمثل، وأخلاق الفرسان تحتقر الكذب والنفاق، وتعلي من قيمة الصدق والوفاء والإباء وهو ما يظهر في شعر البارودي بأجلى الصور.

     ويروعك فيه التصوير لخلجات النفس وأشواقها وأحزانها، مثلما يروعك تصويره للمادي من الأشياء والمناظر والأحداث.

     وموسيقاه جميلة مؤدية، يحسن فيها اختيار البحور، ويحسن فيها بناء الموسيقى الداخلية داخل البيت الواحد لتجتمع معاً فتكون اللحن المؤثر الموصل.

     يدل شعره عليه فتكاد تلمس شخصيته من خلال الحدث والعصر والنزعات والمطامح، وهو أمر شديد الأهمية إذ إن عصور الضعف جعلت شخصية الشاعر تكاد تغيب فلا تدري له ملمحاً ولا خاصية.

     لقد كان البارودي بحق رائداً ومجدداً، في موضوعاته التي طرقها، وفي صناعته الفنية المتميزة، وفي موقفه من الحكام، فشذ في هذه المجالات شذوذ المتفوق الذي يرفع راية تخالف من حوله، فما يلبث أن يعجب بها ويفيء إليها عدد يتزايد ولذلك كان أثره هائلاً على من بعده، وكان فضله على عصره أوسع من فضل عصره عليه كما يقول العقاد ([1]). وكما كان عصره عصر بعث، وكان فيه أحد رواد البعث السياسي والوطني، كان شعره شعر بعث وتجديد وإحياء. ولذلك يمكن لنا أن نصفه بأنه رائد متنوع الريادة.

     لقد طوى البارودي القرون وتجاوز عصور الضعف ليتصل بعصور القوة وليحمل من بعده على متابعة هذا الاتصال، وتلك خطوة ضخمة كان هو رائدها وفارسها. حقاً إنه لم يأت من فراغ، وحقاً إن فيمن قبله إرهاصات إيجابية مهدت له، لكنه كان الذروة التي آلت إليها محاولات التخلص من عصور الضعف، وكان النموذج الجديد للشعر الذي كتب له أن يحظى بشرف تمثيله أحسن تمثيل.

     حاكى القدماء فلم تذب شخصيته، وجدد مستفيداً من أجود عناصر الشعر القديم فظل في إطار الشعر العربي الزاهي، ولذلك ما تكاد تقرأ فيه حتى تشعر أنك معه، ومع المتنبي وأبي فراس والشريف الرضي وغيرهم من فحول الشعراء. يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات: ((إن كان لامرئ القيس فضل في تمهيد الشعر وتقصيده، ولبشار فضل في ترقيته وتجويده، فللبارودي كل الفضل في إحيائه وتجديده، كان الشعر في عهده صورة مشوهة من آثار القرون الأخيرة المظلمة، نظم مرتبك، وتكلف باد، وصناعة فاشية، ومعنى غير مستقيم، فجلاه في خاطره وصقله على لسانه فجاء منضد اللفظ نقي المستشف ... لذلك تحس وأنت تقرأ قصيدة من نظمه أن أرواح أولئك الفحول تحوم حول روحه، وتحلق فوق أبياته))[2].

     أما الأستاذ العقاد فيقول: ((إن البارودي هو صاحب الفضل الأول في تجديد أسلوب الشعر وإنقاذه من الصناعة والتكلف العقيم ورده إلى صدق الفطرة وسلامة التعبير، وإنه جمع بين إحكام الصنعة وشرف العبارة وصدق الإبانة عن كل سريرة من سرائره))[3].

     أما أستاذنا الدكتور شوقي ضيف فإنه يشيد بمنزلة البارودي ويرفعها مكاناً علياً حيث يقول:((والحق أن لواء البارودي يظل جميع الأجيال التالية له مهما اختلفت مدارسها بين المحافظة والتجديد لسبب بسيط، هو أنه نفض عن الشعر العربي أكفانه العثمانية وبعث فيه روح الحياة، وأعده لكي يتطور أنحاء من التطور تتفاوت قوة وضعفاً حسب منازع الشعراء وملكاتهم وشخصياتهم، ولعلي لا أبعد إذا قلت: إنه لولاه ما استأنفت الأمة العربية حياتها الشعرية الخصبة المعاصرة هذا الاستئناف الحي المثمر، فقد أتاح لها أن تستعيد لشعرنا ازدهاره ازدهاراً لا يقل نضرة ولا جمالاً عن ازدهاره في عصور العروبة الذهبية))[4].

     أما الأستاذ عمر الدسوقي فإنه يقدم للبارودي هذه الشهادة: ((يدين الشعر العربي الحديث للبارودي بأنه النموذج الحي الذي احتذاه الشعراء من بعده وساروا على نهجه في أسلوبه وأغراضه وذلك لأنه أتى بشعر جزل رائق الديباجة عذب النغم، في حقبة ساد فيها شعر الضعف والصنعة وضحالة المعنى وعقم الخيال، ثم إنه مثل عصره أتم تمثيل، وكان صدى لحوادث بيئته فكان قدوة لمن جاء على أثره في التجديد. أضف إلى ذلك أنه علمهم كيف يتجهون إلى الأدب العربي في أزهى عصوره ويغترفون من ذخائره بحيث لا تفنى شخصياتهم))[5].

     وهكذا تتضافر شهادات الدارسين للبارودي، لتجمع على ريادته وتفوقه، وأثره الكبير على الشعر العربي الحديث لا في مصر وحدها، بل في جميع البلاد العربية، بحيث يمكن أن يعد بجدارة نقطة تحول مضيئة في تاريخ الشعر العربي كله.

-------------
[1] شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ص 142.
[2] تاريخ الأدب العربي، دار الثقافة، بيروت، ط 26، ص 493.
[3] شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ص 265.
[4] البارودي رائد الشعر الحديث، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1977م، ص 173.
[5] في الأدب الحديث، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 3، 1954م، 1/206.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة