الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الرابع - 02 - محاور المضمون


الفصل الرابع
(موانة بين مراثي الشعراء الثلاثة)

02- محاور المضمون:


     تنوعت مضامين الشعراء الثلاثة في مراثيهم، وتعددت محاورها، وهي عند حافظ وشوقي أغنى منها عند البارودي لظروف البارودي من ناحية، ولتطور مفهوم الشعر وحركته من ناحية أخرى، وهي عند شوقي أغنى منها عند حافظ بسبب طبيعة شوقي، وبسبب مجموعة الظروف المواتية له. وفي هذه المضامين سنقف على أهم المحاور التي عرض لها الشعراء الثلاثة في مراثيهم.

1- الموقف الديني:

     فيما يتصل بالموقف الديني يمكن أن يقال: إن الشعراء الثلاثة مسلمون صادقو الولاء للإسلام، مؤمنون بالله تعالى واليوم الآخر، مستسلمون لأمره عز وجل، راضون بحكم القدر، موقنون بلقاء من يرثونهم في الدار الآخرة، واثقون بالعدل الإلهي في الجزاء والحساب، مدركون أن الدنيا محطة عارضة تليها الآخرة محطة دائمة، يطلبون من الله تعالى الرحمة للميت والصبر للحي، ترد في مراثيهم رموز وإشارات دينية لوقائع أو أشخاص أو مقدسات أو أبطال أو أنبياء أو قصص، وذلك في معرض العظة والاعتبار.

     إذا تجاوزنا هذا القدر المشترك باحثين عن أفق أعلى من حيث الاهتمام الديني ومن حيث الرؤية الدينية الواسعة، وجدنا البارودي أقل الثلاثة حظاً في تصوير هذا الجانب، فليس له رثاء في شخصيات إسلامية، وليس له بكاء على الإسلام، وقد يكون معذوراً بسبب النفي الذي طوح به وهو في أوج نضجه بعيداً عن مسرح الأحداث، فكانت هذه العزلة مع ما رافقها من يأس وإحباط وشعور حاد بالظلم سبباً في قلة مراثيه، حيث وجد نفسه أحق أن يرثى، وهذا هو التفسير المنطقي لشح مراثي البارودي وهو الشاعر المجدد المقتدر، يضاف إلى ذلك أن فكرة الجامعة الإسلامية لم تكن في عهده بنفس القوة والوضوح الذي كانت عليه في عهد حافظ وشوقي.

     أما حافظ فهو لم يتجاوز القدر المشترك إلا قليلاً، حيث بكى مصاب الإسلام وحيث رثى شخصيات مسلمة مهمة، لكنه بقي في الدائرة المصرية فلم يتجاوزها، وفاته أن يرثي شخصيات مهمة خارج هذه الدائرة لم يفت شوقي أن يرثيها، بل فاته أيضاً أن يتوقف عند حادث جلل هو إلغاء الخلافة العثمانية، وهو حادث شغل الناس جميعاً في عصره، وكان أول بلد عربي شغل به هو مصر حيث عقدت مؤتمرات ونشرت مقالات وبحوث متنوعة، وحيث طمع الملك فؤاد أن يكون هو الخليفة المأمول الذي يتداعى الناس لاختياره. ولا نجد له في ديوانه مما يتجاوز الدائرة المصرية، إلا قصيدة دامعة حزينة مؤثرة عنوانها ((أيا صوفيا)) تقع في تسعة أبيات قالها يوم احتل الحلفاء إستامبول عقب الحرب العالمية الأولى، هي في حقيقتها بكاء أمة مغلوبة ودولة زائلة، و((أيا صوفيا)) هي المعبد الديني العريق الذي كان كنيسة ثم صار مسجداً ثم كاد يتحول كنيسة مرة ثانية وهو رمز لتداول القوة بين المسلمين الأتراك ونصارى الغرب.

     وشوقي يشارك صاحبيه في هذا القدر المشترك بينهم من التوجه الديني، لكنه ينفرد عنهما انفراداً واسعاً، فعدد من رثاهم من أعلام الإسلام أكثر بكثير، وهو ما جعله يتجاوز الدائرة المصرية والدائرة العربية إلى الدائرة الإسلامية بكل أبعادها الكبيرة ولذلك نجده يرثي الملك حسين وعمر المختار ومحمد علي وفوزي الغزي ويوسف العظمة وأدهم باشا وعثمان باشا والطيارين العثمانيين ونجل إمام اليمن وصلاح الدين الأيوبي الأمر الذي لا نجده لدى صاحبيه.

     يضاف إلى ذلك سعة نظرة شوقي إلى الإسلام، فالقضية ليست عنده قضية بكاء رجال مسلمين يطويهم الموت فقط، بل حسرة على الإسلام نفسه، وإدراك للبعد الصليبي في الصراع بين الشرق والغرب، وإشفاق على مستقبل المسلمين، لذلك نجده يجيد في بكاء مجد بني أمية في الأندلس والشام بكاء يقترن فيه الفخار بما صنعوا من قبل، والحزن لما آلت إليه الحال من بعد، فالأندلس دخلها المسلمون فاتحين على سفن كأنهم ملوك على عروشهم وخرجوا منها مغلوبين ومطرودين تحملهم السفن كما تحمل النعوش، ومسجد بني أمية في دمشق اختلف حاله بين عز الأمس أيام مروان وذل اليوم أيام حكم الفرنسيين للشام، وهو اختلاف جعل الأذان نفسه اليوم كأنه ليس هو بالأمس. ولذلك أيضاً نجده يجيد في رثائه الخلافة العثمانية أربع مرات رثاء مراً حزيناً، يرتقي فيه خاصة في القصيدة الحائية ويتألق، على أن بكاءه الحار للخلافة وإشادته بها وتحذيره مما سوف يحل بالمسلمين إثر زوالها لم يجعله يغفل عما اقترن بها من أخطاء وعيوب، حيث وليها من لا يستحق، وحيث جعلها بعضهم غرضاً لمطامعه، وحيث يطمع بها إثر الدعوة إلى إحيائها من لا يملك القوة للنهوض بأمرها، أو من تعاون مع الإنجليز الذين كانوا أكبر أعدائها، وهذا الأمر يحمد لشوقي كثيراً فولاؤه الديني كان ولاء بصيراً واعياً وهو ما يدل على عمق اطلاعه التاريخي والسياسي، الأمر الذي يتفوق فيه على صاحبيه كثيراً.

     وقصيدة شوقي ((الأندلس الجديدة)) التي قالها في بكاء ((أدرنة)) يوم اجتاحها البلغار، نموذج رائع لسعة آفاقه الإسلامية وفهمه للبعد الصليبي في الصراع الدائر يومها، وفي نظرته التاريخية الواعية الذكية، وفي معرفته بسنن الدول والحضارات صعوداً وهبوطاً.

     ومن العسير أن يزعم الباحث أن شوقي كان أكثر ولاء للإسلام من صاحبيه وصدقاً في محبته، ولكن الأمر يعزى لسببين، الأول: الدماء غير العربية التي تجري في عروقه وهو ما جعله أكثر ارتباطاً بالأتراك، وبالإسلام الذي يجمع بين المصريين والأتراك، الثاني: عمله السياسي فترة طويلة وهو ما جعله يطلع على كثير من أسرار السياسة ونوايا الغرب ضد المسلمين، وهذه الفترة هي التي تلاقت فيها آمال ممدوحه الخديوي عباس، مع آمال السلطان عبدالحميد، مع آمال المصريين، في كراهية الاحتلال الإنجليزي والتصدي له والرغبة في إنهائه، وهي الفترة التي ظهرت فيها دعوة السلطان عبدالحميد للجامعة الإسلامية للوقوف أمام مطامع الغرب وهو ما أدى إلى نمو الشعور الديني لدى شوقي المتصل بهذا كله، والمتصل شخصياً بالخديوي في عابدين وبالسلطان في إستامبول.

     ومن الإنصاف لتلك الفترة أن نقول: إنها كانت فترة يقظة وتوثب وبعث للأمة فقد كانت فترة جهاد فكري وجهاد ديني وجهاد سياسي، وقد كان من أعلامها الرواد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي والسلطان عبدالحميد، وكان شوقي – في الجملة – من تيار هذه المدرسة الخطيرة، وهذا أحد الأسباب التي جعلت شوقي يتهم بأنه عثماني الهوى، وهو اتهام لم يكن ينفيه، بل كان يعتز به، لذلك يقول على رؤوس الأشهاد:

حتى اتهمت فقيـــــل تركي الهوى     صدقوا هوى الأبطال ملء فؤادي
وأخي القريب وإن شقيــت بظلـمه     أدنى إلي من الغريب العــادي[1]

     إن موقف شوقي من الأتراك ومن الخلافة موقف واع وبصير، الدين الإسلامي أهم بواعثه. يقول الأستاذ عبدالعليم القباني عن عثمانية شوقي: ((وتلك حقيقة لا تقبل الجدل فقد كان شوقي كذلك فعلاً، ترى هذا واضحاً في كل ما صدر عنه من شعر تحدث فيه عن تركيا الإسلامية وهي تواجه مؤامرات أوربا السياسية والعسكرية، وكانت أوربا قد رسمت في ذلك الوقت خطتها للقضاء على ما أسمته أيامئذ بالرجل المريض، وهي تسمية كان المقصود بها تركيا، والإسلام ضمناً))[2].

     كانت تركيا يومها رأس الحربة الإسلامية في مقاومة الغزو الغربي، وهو ما جعل كثيراً من الأدباء والمفكرين يؤيدونها حتى لو كانت لهم عليها مآخذ، وشوقي واحد من هؤلاء.

     وقد لاحظ الدكتور ماهر حسن فهمي الآفاق الإسلامية الواسعة لشوقي ولاء واهتماماً وثقافة وحزناً، فأشار إلى ذلك أكثر من مرة في دراسته لشعر شوقي الإسلامي. يقول عن شوقي: ((وهو يمجد زعماء الإسلام أحياء وأمواتاً، يمدح أحياءهم، ويرثي موتاهم، وهو لا يخص منهم المصريين أو الأتراك وحدهم، إنما يمتد شعره فيضمهم بأجناسهم المختلفة، فهذا هو الزعيم الهندي المسلم ((مولانا محمد علي)) يموت ويفتى بدفنه في القدس، فيسرع شوقي إلى رثائه ليكون شعره أنساً له في غربته، وسجلاً باقياً لجهاده في سبيل قضية الإسلام ... ويموت الشيخ عبد العزيز جاويش بعد أن كرس حياته لخدمة الإسلام وبلاده، فيرثيه شوقي، ونسمع من خلال رثائه وجيب فؤاده ونشيج بكائه))[3].

     ويتوقف الدكتور ماهر لدى إشارة شوقي إلى صلاح الدين الأيوبي باعتباره أحد أبطال الإسلام، ورموزه التاريخية، وهي إشارة تكررت ثلاث مرات، اثنتان منها تتصلان بالرثاء. يقول: ((وما كان لشوقي وهو يترجم للبطولة الإسلامية أن ينسى زعيماً مسلماً من أفذاذ الأبطال، ألا وهو صلاح الدين الأيوبي، فهو يشير إليه في ثلاث قطع، الأولى عند حديثه عن الأيوبيين في قصيدته ((كبار الحوادث في وادي النيل)) والثانية حين سقط الطياران العثمانيان في فلسطين، وماتا وهما في طريقهما إلى مصر في سنة 1913م، والثالثة حين يقف غليوم الثاني على ضريح صلاح الدين يحييه إجلالاً وإعظاماً))[4].

     ويلاحظ الدكتور ماهر ملاحظة ذكية تتصل برثاء الطيارين العثمانيين عند شوقي، وهو أن شوقي لم يكتف بالرثاء الذي يتوقف في دائرة المرثي بكاء عليه ودعاء له وإشادة بأعماله وما إلى ذلك، بل يضيف إلى هذا كله موقع الحادث من الناحية الإسلامية بمفهومها السياسي الكبير، وهو أن وفاة الطيارين خسارة للمسلمين جميعاً، وبالتالي لابد من تعزية الخليفة في إستامبول باعتباره أباً للمسلمين وراعياً لهم، يقول: ((حين سقط الطياران العثمانيان وماتا قبل أن يصلا إلى مصر في عام 1913م بكاهما شوقي، ولم ينس في نهاية القصيدة أن يقدم عزاءه للخليفة لأنه أب للمسلمين جميعاً))[5].

     كما يلاحظ أن عاطفة شوقي الإسلامية عاطفة واسعة المدى، تدل على انتمائه إلى الأمة بمجموعها، فكل مصاب للمسلمين حيث كانوا مصاب له، يقول عن شوقي: ((وهو عميق الحزن شديد التفجع إذا أصيب بلد إسلامي، كأنما هو يرثي بضعة من نفسه، فإذا سمع بغلبة البلغار على مدينة أدرنة سنة 1912م ذكره ذلك بالأندلس الضائعة من المسلمين، فهما جرحان أصيب بهما المسلمون))[6].

     ويقول الدكتور شوقي ضيف وهو يتحدث عن هذا الجانب من شعر شوقي: ((واقرأ في ديوان شوقي فستجد صفحات كثيرة في الخلافة العثمانية، فهو لا يكاد يترك مناسبة من المناسبات دون أن ينظم فيها شعراً، ينظم فيها حين تنتصر وحين تنهزم، وحين تقوم ثورة وحين يؤسس دستور، وحين يزور عباس الآستانة ويزورها معه، وستجد صفحات أخرى للإسلام، ورسوله الكريم على نحو ما ترى في قصيدته المشهورة التي يعارض بها الأبوصيري في بردته والتي يدعو فيها المسلمين إلى النهوض من كبوتهم، وسترى عنده صفحات كثيرة في الإشادة بالعرب والعروبة))[7].

     ويقول الدكتور محمد محمد حسين: ((واتخذ شوقي من رثاء زعماء المسلمين الذين مات عدد كبير منهم في ذلك الوقت وسيلة للتعبير عن عاطفته الإسلامية))[8].

     ولا يفوت الدكتور محمد محمد حسين أن يلاحظ تقصير حافظ في هذا الجانب فيقول: ((وليس في ديوان حافظ على ولعه بالرثاء قصيدة واحدة في رثاء أحد هؤلاء الزعماء المسلمين الذين رثاهم شوقي))[9]. لذلك للدارس أن يقرر أن الفرق بين الشاعرين بين وواضح تماماً ولافت للنظر بقوة.

     وولاء الشعراء الثلاثة للإسلام، لم يقدهم إلى أي لون من ألوان التعصب المذموم ضد النصارى، وهو أمر يحمد لهم أولاً، ويتفق مع طبيعة مصر اللينة المتسامحة ثانياً، ومع الإسلام نفسه ثالثاً، ولذلك نجد لديهم مراثي لعدد من الشخصيات النصرانية، ونجد شوقي بالذات يتخذ من بعض مراثيه فرصة للدعوة إلى جمع الكلمة بين المسلمين والأقباط.

     أما البارودي فإننا نجد له قصيدة واحدة في رثاء حبيب مطران، عم خليل مطران، نظمها بدافع المجاملة عقب عودته من المنفى.

     وأما حافظ فالأمر عنده أوسع فله قصيدتان في هيجو وشكسبير جاءتا في ديوانه في باب المدح ويمكن اعتبارهما مرثيتين، وفي غير الرثاء مجد خليل مطران وواصف غالي وهنأ فارس نمر ويعقوب صروف صاحبي المقتطف، وأما في الرثاء فله مراث في الملكة فكتوريا وجورج الخامس وتولستوي وشبلي شميل وجرجي زيدان واليازجي ويعقوب صروف وحبيب مطران.

     ومراثي حافظ في هؤلاء تدل على تسامحه الديني، لكنها لا تدل أبداً على وهن في ولائه لإسلامه، فقد كان يرثي فيهم الصداقة لا العقيدة، وكانت إشادته تنصب على الخلق الحسن أو الجدية في العمل وما إلى ذلك. وحين رثى حافظ شبلي شميل شعر بحرجه ودقة موقفه، لما كان للفقيد من آراء إلحادية، فتخلص من الموقف في لباقة حيث قرر أنه إنما يرثي في شبلي شميل أخلاقه الشخصية ويخالفه في أفكاره.

     على أنه مما يلفت النظر هنا خلو ديوان حافظ من رثاء لبطرس غالي وهو أمر في غاية الغرابة، ذلك أن موت بطرس غالي لم يكن حادثاً عارضاً بل كان في غاية الخطر، إذ كان رئيساً مسيحياً للوزراء يقتل بيد مسلم هو إبراهيم الورداني، ومهما قيل في أن دوافع القتل ليست دينية بل هي سياسية، فإن البعد الديني واضح جداً في القضية، الأمر الذي كاد يؤدي إلى فتنة عمياء بين أقباط مصر ومسلميها لولا أن تداركها عدد من العقلاء الذين عملوا على تطويق الفتنة، وكان ينبغي لحافظ أن يكون له في هذا الأمر دور محمود وهو المسلم الوطني والمصري الغيور على بلده.

     أما شوقي فالأمر عنده أوسع من صاحبيه وأرحب، فله مراث في شكسبير ويعقوب صروف واللورد كارنافون صاحب الكشف الأثري الشهير واللورد كتشنر وهيجو وتولستوي وجرجي زيدان ونابليون وفردي وسليم تقلا وبشارة تقلا وحبيب مطران، وهؤلاء جميعاً شخصيات نصرانية في داخل مصر وخارجها وبعضهم له مكانة عالمية.

     وقضية اغتيال بطرس غالي، أخذت من شوقي عناية مشكورة، فقد وظفها توظيفاً إيجابياً لمهاجمة التعصب المذموم والدعوة إلى حرية الأديان وإشاعة روح التسامح، والدعوة إلى طي أسباب الشقاق بين أقباط مصر ومسلميها، وفتح صفحة جديدة من صفحات التعاون بينهم لصالح الوطن، نجد ذلك ثلاث مرات لدى شوقي، مرتين في رثاء بطرس غالي، وثالثة في رثاء رياض باشا حيث أشار إلى دوره المحمود في إطفاء الفتنة.

     وبهذا لنا أن نقول: إن آفاق شوقي الدينية والسياسية أوسع من آفاق نده حافظ، الأمر الذي يشهد له به هنا هذا الموقف المشكور من قضية اغتيال بطرس غالي.

2- رثاء الأهل:

     أما فيما يتصل بمراثي الأهل والأقرباء، فيلاحظ أن ديوان حافظ، يخلو من أي مرثيه في ذويه فلا نجد له شيئاً في أمه أو أبيه أو أخته أو خاله أو أي قريب آخر، وهو أمر غريب جداً، ذلك أن حافظ عرف بالوفاء والطيبة وبر ذوي رحمه، وإذا فرضنا أن له مراثي في هؤلاء ضاعت فيما ضاع من شعره، أكان الضياع يأتي على جميع مراثيه فيهم؟ أما كان من الممكن أن تصل إلينا مرثية واحدة أو أكثر؟ لذلك فالضياع احتمال قائم لكنه لا يقوم وحده مسوغاً كافياً لغياب رثاء الأهل والأقارب في ديوانه.

     وعلى خلاف حافظ نجد لصاحبيه مراثي حارة في ذويهما، فنصف مراثي البارودي هي في ذوي رحمه من أم وأب وزوجة وأخت وولد، وهي قصائد جيدة صادقة. ودرتها قصيدته في زوجته عديلة يكن التي مطلعها:

أيد المنــــون قدحت أي زنــــاد     وأطرت أية شعلة بفؤادي[10]

     وهي قصيدة فريدة استكملت كل الأدوات التي تمنحها الخلود، ولذلك وصفها الدكتور شوقي ضيف بأنها ((من غرر المراثي في لغتنا العربية))[11]، ووصفها الدكتور علي الحديدي بأنها من ((نادر الشعر العربي))[12].

     أما شوقي فقد رثى ذويه هو الآخر، فله مراث في أمه وأبيه وجدته وخاله، ومراثيه فيهم مراث جيدة صادقة وأهمها رثاء أمه الذي مطلعه:

إلى الله أشــكو من عوادي النوى سهما
               أصاب سويداء الفؤاد وما أصمى[13]

     ورثاء أبيه الذي مطلعه:

ســـــألوني لـــم لــــم أرث أبي     ورثاء الأب دين أي دين[14]

     وأياً كان الأمر فلابد من الإشارة إلى أن حياة حافظ قد خلت من حياة أسرية مستقرة بسبب اليتم وعدم الزواج، خلافاً لصاحبيه اللذين كانت لهما حياتهما الأسرية المستقرة، فلعل ذلك سبب خلو ديوانه من مراث في ذويه على العكس منهما.

3- مراث من نوع آخر:

     وفيما يتصل بالقصائد الملحقة بالرثاء، وهو ما تم تصنيفه تحت عنوان ((مراث من نوع آخر)) نجد للبارودي ثلاث قصائد زهدية فيها حديث عن الموت، لكننا لم نجد له شيئاً مما يمكن تسميته الرثاء العام خلافاً لحافظ وشوقي.

     أما حافظ فنجد له ثماني قصائد، واحدة منها يتحسر فيها على نفسه، والسبعة الأخريات ذوات موضوعات عامة، إذ تناول حريق ميت غمر، والإمبراطورة أوجيني، وحادثة دنشواي، وزلزال مسينا، والانقلاب العثماني، والحرب العظمى، وأيا صوفيا.

     أما شوقي فإننا نجد له اثنتين وعشرين قصيدة، واحدة منها يتحسر فيها على شبابه وهي تلك التي جاءت ضمن قصيدته في زحلة، والبقية موضوعات عامة، سبعة منها في نكبات المدن (طوكيو – روما – أدرنة – أثينا – دمشق – بيروت – ميت غمر) واثنتان بكاء على بني أمية في قصيدتيه السينية والنونية، وأربعة في الخلافة العثمانية، وواحدة في السلطان عبدالحميد، وواحدة في صلاح الدين وغليوم، وواحدة في عذراء النيل، واثنتان في رثاء الأمير عبدالمنعم ويوسف العظمة، وواحدة في الكوليرا، وواحدة في انتحار الطلبة، وقطعة قصيرة في الموت، وبيتان مما يكتب على شواهد القبور.

     أما قصيدة شوقي في دنشواي فقد كانت في الجزء الأول من الشوقيات ص 301، لكن الدكتور الحوفي نقلها إلى باب الرثاء 2/545، حيث وجدها أليق بذلك.

     وفي هذا الذي نجده من نمو هذا النوع من الشعر لدى حافظ وشوقي، عما كان الأمر عنده لدى أستاذهما ورائدهما البارودي، دلالة على تطور محمود في موضوعات الشعر العربي في العصر الحديث، يخرج فيه من الدائرة الفردية الخالصة التي ترثي أشخاصاً بأعيانهم،إلى دائرة أعم ذات بعد وطني واجتماعي، كما هو الأمر في رثاء ميت غمر ودنشواي والكوليرا وانتحار الطلبة، وإلى دائرة عربية أوسع من سابقتها كما هو الأمر في رثاء دمشق وبيروت ويوسف العظمة، وبني أمية، وإلى دائرة إسلامية أوسع أيضاً من سابقتها كما هو الحال في رثاء أيا صوفيا، والسلطان عبدالحميد وصلاح الدين وأدرنة والخلافة العثمانية، وأخيراً إلى دائرة إنسانية عالمية كما هو الأمر في رثاء مسينا، وأوجيني، والحرب العظمى، وطوكيو، وروما، وأثينا.

     وهذا كله يدل على اتساع في أفق الشعر العربي، وعلى اتساع في ثقافة الشاعر العربي وهو كسب محمود لحركة الشعر وآفاقه ومفاهيمه.

     أما لماذا كان شوقي أوفر إنتاجاً من صاحبه حافظ في هذا الأمر، فما قيل عن كثرة مراثيه من قبل يقال هنا أيضاً وهو: تداخل الدماء في أصوله، وسعة رؤيته الدينية، وسعة علاقاته، واستقرار حياته، وحبه للتاريخ، وتفرغه لفنه، ورغبته في الخلود والمجد والشهرة، وقدرته الكبيرة على النظم بسبب غزارة مخزونه اللغوي والثقافي.

4- رثاء النفس والحظ:

     وفيما يتصل برثاء الذات، فقد بكى الشعراء الثلاثة أنفسهم في بعض مراثيهم، وبكاء الشعراء العرب شبابهم وتحسرهم على فائت أيامهم أمر قديم في الشعر العربي، فهم ليسوا بدعاً في ذلك.

     أما البارودي فهو أجدر الجميع بذلك، ولا يسع الإنسان إلا أن يلتمس له العذر، فقد كان إخفاق الثورة العرابية واحتلال الإنجليز مصر، بالنسبة للبارودي كارثة وطنية وكارثة شخصية في آن واحد، أما الوطن فإنه حريته، وأما
البارودي فإنه سجن ونفي وصودرت أملاكه فكانت كارثته مضاعفة، لذلك لا غرابة أن يرثي نفسه ويبكيها، وقد أقام في منفى سحيق مدة سبعة عشر عاماً عانى فيها مرارة اليأس والإحباط والظلم والوحدة بعد المجد والغنى والسيادة. ورثاء البارودي لنفسه لا يتنافى أبداً مع ما عرف عنه من صبر وأنفة وعزة نفس لأنه كان ثمرة من ثمار صدقه، ولهذا فإن رثاءه وفخاره يتلاقيان ويتكاملان وهما معاً من ثمرات أخلاق الفرسان التي أشربها البارودي وعشقها.

     ومن أجمل بكائه على نفسه أبياته التي جاءت ضمن رثائه لصديقيه عبدالله فكري وحسين المرصفي حيث بكى شبابه وغربته وذهاب صحته والكوارث التي توالت عليه وقدم لنا ذلك كله في مشهد حزين ينتهي بهذين البيتين:

لم تدع صــــــولة الحوادث مني     غير أشــــــلاء همة في ثيــــاب
فجعتــــني بـوالـــــــــدي وأهلي     ثم أنحت تكر في أصحابي[15]

     وحين رثى زوجته بكى نفسه بكاء يأسى فيه على قوته الذاهبة كما يأسى فيه على الزوجة الفقيدة، ومن هنا قلنا إن بكاءه نفسه وفخاره بها يتلاقيان ولا يتناقضان:

أوهنــــت عزمي وهو حمـــــلة فيــــلق
               وحطمت روحي وهو رمح طراد[16]

     وهو أمر له بدايته المبكرة التي تكشف عن نفسيته منذ رثى والده وتألم لأنه تركه صغيراً لا يخافه أحد:

مضى وخلـفــــني في ســــن ســـــــابعة
               لا يرهب الخصم إبراقي وإرعادي[17]

     أما حافظ فالأمر عنده يختلف، فهو حين يرثي نفسه، إنما يرثيها بدافع من خوفه من الموت، وبسبب إحساسه الدائم – بالحق والباطل – بالبؤس والحرمان وقسوة الدنيا عليه. وكان موت حفني ناصف في قصة الستة العجيبة نذيراً له بدنو أجله وهو ما زاد في مخاوفه.

     ورثاء حافظ لنفسه رثاء حار موجع، فيه صدق وفيه عفوية، وفيه شخصية حافظ البسيطة القريبة الكارهة للتكلف، التي تشعر بالحزن على نفسها فترثيها رثاء حزيناً مؤثراً، في مثل أبياته التي أشار فيها إلى قصة الستة المحزنة وهي أبيات دامعة أنهاها بقوله:

وقـــف الخمســــة قـبـــــــلي فمضـوا
               هكــــذا قبــــلي وإني عــن قريــــــب
وردوا الحــــوض تبــــــاعاً فمضــوا
               باتفـــــاق في منـايــــــــاهم عجيــــب
أنــــا مذ بــــــانوا وولى عهــــــــدهم
               حاضر اللوعة موصول النحيب[18]

     ومثل هذا يقال في أبياته التي بكى فيها نفسه في رثائه لجرجي زيدان والتي أنهاها بهذا البيت الحزين:

وما لي صديق إن عثــــرت أقـــالني
               وما لي قريب إن قضيت بكاني[19]

     والأمر نفسه نجده في مراثيه في عبد الحميد رمزي[20]، وأحمد البابلي[21]، وأحمد حشمت[22]، وعلي أبي الفتوح[23].

     أما شوقي فالأمر يختلف عما هو لدى صاحبيه اختلافاً واسعاً لأسباب عدة، ذلك أن شوقي عاش كل حياته منعماً مرفهاً مستقراً، وحتى حين خسر مجده السياسي فاز بما هو أهم وهو مجده الأدبي، وحتى فترة نفيه لم تكن إلا نوعاً من العزلة والخلوة والاستجمام في منطقة من أجمل المناطق. فهو لم يتعرض لكارثة كالتي أصابت البارودي، ولا شعر باليأس واليتم والفقر كما شعر حافظ، بل كانت حياته سلسلة من المتع والظروف المواتية.

     ومن هنا كان يشعر أن الموت سوف يسلبه ما فيه من نعم، ويعزله في حفرة بعيدة عن مجده وثرائه وذويه، وكانت ساعة الموت بالذات من أكثر ما يخافه شوقي ويخشاه، وكان يكثر من التفكير في الدود والجماجم، والنعش والتراب، والحشرات، وبكاء الناس عليه بعد موته، وانفصال الروح عن الجسد والفرق بين الموت المفاجئ والموت المعلوم، وكان يستقصي في ذلك ويبالغ كأنه يبحث عما تطمئن به نفسه. من أجل ذلك كان التجلد للموت عنده قمة البطولة ولهذا أشاد بسقراط كثيراً.

     ومن أكثر ما يدل على رعب شوقي من الموت تلك القطعة التي جاءت في رثائه لرياض باشا، والتي يقول له فيها:

ســــألتـك ما المنيــــة أي كـأس     وكيف مذاقها ومن السقاة[24]

     وهي قطعة يسأل فيها ويستقصي في السؤال وينوع ويفرع، كأنه يريد أن يصل من ذلك كله إلى ما يهدئ مخاوفه ويبث في قلبه السكينة.

     والأمر يكثر عند شوقي في شعره وفي حياته حتى يتحول أحياناً إلى حالة مرضية، والشواهد في مراثيه كثيرة، نجدها في رثائه لجدته[25]، وعبد العزيز جاويش[26]، والخديوي إسماعيل[27]، واللورد كتشنر[28]، وصديقه عمر لطفي[29]، وقاسم أمين[30]، ومحمد المويلحي[31]، وإسماعيل صبري[32]، وأمين الرافعي[33]، وجرجي زيدان[34]، وعلي بهجت[35]، وبشارة تقلا[36]، وعلي الطهطاوي[37].

     وساعة طلوع الروح من الجسد هي بالذات أكثر ما كان يؤرق الشاعر الذي يرى أن كل شيء قبلها وبعدها هين بالقياس إليها كما يقول في رثاء والده:

يـــا أبي والمــوت كــــــأس مرة     لا تـــذوق النفس منـــــها مرتين
كيـــف كــــانت ساعة قضيـــتها     كل شيء قبلها أو بعد هين[38]

     يبقى أن نقول في مجال المقارنة بين مراثي الشعراء الثلاثة لأنفسهم: إن رثاء البارودي لنفسه رثاء الفارس الشجاع المقدام الأبي، الذي نال مجداً رفيعاً لم يلبث أن خسره بل انقلب حاله فيه إلى النقيض، ورثاء حافظ لنفسه يماثل رثاء البارودي لنفسه من حيث البواعث النفسية بقطع النظر عن جدية المعاناة، أما رثاء شوقي لنفسه فهو رثاء النهم إلى الدنيا، المحب لما فيها من لذائذ، الواجد لما يريد بسبب ما توافر له من جاه ومال وفراغ، الخائف من الموت أن يسلبه ذلك كله، ولذلك يروعنا رثاء صاحبيه لنفسيهما أكثر مما يروعنا رثاؤه لنفسه.

5- حضور الذات:

     أما فيما يتصل بحضور الذات، فيمكن أن يقال بادئ ذي بدء: إن ذات الشاعر تلح عليه بدرجة ما، فتبرز أو تضمر أو تغيب، وإذا طبقنا هذا الحكم على الشعراء الثلاثة نجد الذات الحاضرة أوضح ما تكون لدى شوقي، يلي ذلك البارودي، حتى إذا جئنا إلى حافظ لم نكد نجد له حضوراً مميزاً.

     أما شوقي فقد أكثر من الحديث عن نفسه شخصاً وشعراً، فهو يدل بشعره ويفتخر بمكانته ويشيد بوفائه وما إلى ذلك بحيث يصل الأمر إلى درجة لا يمكن قبولها أحياناً، كأن يشبه نفسه في نقاء الوجدان بعيسى عليه السلام وذلك في رثائه رياض باشا:

خــلقـــــت كـــــأنني عيسى حــرام
               على قلبي الضغينة والشمات[39]

     وأن يجعل من مزايا جدته أنها أنجبته:

ولو لم تظهــــري في العرب إلا     بأحمد كنت خير الوالدات[40]

     وأن يجعل دولة الشعر راجعة إليه وحده في رثائه جرجي زيدان:

لي دولة الشعر دون العصر وائـلة     مفاخري حكمي فيها وأمثالي[41]

     وأن يثني ثناء كبيراً على نفسه وعلى شعره في رثائه سعيد زغلول:

وأنــــا المرء لــــــم أر الحق إلا     كنت من حزبــــه ومن عمـــاله
رب حر صنـــــعت فيه رثــــاء     عجز الناحتون عن تمثاله[42]

     وأن يبالغ جداً في الثناء على نفسه وشعره في رثائه لأمه:

أتيـــــــت بــه لــــم ينـظــــم الشعــــر مثــله
               وجئـــــــت لأخـــــلاق الـكــرام بـه نظــــما
ولو نهضـــــت عنه الســـــــــماء ومخضت
               به الأرض كان المزن والتبر والكرما[43]

     وهذا الحضور الملح للذات نراه لدى شوقي حين يجعل شعره هو الذي يعيد الشموس الغاربة إلى الدوران في الأفلاك من جديد في رثائه مصطفى كامل[44]، وحين يقرر أن الدهر وحده هو الجدير بأن يتولى إلقاء شعره على الناس جيلاً بعد جيل في رثائه لأمين الرافعي[45]، وحين يقسم بالأيمان المغلظة أن لا يد له في الحرب العظمى في رثائه لأمه[46]، وحين يشيد بشعره كثيراً في رثائه فتحي زغلول[47]، وفي رثائه سعد زغلول[48]، وغير ذلك.

     والحقيقة أن هذا النوع من حضور الذات فيه مبالغة وفيه استحالة، وهو ما يشعر بالتكلف والافتعال وسطحية التجربة الشعورية، والسبب في ذلك إعجاب شوقي بشعره وحبه لنفسه ورغبته في أن تبلغ أعلى درجات الشهرة والخلود، يضاف إلى ذلك تأثر شوقي المعروف بالمتنبي، الذي كان شديد الإعجاب بنفسه أولاً، وعثوره في الإشادة بنفسه وشعره على ما سبقت تسميته بنقاط هروب يداري فيها خفوت عاطفته وبرودها ثانياً.

     وإذا أمكن التماس العذر لشوقي في إعجابه بشعره إعجاباً جعله يحشد الإشادة به حتى في مراثيه، فليس لنا أن نجد عذراً مماثلاً للإشادة بنفسه وأخلاقه ووفائه، ذلك أنه لم يعرف بخلق عال نبيل منها وإن لم يعرف في مقابل ذلك بخلق رديء.

     الحال لدى البارودي يلتقي مع شوقي في جانب ويفترق في جانب، يلتقي معه في أنه يشيد بنفسه وأخلاقه، ويفترق في أن له العذر فيما يفعل، كان البارودي سليل مجد عريق، وكان هو بنفسه صانع مجد، في السياسة والشعر معاً، وكان تشربه لروح الفروسية العربية يجعله عزيز النفس، شجاعاً أبياً جواداً، وكانت مواقفه في حياته تنسجم مع هذه الروح تماماً، يوم نال المجد والسيادة، ويوم قاتل فأبلى، ويوم نفي فصبر، لقد ذاق حلو الحياة ومرها لكنه ظل حيث تلزمه أخلاق الفرسان أن يكون. لذلك للبارودي العذر في الإشادة بنفسه، لأنه يشيد بما هو واقع حقاً من ناحية، وبما هو أهل للفخار والاعتزاز من ناحية أخرى، والبارودي حين يفعل ذلك لا ينتقص موقفه هذا من صدق عاطفته فعاطفتا الصدق والفخر هنا ليس بينهما تناقض بل بينهما تكامل، إنه يرثي لأنه وفي، والوفاء خلق نبيل من أخلاق الفروسية، والبارودي نموذج لهذه الفروسية، فله أن يفخر بما نال من شرفها ومجدها. نلمح هذا الفخر مثلاً في إحساسه بتفوقه على أقرانه في رثائه لوالده:

فــــإن أكن عشت فرداً بيــــــن آصرتي
               فهـــا أنـــا اليوم فـــرد بيــــن أنــــدادي
بـلغــــت من فضـل ربي ما غنيـــت به
               عن كــل قـــــار من الأملاك أو بـــادي
فــــمـا مددت يـــــدي إلا لمنـــــــح يــد
               ولا سعـــت قـــدمي إلا لإسعــــــــــــاد
تبعت نهـــج أبي فضــــلاً ومحميــــــة
               حتى برعت وكان الفضل للبادي[49]

     وخبر وفاة والدته الذي جاءه وهو في الحرب، كاد يضيع مجده ويفل شجاعته، وكاد يجعله ينصاع لداعي الأحزان فينكص عن القتال، لكن إباءه حمله على مغالبة آلامه فعاد إلى القتال لينتهي منه محمود السيرة بما كان له فيه من إقدام وبطولة:

وطـــارت بقـــــلبي لوعة لو أطعـــتها
               لأوشــك ركن المجــــد أن يتهـــــــدما
ولكـنني راجعــــت حـلـــــمي لأنثــني
               عن الحرب محمود اللقاء مكرما[50]

     ويمكن لنا أن نجد هذه الذات الحاضرة في مواقع أخرى من مراثي البارودي، كرثائه للشدياق[51]، وولده علي[52]، وزوجته عديلة يكن[53].

     أما حافظ فإننا لا نجد له من حضور الذات الشاعرة إلا الفخر بوفائه الذي يحمله على رثاء من يحب، وهو في ذلك محق كل الحق، فلقد كان فعلاً رجلاً غاية في الوفاء والطيبة، كقوله في رثاء مصطفى كامل:

مدحتــــك لما كنت حيـــــاً فلم أجد     وأني أجيد اليوم فيك المراثيا[54]

     وقوله في رثاء جرجي زيدان:

أراني قد قصرت في حق صحبــتي     وتقصيـــر أمثــــالي جناية جــــاني
وفي ذمتي للـيـــــــازجي وديعـــــة     وأخــرى لزيـــــدان وقد سبقـــــاني
أيجـــــمل بي هــذا العقـــــوق وإنما     على غيــــر هذا العهد قد عرفـــاني
دعــــاني وفــــائي يوم ذاك فـلم أكن     ضنيناً ولكن القريض عصاني[55]

     ووفاء حافظ هو الذي جعله يكثر من الرثاء، وهو ما جعله يصف هذا اللون من شعره بأنه قد احتل نصف ديوانه وذلك في قوله المشهور:

إذا تصفحــــت ديـــــواني لـتـقـــــــــرأني
               وجدت شعر المراثي نصف ديواني[56]

     أما بعد الوفاء، فليس ثمة شيء يكاد يذكر لحافظ في حضور الذات وإلحاحها، ذلك أنه لم يكن له طموح البارودي وأمجاده العسكرية والسياسية وريادته الفنية، وليست له مكانة شوقي الاجتماعية والسياسية والفنية، فليس له أن يفخر فخرهما وهذا الذي كان.

6- مع البيت العلوي:

     مراثي الشعراء الثلاثة في البيت العلوي انعكاس أمين لموقفهم منه قرباً أو بعداً أو عداوة، شوقي - وحده - بين الثلاثة كان المقرب من البيت العلوي، بل كان واحداً من صنائعه، الأمر الذي لم يكن شوقي ليكتمه، بل كان يعلنه، وكان يفخر أنه ولد بباب إسماعيل، ولذلك نجد لشوقي مراثي كثيرة في هذا البيت، نجد له رثاء لمحمد  علي[57]، وللخديوي إسماعيل[58]، وللخديوي توفيق[59]، ولأم المحسنين[60]، وللأمير عبدالقادر[61]، والأمير حسن باشا[62]، وللأميرة فاطمة إسماعيل[63].

     ومن آثار ولاء شوقي للبيت العلوي في مراثيه موقفه من البارودي ومحمد عبده ومصطفى كامل، أما البارودي فلا نعثر لشوقي إلا على بيت واحد في رثائه[64] وهو من هو مكانة وأثراً والسبب هو موقف البارودي الشهير من الخديوي توفيق والأسرة العلوية، وأما محمد عبده فلا نجد لشوقي إلا ثلاثة أبيات باردة في رثائه[65] مع أهميته الكبرى والسبب كراهية الخديوي عباس سيد شوقي وممدوحه له، وأما مصطفى كامل[66] فقد رثاه شوقي ولكن بعد شيء من التلكؤ والتريث والسبب هو ما انتهى إليه الأمر بين الخديوي عباس وبين مصطفى كامل من قطيعة حين بدل الخديوي سياسته مع غورست إلى الوفاق عكس ما كانت عليه أيام كرومر من خصومة.

     أما حافظ فلا نجد له إلا قصيدة واحدة في هذا المجال، هي رثاؤه للسلطان حسين كامل[67] وهي قصيدة مجاملة لاغير. وسبب ذلك واضح وهو قرب حافظ من الشعب من ناحية، وإحساسه أنه لم ينل من البيت العلوي حظوة لائقة من ناحية أخرى، مع أنه حاول ذلك.

     أما البارودي فليس لديه أي رثاء في البيت العلوي، وهو أمر طبيعي ينسجم مع حياة البارودي التي ثارت ضد هذا البيت، واحتملت العقوبة التي أوقعها به بعد أن هزم سجناً ونفياً ومصادرة.

     حياة البارودي مع البيت العلوي حياة إباء جعلته لا يرثي أحداً من أعلامه حتى قبل أن يتمرد عليه، فكيف له أن يرثي منهم أحداً بعد التمرد؟ وحياة حافظ لم تتصل أسبابها بالبيت العلوي مع محاولته ذلك، أما شوقي فقد أكثر في البيت العلوي في الرثاء وفي غير الرثاء، ولا غرابة في ذلك عندنا ولا عنده، وهو القائل:

أأخون إســــماعيل في أبنـــــائه     ولقد ولدت بباب إسماعيلا[68]

7- الحس التاريخي:

     تفاوت الحس التاريخي لدى الشعراء الثلاثة تفاوتاً بيناً، بحيث نجده لدى البارودي بمقدار محدود، ولدى حافظ بمقدار أقل، ولدى شوقي نجده واسعاً رحباً غزيراً.

     أما البارودي فنجد حسه التاريخي في الإشارة إلى وقائع وأسماء قديمة مما يتصل بالثقافة العربية المتصلة بالبادية كأيام العرب، وقبائلها التي عصف بها الزمان، وثمود وعاد من العرب البائدة، وتأتي أحياناً الإشارة إلى كسرى والأهرام وأبي الهول. وهو في كل ذلك يسرد الأحداث ويأتي بالإشارات والأسماء طلباً للعبرة مما جرى في سالف الدهر حتى يتذكر الجديد مصرع القديم فيجد في ذلك عزاء. ويظل البارودي في حدود هذا التوظيف من ناحية، وفي حدود تلك الإشارات العربية البدوية من ناحية أخرى، فلا نجد له حديثاً عن يونان أو رومان ولا رثاء لدول زائلة ولا نجد له نفساً فلسفياً يحاول تفسير الأحداث في حركة التاريخ، ولا يستغرب هذا من البارودي فقد كانت ثقافته العربية هي الثقافة الطاغية عليه، وكانت تملاً عليه أقطار نفسه، وكان نظره في دواوين القدماء شغله الشاغل، وكان إعجابه بالفروسية العربية ومنبتها في البادية أمراً يستحوذ على نفسه، ولذلك ظلت قضية التاريخ لديه في هذه الحدود.

     يقول في رثائه لزوجته مشيراً إلى الحارث بن عباد:

لو كـــان هذا الدهر يقبـــــــل فدية     بالنفس عنــــك لكنت أول فـــــادي
أو كان يرهب صولـــــة من فاتـك     لفعلت فعل الحارث بن عباد[69]

     ويشير إلى العرب البائدة في رثائه لأمه وهو يتحدث عن سطوة الدهر:

وكيــف يصـــون الدهر مهجة عاقــل     وقد أهلك الحيين عاداً وجرهما[70]

     وما بقي من إشاراته التاريخية في مراثيه مماثل لهذين الشاهدين، وبذلك يظل التاريخ عند البارودي في حدود متواضعة تحوم حول العبرة والتماس الصبر.

     أما حافظ فلا نكاد نظفر له بشيء من الرموز والإشارات والوقائع التاريخية التي يحسن استدعاؤها التماساً للعبرة، أو المقارنة، أو إضافة وقع مؤثر أو لحن حزين. وهو أمر مستغرب من حافظ الذي إن فاتته ثقافة غربية توسع مداه وترتقي بآفاقه، فإن له ثقافة واسعة جداً فيما يتصل بالعرب وتراثهم وأساطيرهم وأبطالهم وقبائلهم وأيامهم. ولذلك تخلو مراثيه من نظرة تأملية في حركة التاريخ، وسنن الكون والحضارة، وقيام الدول وسقوطها.

     أما شوقي فله في هذا الأمر السبق الكبير، فالتاريخ لديه كثير ومتنوع وحاضر، فضلاً عن الروح الفلسفي التأملي فيه، ولا غرابة في ذلك فهو قد جعل الشعر ابناً لأبوين هما التاريخ والطبيعة[71].

     في إطار الجاهلية نجد التاريخ عند شوقي في استدعائه - مثلاً - لقس بن ساعدة[72]، والكاهنين سطيح وأفعى الجرهمي[73]، والنعمان ويومي بؤسه ونعيمه[74].

     وفي الإطار العربي الإسلامي نجد التاريخ في إشاراته - مثلاً - إلى صلاح الدين الأيوبي[75]، وإلى البرامكة[76]، وإلى بني أمية[77]، وإلى الأندلس[78]، وإلى الخلافة[79].

     وفي الإطار الفرعوني نجد التاريخ في إشارة شوقي - مثلاً - إلى النكبات السبع[80] وخوفو ومينا[81].

     وفي الإطار اليهودي نجد التاريخ في إشارة شوقي – مثلاً – إلى موسى عليه السلام والسامري[82]، ويوشع بن نون[83].

     وفي الإطار المسيحي نجد التاريخ - مثلاً - في الإشارة إلى عيسى عليه السلام[84]،  والإنجيل[85]، والحواريين[86] ولازار[87].

     وفي الإطار الروماني نجد التاريخ – مثلاً – في إشارته إلى نيرون[88] وروما[89] وقيصر[90].

     وفي الإطار اليوناني نجد التاريخ – مثلاً – في إشارته إلى سقراط[91] وبقراط[92] وأثينا[93].

     وكل هذه الإشارات والإسقاطات التاريخية توضح مدى ثقافة شوقي من ناحية، وتكشف من ناحية أخرى مدى قدرته الفنية على توظيف هذه الرموز والأخبار والوقائع والأسماء توظيفاً فنياً في مراثيه، في سياق جميل رائع، يضيف إلى الموقف جلالاً، أو يستنبط عبرة، أو يحقق إيحاء، أو يغني من الموقف فكرياً وفنياً، الأمر الذي يمكن لنا القول معه: إن التاريخ محور بارز في شعر شوقي في الرثاء وغير الرثاء يظل يتكئ عليه ويحيل إليه ويبني عليه باستمرار.

     ولعل هذا الحس التاريخي اليقظ لدى شوقي هو الذي جعله يكثر من الإشارة إلى أحداث جرت أيام من يرثيهم، تتصل بهم بسبب أو بآخر كأنه يريد أن يكون شاهد العصر ومؤرخه وراوي أخباره، ولعله أيضاً - وهذا هو الأهم والأخطر الذي يتفرد به ويسبق فيه - جعله يظهر لا مجرد إنسان يسجل الأحداث، بل حكيماً فيلسوفاً ينظر في سنن الحياة ونواميس الكون ومصائر الدول وسقوط الحضارات وتعاقب الأديان، وجعل بعض قصائده تأخذ نفساً ملحمياً حزيناً، وهو ما يمكن أن نراه بوضوح في قصيدته ((الأندلس الجديدة)) التي مطلعها:

يا أخت أندلس عليـــــك ســـــــلام     هوت الخلافة عنك والإسلام[94]

     فهو في هذه القصيدة يظهر لنا فيلسوفاً متأملاً حكيماً يرقب الدنيا من منظار تاريخي بعيد وعميق، كما يمكن أن نراه في بكائه بني أمية في السينية التي مطلعها:

اختــــلاف النهـــار والليل ينـسي    اذكرا لي الصبا وأيام أنسي[95]

     فهو في هذه القصيدة حكيم وفيلسوف، وراصد ناقد، ومستوعب عميق للتاريخ، كما يمكن أن نراه في النونية التي مطلعها:

قم نــــاج جلق وانشد رسم من بــــــانوا
                مشت على الرسم أحداث وأزمان[96]

     فهو في هذه القصيدة كذلك، يبدع ويتألق ويبدو فيلسوفاً حكيماً، كما يمكن أن نراه في رثاء الخلافة العثمانية رثاء حاراً حزيناً في عدة قصائد أشهرها قصيدته التي مطلعها:

عادت أغاني العرس رجع نواح     ونعيت بين معالم الأفـراح[97]

     ومعنى هذا أن التاريخ كماً ونوعاً وفلسفة، ووعياً بسننه وقوانينه، وإحاطة بأخباره ومقدماته ونتائجه، هو لدى شوقي أوسع بكثير جداً مما هو لدى صاحبيه وأغنى وأروع، بحيث تعليه المقارنة عليهما وترفعه مكاناً لا يبلغان بعضه.

8- الحكمة:

     أما التفاوت في شيوع الحكمة بين الشعراء الثلاثة فهو تفاوت كبير جداً، فنحن نجدها قليلة جداً وساذجة لدى حافظ، وفي حجم عادي لدى البارودي، لكننا نجدها تكثر إلى حد المبالغة لدى شوقي، وهو ما يكاد يجعل المقارنة بين الشعراء الثلاثة في هذا المجال أمراً غير وارد.

     أما الحكمة في مراثي حافظ فهي قليلة جداً إلى حد الندرة، ثم هي قريبة ساذجة لا عمق فيها، ومرد ذلك إلى صدق حافظ من جانب، وإلى شخصيته الواضحة السهلة القريبة من جانب آخر، أما الصدق فيحمله على تناول المرثي تناولاً حزيناً يعبر فيه عن حزنه عليه بدون تكلف أو تعسف، وأما شخصية حافظ فهي شخصية قريبة محببة سهلة لا توغل في التعمق والتأمل.

     أما الحكمة عند البارودي فإنها تأتي عفو الخاطر وفي تناول قريب وحجم لا مبالغة فيه، حيث لم يكن الشاعر يتكلف الفلسفة ويجهد نفسه في التفكير أو يرهقها في التعمق فكان بذلك أقرب إلى طبعه وسليقته، الأمر الذي ينسجم مع الصدق الذي عرف به البارودي في حياته وفي شعره على السواء.

     أما شوقي فتشيع الحكمة في مراثيه شيوعاً كبيراً بحيث لا تكاد تخلو منها قصيدة، وهو ينوع فيها ويستقصي ويقول أفكاراً جيدة في صياغة جيدة، وترد هذه الكثرة إلى أن شوقي كان معجباً بأستاذه المتنبي، والمتنبي شاعر حكمة ضخم فلا غرابة أن يجاريه شوقي في هذا المضمار مجاراة التلميذ للأستاذ، ثم إن شوقي كان معجباً بشعره ويرى أنه جدير بالخلود، والحكمة باب واسع من أبواب الخلود إذ تظل الأبيات المأثورة منها متداولة متناقلة فاقتحم شوقي باب الحكمة وأكثر منه. يضاف إلى ذلك أن الحكمة عند شوقي، هي أحد المسارب الجانبية التي يهرب إليها هروباً واعياً أو غير واع للتعويض عن عاطفته الباردة.

     من أجل ذلك يمكن أن يقال: إن حكمة شوقي وإن صحت أفكارها، وارتقت لغتها، يشيع فيها البرود الذي يجعلها بمثابة صنع جميل يعجبك منظره ولكنك لا تجد فيه حياة، ذلك أنها لم تصدر عن معاناة محترقة كما صدرت حكمة المتنبي، ولذلك كان البون بينهما واسعاً.

     من جهة أخرى تفقد حكمة شوقي نسقاً فلسفياً عاماً، وروحاً واحدة مشتركة، لذلك تظل شذرات جميلة متناثرة، لكنها تفتقر إلى ناظم فكري يجمعها كلها.

     الحكمة في مراثي شوقي كثيرة وصحيحة وجميلة، من حيث معانيها ومن حيث صياغتها، لكنها بمثابة تماثيل جميلة باردة بلا حياة، وهي ثمرة الفكر المتأمل، والتفلسف والتكلف، والهروب، والبرود، والرغبة في الخلود، وهي عند البارودي وحافظ، سهلة قريبة محدودة.

     وحجم الحكمة لدى الشعراء الثلاثة ينسجم مع مكوناتهم وبواعثهم فكراً وكمية ودلالة، على أن المهم الذي ينبغي أن يشار إليه هنا، هو أنه ليس فيهم من تصل الحكمة عنده إلى موقف عام من الكون والحياة والإنسان، في فلسفة عامة واحدة، أو نسق فكري شامل. وكان بوسع شوقي أن يحقق ذلك لو كانت له في حياته، وبالتالي في شعره، شخصية ذات تصور عام واحد وطابع غالب بارز، نظراً لقدرته الكبيرة على النظم، وثقافته الواسعة.

9- بين المؤرخ والخطيب:

     وفي مراثي شوقي يظهر لنا عمل العقل المتأمل، والثقافة الواسعة، والصنعة المحترفة بأوضح مما يظهر لنا عمل الطبع والسجية والفطرة والسهولة، والأمر عند حافظ بالعكس، إذ إن عمل الطبع والسجية والفطرة والسهولة في مراثيه أوضح من عمل العقل المتأمل والثقافة الواسعة والصنعة المحترفة.

     وليس في هذا الأمر غرابة قط، فشوقي عميق الغور واسع الثقافة متقن لصنعته متفرغ لها، وهو أيضاً – لمجموعة متراكبة من طبيعته وظروفه – يغلب عليه البرود، ويصعب على الحدث أن يحرك أعماقه، لذلك نجد مراثيه يغلب عليها هذا ((البرود المثقف)) إذا جاز التعبير، الأمر الذي يعكس قدرته وثقافته وصناعته وقلة تفاعله مع الحدث أيضاً.

     وكما سبقت الإشارة يمكن اعتبار بعض الامتدادات العقلية في مراثيه، نقاط هروب واعية أو غير واعية يلجأ إليها الشاعر مدفوعاً بأمرين الأول: أن يستر عاطفته الباردة التي لا تكاد تجيش، والثاني: رغبته الملحة في المجد والخلود بسبب إعجابه بنفسه وشعره.

     أما حافظ فهو - هنا - على عكس شوقي، إنه رجل سهل قريب، أقرب إلى الفطرة والعفوية واليسر، تتحرك عاطفته مع الأحداث بيسر وتجيش بسهولة، فهو ينفعل فيرثي دون تعمق وافتعال، فيأتي رثاؤه تعبيراً صادقاً عن نفسه القريبة الطيبة المحزونة بأسلوب سهل وتناول قريب.

     لذلك يمكن أن يقال: إن مراثي شوقي تلذ لمن يروم اللذة العقلية والصنعة المتقنة وربما كان الأفضل فيها أن يقرأها الإنسان لنفسه، على العكس من مراثي حافظ التي تلذ لطالب الصدق والقرب واليسر الراغب في سماعها شعراً يلقى أو يتلى.

     وربما كانت قصائد الشاعرين في الإمام محمد عبده وسعد زغلول ومصطفى كامل خير ما يمثل ذلك. ومطلع قصيدة حافظ في الإمام هو:

سلام على الإســــــلام بعد محمد     سلام على أيامه النضرات[98]

     ومطلع قصيدة شوقي فيه هو:

مفســــر آي الله بالأمـــس بيـننــــــــا
               قم اليوم فسر للورى آية الموت[99]

     وقصيدة حافظ في سعد زغلول مطلعها:

إيه يــا ليـــــل هل شهدت المصــــــابـــا
               كيف ينصب في النفوس انصبابا[100]

     وقصيدة شوقي في سعد زغلول مطلعها:

شيعــــوا الشـــمس ومالوا بضحاها
               وانحنى الشرق عليها فبكاها[101]

     وقصيدة حافظ في مصطفى كامل مطلعها:

أيا قبـــــر هذا الضيف آمـــــــال أمة
               فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا[102]

     وقصيدة شوقي في مصطفى كامل مطلعها:

المشرقـــــان عـليــك ينتحبـــــان     قاصيهما في مأتم والداني[103]

     والنظر في مراثي الشاعرين الكبيرين لهؤلاء الأعلام الثلاثة يدل بوضوح كامل على عقل كل منهما، وثقافته، وصنعته، وخصائصه النفسية، ويكشف تماماً عن أهم المكونات المؤثرة فيه.

     ومما يتصل بهذا الأمر موقف الشاعرين من الجمهور من حيث الاهتمام به ومن حيث إلقاء الشعر عليه، أما شوقي فالمعروف أنه لم يقف على منبر قط، وأنه كان رجلاً تغلب عليه طبيعة المؤرخ المتأمل، الذي يفكر في المرثي لكنه لا يلبث أن يتجاوزه ليتحدث عن تأملاته وخواطره ومخاوفه، وعن عصر الفقيد وما ارتبط به من أحداث ووقائع، ولا يلبث – أيضاً – أن ينظر إلى التاريخ فتأتي الاستدعاءات التاريخية برموزها وأبطالها ووقائعها وعبرها، فكأن المرثي عنده مدخل لما يريد قوله، ولا ريب أن ثقافة شوقي التاريخية الجيدة، ورغبته الملحة في الشهرة والخلود مما ساعد على تأصيل هذا التوجه وتعميقه لديه.

     أما حافظ فقد كان شاعر جمهور بكل معنى الكلمة، يعد قصيدته، ويسمعها لنفسه أولاً، ثم يسمعها لرجل من أوساط الناس ثانياً اختاره اختياراً مقصوداً ليرى أثرها فيه ويجري تعديلاته فيها حسب هذا الأثر، ثم يلقيها ثالثاً بطريقته المؤثرة التي كان يحتشد لها أيما احتشاد فينال من إعجاب الجمهور ما ينال.

     ولهذا غلبت على شوقي طبيعة المؤرخ المتأمل وغلبت على حافظ طبيعة الخطيب الشعبي.

     أما البارودي فموقعه هنا بين صاحبيه، ذلك أنه لم يكن بعمق شوقي واحترافه وصنعته وبروده، ولم يكن أيضاً بقرب حافظ ويسره وعفويته.

10- المبالغة:

     وفي مراثي حافظ مبالغات كثيرة، يستحيل بعضها إلى عجائب مستغربة، والغريب أننا نجدها حتى في قصائده التي نظمها في أواخر عمره، وعلى كل حال لا يمكن أن تعد هذه المبالغة دليلاً على كذب عاطفته، ذلك أننا نجدها حتى في رثائه لمن يحبهم، ومرد الأمر شخصيته، وجماهيريته، وإحساسه الحاد بالحزن، وثقافته.

     أما شوقي فالأمر عنده على العكس، فالمبالغة عنده قليلة من ناحية، مستساغة من ناحية أخرى في غالب الأحيان، وهي من أثر ثقافته التراثية الواسعة أكثر مما هي من أثر طبعه وشخصيته، فهو كان بعيداً عن المبالغة في حياته ومواقفه، بل كانت الأمور كلها عنده بحساب دقيق لسببين، الأول: تركيبه النفسي، والثاني: عمله فترة طويلة موظفاً مهماً لدى أهم رجل في مصر يومذاك، وهو ما جعل حياته وعواطفه ومواقفه تسير وفق حساب دقيق، وتبتعد عن التصرفات الانفعالية وردود الفعل الحادة والسريعة، فالتقى هذا العمل الوظيفي مع الطبع المتأمل لينأى بشوقي عن المبالغة في كل شيء، الأمر الذي ظهر في شعره جلياً واضحاً.

11- البعد الوطني:

     أما البعد الوطني في مراثي الشعراء الثلاثة فهو يستحق وقفة متأنية، وبادئ ذي بدء يحمد لحافظ وشوقي أن في مراثيهما إعجاباً بالبطولة، وحثاً على العلم، ودعوة إلى الجد والابتكار وعلو الهمة، ومناداة بالوحدة الوطنية، ورغبة في خدمة الوطن والبذل له والذب عنه، وإشادة بمكارم الأخلاق من وفاء وتضحية وعطاء وإيثار وشجاعة، وإيقاداً للعزائم والهمم، وبثاً للأمل، وتحذيراً من الفرقة، وهجوماً على المحتل، ومطالبة بجلائه عن البلاد لتحقيق الاستقلال.

     وهذا كله يضفي على مراثيهما بعداً وطنياً جيداً، الأمر الذي لا نجده في مراثي البارودي، وهو في هذا ليس موضع لوم، إذ إن الأمر يتصل بطبيعة التطور بين جيل البارودي وجيل حافظ وشوقي، وحسب البارودي فخراً أنه البادئ في تجديد موضوعات الشعر العربي كما أنه البادئ في تجديد صياغته، فكأنه بذلك فتح الباب ورفع الراية وبدأ المسيرة التي زادها شوقي وحافظ اتساعاً ونمواً، وهذا التقدم الإيجابي في مضامين الشعر العربي وموضوعاته كسب حقيقي لحركة الشعر، ورقي بآفاقه واهتماماته.

     من أجل ذلك يظهر لنا شوقي وحافظ في مراثيهما شاعرين وطنيين لهما أثر محمود، حيث يحسنان توظيف الموقف توظيفاً إيجابياً لنصرة الوطن ورفعة شأنه وإعزاز رايته.

     فحافظ حين يرثي مصطفى كامل لا يكتفي بمجرد البكاء والتحسر ولكنه يوظف الموقف توظيفاً محموداً لصالح الوطن، نرى فيه الفقيد يحذر الناس من الخلاف الذي يعصف بالوطن، ونرى فيه الناس يستجيبون له فيقولون له:

أجـــل أيهــــا الداعي إلى الخيـــر إننــا
               على العهد مادمنا فنم أنت هانيا[104]

     وفي رثاء حافظ الآخر لمصطفى كامل يطلب من الناس أن يسيروا على مبادئه، وهي التفاتة وطنية مشكورة:

وأقســـــــموا أن تذودوا عن مبــــادئه
                    فنحن في موقف يحلو به القسم[105]

     ويبشر محمد فريد بأن مصر من بعده على طريق الجهاد الذي بدأه، لذلك له أن ينام هانئاً لأن الشعب يحصد الآن ما زرعه الفقيد من قبل:

إن مصــــراً لا تــــني عن قصــــــدها     رغـــم ما تـلــــقى وإن طــــال الأمـــد
جئـــــت عنـــها أحــــمل الـبشـرى إلى     أول البــــانين في هــــذا الـبـــــــــــــلد
فاستـــــرح واهنـــــأ ونــم في غبـــطة     قد بذرت الحب والشعب حصد[106]

     وموت سعد زغلول لن يوقف المسيرة الوطنية التي بدأها الفقيد، فالأمة من بعده ماضية في الكفاح:

حيـــن قـــال انتهيـــت قـلنــا بـدأنــــا
               نحمل العبء وحدنا والصعابا[107]

     ومقتل الطلبة المصريين في قطار في أوربا لن يوقف أبناء الوطن عن الإقدام، لأن دواعي المعالي كفيلة بذلك.

إن من يعـشـــــق أسبــــــاب العــلا     يطــــرح الإحجــــام عنـه والحـــذر
فــاطلبـــــوا العــــلم ولو جشــــمكم     فوق ما تحمل أطواق البشر[108]

     وشوقي يعمد هو الآخر إلى توظيف مراثيه توظيفاً وطنياً، وهذا التوظيف أوسع مما هو لدى حافظ وأغزر لكثرة مراثيه وقدرته على النظم وسعة ثقافته. والأمثلة على ذلك كثيرة في مراثيه. فعمر المختار بعد موته يؤدي مهمة وطنية لأنه:

جرح يصيح على المدى وضحية     تتـــلمس الحرية الحمراء[109]

     ومرثية شوقي في رثاء رياض باشا تنتهي بثلاثة أبيات يدعو فيها إلى الجد، ويحذر من الكسل ويقارن بين عمل المستعدين وتفريط الغافلين:

بني الأوطـــان هبـــوا ثم هبـــوا     فبعــــض الموت يجلبه السبــات
مشى للمجـــد خــلف البرق قوم     ونحــن إذا مشينــــا الســــلحفـاة
يعــــدون الـقــــوى براً وبحــراً     وعدتنا الأماني الكاذبات[110]

     والتصريح الذي حصل عليه عبدالخالق ثروت إنما هو خطوة أولى على طريق التحرير الكامل، سوف تتلوها خطوات أخرى:

تصريحك الخطوة الكبرى ومرحلة     يدنو على مثلها أو يبعد الأمد[111]

     ويختم شوقي قصيدته في رثاء فوزي الغزي بتحذير السوريين من الفرقة والنزاع، ويبصرهم بآثارهما الخطيرة:

من مبـــلغ عني شبـــــولة جــــلق     قــولاً يبـــر على الزمان ويصدق
قد تفســــد المرعى على أخواتـها     شـاة تند من القطيع وتمرق[112]

     وفي قصيدته في ذكرى مصطفى كامل يلوم المصريين لوماً عنيفاً ومشكوراً على النزاع والكيد والتناحر:

إلام الخــــلف بيــــــــــــنـكم إلاما     وهــذي الضجـــة الـكبرى علاما
وفيــم يكيــــد بعضــــكم لبعـــض     وتبدون العداوة والخصاما[113]

     واليوم الذي دفن فيه سعد زغلول هو يوم وفاة له، لكنه من جهة أخرى يوم بعث ونشور للأمة:

ما درت مصـــر بدفـــــن صبحـــــت
               أم على البعث أفاقت من كراها[114]

     ويطلب شوقي من شبان مصر أن يكونوا أبطالاً يتحملون المسؤولية فيقول لهم في رثاء الطلبة المصريين الذي قتلوا في حادثة قطار في أوربا:

عليـــكم لواء العلم فالفوز تحتـــــه     وليــس إذا الأعلام خانت بخـــذال
إذا مال صف فـاخلفـــــوه بآخــــر     وصـــول مســـاع لا ملول ولا آل
إذا جزع الفتيــــان في وقع حادث     فمن لجليل الأمر أو معضل الحال
فغنـــوا بهاتيك المصارع بيـــــنكم     ترنــم أبطـال بأيــام أبطال [115]

     وإذا كنا نجد هذا البعد الوطني المحمود لدى حافظ وشوقي ولا نجده لدى البارودي فإننا في مقابل ذلك نجد في مراثيهما ما يمكن أن يكون موضع لوم ومؤاخذة خلافاً للبارودي الذي لا نجد في مراثيه ما يلام عليه، ذلك لأن رثاءه ــ في الجملة ــ كان رثاء خاصاً بعيداً عن مزالق السياسة وملابساتها ومجاملاتها.

     أما حافظ فقد زل حين رثى الملكة فكتوريا[116]، ملكة بريطانيا حين ماتت عام 1901م، وبالغ فيما قاله عنها وأشاد بدولتها وقوة سلطانها، وحين بلغه ذات مرة أن الملك جورج الخامس ملك بريطانيا قد مات أخذ ينظم قصيدة في رثائه[117]، والقصيدتان سقطتان لحافظ بكل المعايير الوطنية. وقصيدة حافظ في دنشواي[118] زلة وطنية منه كان فيها ضعيفاً خائراً مستخذياً ولا يمكن التماس العذر له بأنه كان يعمد إلى الهزء والسخرية فالموقف لا يطيق ذلك أبداً. وقصيدة حافظ في السلطان عبد الحميد يوم عزله ((الانقلاب العثماني))[119] لا تليق به لما عرف به من وفاء، وهي دليل على عدم تثبته تثبتاً دقيقاً ينتهي به إلى رأي يثبت عليه. ولشوقي في مراثيه زلتان مستنكرتان، الأولى إشادته بالإنجليز في قصيدته عن شكسبير[120]، والثانية إشادته باللورد كتشنر[121] وبقومه الإنجليز، ولا يمكن قبول عذر لشوقي في هذا أبداً خاصة أن القصيدتين تعودان إلى عام 1916م، حيث كان الوطن عامة، وشوقي خاصة، في ظلم الإنجليز وحيفهم.

     أما قصيدة شوقي في دنشواي[122]، فهو فيها موضع اللوم، إذ إنها جاءت متأخرة من ناحية، باردة من ناحية أخرى، لكن موقفه يوم توديع اللورد كرومر[123]كان موقفاً محموداً وطنياً ودينياً، فكأنه مسح بموقفه الثاني إساءته في الموقف الأول.

     ولقائل أن يقول: إن بريطانيا كانت دولة عظمى، وكان نفوذها في العالم كبيراً جداً، وهيمنتها على مصر كبيرة، وهو ما جعل الشاعرين يضطران إلى مجاملتها ومداراتها، لكن هذا الرأي لا يقبل، لأن الذي لا يستطيع أن يأخذ بالعزيمة، له أن يأخذ بالرخصة، لكن ليس له أن يأخذ بالدنية. وعلى كل حال فإذا كنا نجد لشوقي وحافظ ما يؤاخذان عليه، فعلينا أن نتذكر أن الشاعر ليس بالضرورة مثلاً يحتذى في الجهاد والوطنية يأخذ نفسه بالعزيمة، ويدعو للبطولة، ويتقدم الصفوف، فتلك مواقف قلة نادرة من الرواد العظام الذين هم أشبه بالقديسين منهم بأي نوع آخر من الناس. وشوقي وحافظ ليسا من هذا الصنف، لكنهما مع ذلك يبقيان في مراثيهما شاعرين وطنيين محمودين.

---------------------------
[1] الشوقيات المجهولة 2/200.
[2] موقف شوقي والشعراء المصريين من الخلافة العثمانية، ص 9.
[3] شوقي شعره الإسلامي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1959م، ص 126.
[4] المرجع السابق، ص 122.
[5] المرجع السابق، ص 176.
[6] المرجع السابق، ص 160.
[7] الأدب العربي المعاصر في مصر، ص 53 -54.
[8] الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، دار الإرشاد، بيروت، 1970م، 1/166.
[9] المرجع السابق، 2/168.
[10] الديوان 1/237.
[11] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 122.
[12] محمود سامي البارودي، ص 165.
[13] الديوان 2/532.
[14] الديوان 2/558.
[15] الديوان 1/104.
[16] الديوان 1/237.
[17] الديوان 1/250.
[18] الديوان، ص 517
[19] الديوان، ص 497.
[20] الديوان، ص 514.
[21] الديوان، ص 560.
[22] الديوان، ص 580.
[23] الديوان، ص 490.
[24] الديوان 2/386.
[25] الديوان 2/398.
[26] الديوان 2/408.
[27] الديوان 2/412.
[28] الديوان 2/441.
[29]الديوان 2/447.
[30] الديوان 2/468.
[31] الديوان 2/480.
[32] الديوان 2/486.
[33] الديوان 2/496.
[34] الديوان 2/512.
[35] الديوان 2/594.
[36] الشوقيات المجهولة 1/245.
[37] الشوقيات المجهولة 1/303.
[38] الديوان 2/386.
[39] الديوان 2/386.
[40] الديوان 2/398.
[41] الديوان 2/512.
[42] الديوان 2/523.
[43] الديوان 2/532.
[44] الديوان 2/574.
[45] الديوان 2/496.
[46] الديوان 2/532.
[47] الشوقيات المجهولة 2/151.
[48] الديوان 2/578.
[49] الديوان 1/250.
[50] الديوان 3/394.
[51] الديوان 2/242.
[52] الديوان 1/248.
[53] الديوان 1/237.
[54] الديوان، ص 463.
[55] الديوان، ص 497
[56] الديوان، ص 133.
[57] الديوان 2/404.
[58] الديوان 2/412 و 2/467 والشوقيات المجهولة 1/69.
[59] الشوقيات المجهولة 1/92.
[60] الديوان 2/561 .
[61] الديوان 1/551.
[62] الشوقيات المجهولة 1/23.
[63] الديوان 2/458.
[64] الشوقيات المجهولة 1/50.
[65] الديوان 2/393.
[66] الديوان 2/574.
[67] الديوان، ص 504.
[68] الديوان 1/375.
[69] الديوان 1/237.
[70] الديوان 2/394.
[71] الديوان 1/154.
[72] الديوان 2/468.
[73] الديوان 2/594.
[74] الديوان 2/532.
[75] الديوان 2/503.
[76] الديوان 2/467.
[77] الديوان 1/160.
[78] الديوان 1/203.
[79] الديوان 1/328 والشوقيات المجهولة 2/200.
[80] الديوان 2/516.
[81] الديوان 2/578.
[82] الديوان 2/594.
[83] الديوان 2/578.
[84] الديوان 2/386.
[85] الديوان 2/503.
[86] الديوان 2/496.
[87] الديوان 2/468.
[88] الديوان 2/492.
[89] الديوان 1/154.
[90] الديوان 1/328.
[91] الديوان 2/344.
[92] الديوان 2/434.
[93] الديوان 1/201.
[94] الديوان 1/385.
[95] الديوان 1/203.
[96] الديوان 1/160.
[97] الديوان 1/328.
[98] الديوان، ص 458.
[99] الديوان 2/393.
[100] الديوان، ص 532.
[101] الديوان 2/578.
[102] الديوان، ص 463.
[103] الديوان 2/574.
[104] الديوان، ص 463.
[105] الديوان، ص 474.
[106] الديوان، ص 511.
[107] الديوان، ص 532.
[108] الديوان، ص 573.
[109] الديوان 2/344.
[110] الديوان 2/386.
[111] الديوان 2/427.
[112] الديوان 2/492.
[113] الديوان 2/538.
[114] الديوان 2/578.
[115] الديوان 2/516.
[116] الديوان، ص 450.
[117] الديوان، ص 562.
[118] الديوان، ص 334.
[119] الديوان، ص 357.
[120] الديوان 2/350.
[121] الديوان 2/441.
[122] الديوان 2/545.
[123] الديوان 1/369.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة