الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 12 - الموسيقى

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

12- الموسيقى:

     تحتل الموسيقى في شعر شوقي منزلة خاصة يتفوق بها ويتألق، ويمتاز عن سواه من الشعراء، فلشعره روعة موسيقية آسرة أمدته بها ثقافته الشعرية الواسعة وأذنه الرهيفة الدقيقة، وصلته بالغناء والمغنين، ومعرفته الغنية بالعربية ومفرداتها، لذلك لا يكاد يسمع الإنسان قصيدة من قصائده حتى يشعر أنه إزاء لحن موسيقي متكامل مصقول، بحراً وقافية وتراكيب، وموسيقى داخلية تزيد اللحن تنوعاً وغنى، بحيث تتدفق القصيدة كأنها ماء عذب جار.

     وإذا كان شوقي قد جعل المتنبي نصب عينيه، وظهر ذلك في حكمته، فإنه أيضاً جعل البحتري نصب عينيه، الأمر الذي يظهر في موسيقاه. ومنذ شباب شوقي المبكر نجد صلته بالبحتري، وهو اتصال واع مختار، جعل شوقي يشبه نفسه بالبحتري حين شبه الخديوي توفيق بالخليفة العباسي:

أحييت في فضل الملوك وعزهم     ما مات من أم الخـــــــلافة جعفر
إن الذي قد ردها وأعــــــــــادها     في بردتيك أعاد في البحتري[1]

     ومما يدل على حب شوقي للبحتري واحتذائه إياه في موسيقاه، مقدمته لقصيدته الشهيرة في الأندلس التي مطلعها:

اختـــــلاف النهار والليـل ينسي     اذكرا لي الصبا وأيام أنسي[2]

     فهو في هذه المقدمة يقول: ((وكان البحتري رحمه الله رفيقي في هذا الترحال وسميري في الرحال، والأحوال تصلح على الرجال، كل رجل لحال، فإنه أبلغ من حلّى الأثر وحيا الحجر ونشر الخبر وحشر العبر، ومن قام في مأتم على الدول الكبر، والملوك البهاليل الغرر، عطف على الجعفري حين تحمل عنه الملا وعطل من الحلى، ووكل بعد المتوكل للبلى، فرفع قواعده في السير وبنى ركنه في الخبر وجمع معالمه في الفكر، حتى عاد كقصور الخلد امتلأت منها البصيرة وإن خلا البصر، وتكفل بعد ذلك لكسرى بإيوانه حتى زال عن الأرض إلى ديوانه، وسينيته المشهورة في وصفه ليست دونه وهو تحت كسرى في رصه وصفه، وهي تريك حسن قيام الشعر على الآثار، وكيف تتجدد الديار في بيوته بعد الاندثار، قال صاحب الفتح القسي في الفتح القدسي بعد كلام: فانظروا إلى إيوان كسرى وسينية البحتري في وصفه، تجدوا الإيوان قد خرت شعفاته وعفرت شرفاته، وتجدوا سينية البحتري قد بقي بها كسرى في ديوانه أضعاف ما بقي شخصه في إيوانه، وهذه السينية هي التي يقول في مطلعها:

صنت نفسي عما يدنس نفسي     وترفعـــت عن ندى كل جبس

     والتي اتفقوا على أن البديع الفرد من أبياتها قوله:

والمنــــــايــا مواثــــل وأنــو شـــر     وان يزجي الصفوف تحت الدرفس

     فكنت كلما وقفت بحجر أو أطفت بأثر تمثلت بأبياتها، واسترحت من مواثل العبر إلى آياتها وأنشدت فيما بيني وبين نفسي:

وعظ البحتري إيوان كســـــرى     وشفتني القصور من عبد شمس

     ثم جعلت أروض القول على هذا الروي وأعالجه على هذا الوزن حتى نظمت هذه القافية المهلهلة وأتممت هذه الكلمة الريضة، وأنا أعرضها على القراء راجياً أن سيلحظونها بعين الرضاء ويسحبون على عيوبها ذيل الإغضاء)).

     ولشوقي قصيدة جاءت في الشوقيات المجهولة، وجهها عام 1906م إلى الخديوي عباس، وهو يصف قصيدته هذه بأنها ((بحترية المبنى أحمدية المعنى))[3].

     ومعنى ذلك أن شوقي كان على اتصال واع ومستمر بالشاعرين الكبيرين طيلة حياته، وهو اتصال أملاه الحب والإعجاب ودعاه إلى المتابعة والاحتذاء، وقد ظهرت آثار ذلك في شعر شوقي كله، لأنه فعله عن سابق إصرار وتصميم، أما آثار المتنبي فظهرت في حكمة شوقي التي أكثر فيها، وظل فيها يبدئ ويعيد، وأما آثار البحتري فظهرت في لغته الرائعة المصفاة، وموسيقاه الساحرة الآسرة. ولذلك جعل الدكتور طه وادي أساتذة شوقي الملهمين ثلاثة هم المتنبي والبحتري وأبو نواس[4]. أما الأستاذ عباس حسن فإنه يصف شوقي بأنه ((بحتري زمانه))[5]. ويقرن الأستاذ أحمد محفوظ بينه وبين البحتري حين يتحدث عن لغته فيقول: ((وشوقي عندي يتبع البحتري في هذا، فهما اثنان لم يظفر الشعر العربي بضريب لهما في جمال الأسلوب وإن كان البحتري يفضله قليلاً لأنه أكثر ثروة وأفضل ذوقاً في هذا الثراء اللفظي))[6].

     والأستاذ عباس العقاد حين أشاد بمزايا البارودي، وقرر أن هذه المزايا ربما رجحته على شوقي في ناحيتها، استدرك ليقرر ((ولكن شوقياً يعوضها بما يضارعها أو يفوقها في آياته ومأثوراته وهو سلاسة اللفظ وعذوبة السياق ورقة النغمة الموسيقية))[7].

     أما الدكتور شوقي ضيف فإنه يشيد كثيراً بموسيقى شوقي، ويكاد يجعلها آيته الكبرى في صناعته ويربط بين هذه القدرة الموسيقية لدى الشاعر وبين البحتري أكثر من مرة. يقول: ((ولا أبالغ إذا قلت إنني لا أستمع إلى قصيدة طويلة لشوقي حتى أخال كأنني أستمع حقاً إلى سيمفونية فموسيقاه تتضخم في أذني وأشعر كأنها تتضاعف وكأن مجاميع من مهرة العازفين يشتركون في إخراجها وفي إيقاع نغماتها، ولا أرتاب في أن ذلك يرجع إلى ضبطه البارع لآلات ألفاظه وذبذباتها الصوتية، وليست المسألة مسألة حذق أو مهارة فحسب، بل هي أبعد من ذلك غوراً، هي نبوغ وإلهام وإحساس عبقري بالبناء الصوتي للشعر. وهذه الروعة في الموسيقى تقترن بحلاوة وعذوبة لا تعرف في عصرنا لغير شوقي، وربما كانت تلك آيته الكبرى في صناعته، فأنت مهما اختلفت معه في تقدير شعره لا تسمعه حتى ترهف له أذنك، وحتى تشعر كأنما يحدث فيها ثقوباً، هي ثقوب الصوت الصافي الذي تهدر به المياه بين الصخور، والصوت يعلو تارة، فيشبه زئير البحار حين تهيج، وينخفض تارة فيشبه قطرات الفضة التي تسقط من مجاديف الزوارق وهي تجري سابحة على صفحة النيل. فالموسيقى غالباً رنانة ضخمة حلوة، إذ كان شوقي يعرف دائماً كيف يستخرج من ألفاظ اللغة كل ما تملك من رنين أو جرس، أو بعبارة أدق كل ممكناتها الموسيقية، وكانت تسعفه في ذلك ثقافة واسعة باللغة حتى ليحكي كاتبه أنه كان يحفظ مواد كاملة من المعاجم اللغوية، وهذه أول خطوة يخطوها من يريدون أن يمتلكوا ناصية اللغة، وهي وحدها ليست كافية، فلابد من الذوق المرهف الدقيق، ولابد من الأذن، ولا نقصد الأذن الخارجية وإنما نقصد أذن الشاعر الداخلة، فللشعراء آذان باطنة وراء آذانهم الظاهرة، يسمعون بها كل حركة صوتية وكل همسة لفظية، وبمقدار سلامة هذه الأذن وقدرتها على التمييز بين الألحان والأنغام يكون تفوقهم الصوتي وحلاوتهم الموسيقية، وقد امتلك شوقي خير أذن باطنة واعية في شعرنا الحديث، فأنت لا تكاد تقرأ فيه حتى تؤمن بأن شعره أقرب إلى الموسيقى منه إلى أي فن آخر، بل حتى تؤمن أن الشاعر إن لم يمتلك هذه المقدرة فأولى له أن يهجر الشعر وأن يبتعد عن مواكبه الساحرة. وهذا نفسه ما حير معاصريه من شعراء الشرق العربي، وجعلهم يحنون رؤوسهم أمام فنه، ويهتفون له من أعماق قلوبهم إجلالاً وإكباراً، بل لقد بايعوه بيعتهم الكبرى، وما ذلك إلا لأنه خلب ألبابهم بموسيقاه التي نفذت تأثيراتها إلى صميم أفئدتهم))[8].

     بل إن الدكتور شوقي ضيف يجعل موسيقى شوقي بتفوقها وتفردها، هي السبب الذي حفظ للشاعر خلوده وحماه من السقوط في غبار النسيان. يقول: ((وهذا الجانب في صناعة شوقي هو الذي أمسك بشعره دون السقوط منذ لمع نجمه في سماء الشعر المصري، فقد كان به يأسر النفوس والقلوب، حتى حين يهمل العناية بالمعنى، وحتى حين لا يهتم بشعره الاهتمام الذي نعهده له، فما تلبث حاسته الموسيقية أن تكسو شعره بهجة، وما يلبث الناس أن يرددوه مشدوهين، وأن يقفوا في صفه مدافعين، ولم يكن في حاجة إلى دفاع، فشعره كتابه أو دفاعه، وموسيقاه آيته أو معجزته، وهي معجزة كان يخترق بها الصفوف وتعنو له بها الوجوه))[9].

     وبعد هذا الثناء الكبير على موسيقى الشاعر، يعود الدكتور شوقي ضيف ليربط بينه وبين البحتري، يقول عنه: ((أما البحتري فكان يعشق موسيقاه، واتخذه في كثير من شعره إبرة البوصلة التي توجهه يميناً وشمالاً وهو يضرب على قيثارته وخاصة حين يصف مواكب الخديوي، وحين يقف على رسوم القصور والأطلال، وهو نفسه يعلن ذلك في مقدمته لقصيدته السينية التي وصف فيها قصر الحمراء بغرناطة، وبكى الحضارة الأندلسية))[10].

     وبعد أن يورد الدكتور شوقي ضيف جزءاً من مقدمة شوقي لقصيدته التي سبق أن أشرنا إليها وأوردنا جزءاً من مقدمتها، يقول: ((وهذه الإشادة ببلاغة البحتري ليست مجرد لعب بالألفاظ، فالبحتري يقع من شعر شوقي لا في هذه السينية وحدها بل في قصائده كلها موقع مفاتيح ((البيان)) ممن يضرب عليها، فهو موسيقار اللغة العربية في أزهى عصورها أي العصر العباسي، فبديهي أن يعكف عليه موسيقارنا الجديد، وأن يستمد من سموه الموسيقي، ومن نغماته وألحانه، وطريقته في الخفة بالصوت والشدة والارتفاع به والانخفاض والتحليل فيه والتركيب، حتى تستوي له موسيقاه بألفاظها وحركاتها ورنينها وتموجاتها))[11].

     ويعود مرة ثانية ليقول: ((وقديماً قالوا إن البحتري يجري على عمود الشعر العربي، يقصدون أن لهذا الشعر هيئة خاصة في تراكيبه وصياغاته، وأن البحتري قد ارتسمت هذه الهيئة في ذهنه، وصدر عنها في شعره، كما يقصدون في الوقت نفسه أن موسيقاه صافية ليس فيها عقد الثقافة والفلسفة التي عاصرته، ونستطيع على هذا القياس مع شيء من الفارق أن نقول إن شوقي يجري على عمود الشعر العربي، فقد أوتي من علمه بصياغاته وتآليفه ما لم يؤته شاعر منذ البحتري، على كل حال شوقي هو بحتري شعرنا الحديث))[12].

     أما الأستاذ صالح جودت الذي يرى أن الموسيقى هي المادة الأولى في ملاط الشعر، فإنه يجعل شوقي ((سيد القدامى والمحدثين)) بسبب موسيقاه الفنية[13].

     وهكذا تتلاقى آراء الدارسين في الإشادة بموسيقى شوقي، وتتلاقى أيضاً في تبيان صلتها وصلة صاحبها بالبحتري، الأمر الذي نجده في قصائده، بحيث يشعر المرء وهو يتملى موسيقاه أنها خالصة سائغة مصفاة، وبحيث تكثر الشواهد الدالة على ذلك في رثائه وفي غير رثائه.

     ويلاحظ أن شوقي كان يؤثر في مراثيه اختيار البحور كثيرة التفعيلات، كالطويل والبسيط والمتقارب والوافر والخفيف والكامل، ويندر أن نجد عنده البحور المجزوءة، وهذه البحور خير عون له في استيعاب المعاني التي يريدها ذلك أنها بامتدادها يمكن لها أن تتضمن الفكرة التي يريد إيصالها لنا.

     فهو حين يريد أن يصور جسد عمر المختار البالي الذي دفن في برقة، يختار البحر الكامل الذي استوعب المعاني التي يريدها استيعاباً جيداً:

في ذمة الله الـكريـــــم وحفــــظه     جسد ببـــرقة وســــد الصحــراء
لم تبق منه رحى المعارك أعظماً     تبــــلى ولم تبــــق الرماح دمــاء
كرفـــــات نســــر أو بقية ضيغم     باتــــا وراء السافيات هباء[14]

     إن الشطر الأول من البيت الأول يجعل الشهيد أمانة عند الله تعالى تحفظ وتصان، والشطر الثاني منه يفيدنا أن الفقيد دفن في صحراء برقة، والبيت الثاني يحتمل معنى طويلاً فيه رحى الوقائع التي لم تبق من الشهيد إلا العظام التي تبلى، والرماح التي استنزفت دماءه، والشطر الأول من البيت الثالث يجعل الشهيد رفات نسر أو بقية ضيغم أما الشطر الثاني منه فيخبرنا فيه شوقي أنهما صارا هباء وراء الرياح. وهكذا استوعبت البحر الكامل في ثلاثة أبيات جملة معان أراد الشاعر إيصالها لنا.

     ويقدم لنا شوقي الدنيا في رثائه يعقوب صروف في هذه الأبيات من البحر الطويل، بتفعيلاته الثمانية الممتدة:

سمــــاؤك يا دنيــــا خداع ســــــراب
               وأرضـــك عمران وشيــــــك خراب
وما أنت إلا جيــــفة طال حولهـــــــا
               قيـــام ضبـــاع أو قعــــود ذئـــــــاب
وكم ألجـــأ الجـــوع الأسود فأقبـــلت
               عليـــك بظفـــــر لم يعــــف ونــــاب
قعدت من الأظعان في مقطع السرى
               ومروا ركابـــاً في غبار ركاب[15]

     فالبحر الطويل بتفعيلاته الكثيرة استوعب في أربعة أبيات مجموعة من المعاني التي جعلها شوقي مطلعاً للقصيدة ومدخلاً لرثائه يعقوب صروف، فسماء الدنيا سراب خادع، وأرضها عمران يكاد يخرب، وهي جيفة يكثر حولها مرأى الضباع التي تقوم والذئاب التي تقعد، وهي تدفع أبناءها إلى الفتك الشرس كما تفعل الأسود إذا استبد بها الجوع، ثم هي تجلس وتحسن اختيار مجلسها الذي تراقب فيه أجيال البشر وهم يفدون إلى الموت قافلة بعد قافلة.

     ولما كان خوف الموت يسكن في قلب شوقي بشكل دائم، أخذ يطلب من رياض باشا أن يخبره عما يرجو أن يسكن من مخاوفه في هذه الأبيات من البحر الوافر:

ســـألتـك ما المنـــــــية أي كــأس
               وكيـــف مذاقهـــــا ومن الســــقاة
ومــــاذا يوجس الإنســــــان منها
               إذا غصــت بعـلقــــمها اللهــــــاة
وأي المصــــرعين أشـــد مــوت
               على عـلم أم المـــوت الـفـــــوات
وهل تـقــــع النفوس على أمــــان
               كما وقعــــت على الحــرم القطاة
وتخــــلد أم كزعم القوم تبــــــلى
               كما تبلى العظام أو الرفات [16]

     ففي هذه الأبيات الخمسة استطاع شوقي أن يفرغ كل مخاوفه في شكل أسئلة متلاحقة يوجهها إلى المرثي الذي ذاق كأس الموت قبله ليطمئن على ما سوف يحل به، فهو يسأله عن المنية، وأي كأس هي، وعن طعمها، وعن سقاتها، وعن شعور المحتضر إذا شعر بمرارتها، وعن الموت المعلوم والموت المفاجئ وأيهما أيسر، وما مصير النفوس بعد الموت أتأمن أم تخاف وتخلد أم تبلى؟ ولا ريب أن البحر الوافر أعان الشاعر على استيعاب هذه المعاني واستقصائها وحشدها.

     ويبدأ شوقي قصيدته في عبد العزيز جاويش بهذه الأبيات من البحر المتقارب:

أصاب المجاهد عقبى الشهيـــــد
               وألقى عصاه المضاف الشــــريد
وأمسى جمـــــاداً عدو الجـــمود
               وبـــات على القيد خصم القيــود
حــــداه السفـــــار إلى منـــــزل
               يـــلاقي الخفيـــــف عليه الوئيـد
فقـــر إلى موعــــد صــــــــادق
               معـــز اليقيـــن مذل الجحـــــود
وبات الحواري من صاحبيــــه
               شهيدين أسـرى إليهم شهيد[17]

     لقد وظف شوقي البحر المتقارب بتفعيلاته الثمانية توظيفاً جيداً جعله يتسع للمعاني التي يريد أن يبدأ بها قصيدته، فالفقيد المجاهد كانت عاقبته خيراً إذ فاز بما يفوز به الشهيد، والفقيد الشريد المطارد ألقى عصاه فكف عن التجوال. فصار جماداً وكان عدواً للجمود وأمسى مقيداً وكان حراً يأبى القيود، ولقد استجاب إلى داعي السفر الذي أهاب به أن يمضي إلى منزل يتلاقى فيه المسرع مع المبطئ ففعل، وآل أمره إلى نهاية الإنسان التي تعز المؤمن وتذل الجاحد، والتقى بصاحبيه اللذين سبقاه مصطفى كامل ومحمد فريد فصاروا ثلاثة شهداء تجمعهم وطنية هي في قدسيتها كالدين.

     ويختار شوقي في رثائه لعبد الخالق ثروت البحر البسيط ليقول له:

نم غير باك على ما شــدت من كرم
               ما شيـــــد للحق فهو الســـرمد الأبد
يـا ثروة الوطن الغــــالي كفى عظة
               للنــــاس أنك كـنـــــز في الثرى بدد
لم يطغك الحـــكم في شتى مظاهره
               ولا استخفــــك لين العيــش والرغد
تغـــدو على الله والتــــاريخ في ثقة
               ترجــو فتقــــدم أو تخــشى فتتـئـــد
نشـــأت في جبهة الدنيا وفي فمهــا
               يدور حيــــث تدور المجد والحسـد
لكـــل يوم غد يمضي بروعتـــــــه
               وما ليومك يا خير اللدات غد[18]

     لقد استطاع شوقي أن يحشد في هذه الأبيات الستة مجموعة من المعاني من خلال البحر البسيط ذي التفعيلات الثمانية، ليبشره فيها أن ما شاده من كريم الأعمال خالد فله أن ينام في قبره سعيداً غير محزون، وليجعله – مستفيداً من اسمه – ثروة للوطن يتعظ بها من يلتمس العبرة إذ استحالت إلى كنز مبدد في التراب، وليشهد له أنه لم يغتر بالحكم وسطوته ولا بالمال والعيش الرخي، وأنه كان يراقب الله تعالى فيما يعمل وينظر إلى التاريخ فيما يريد صنعه فهو بين هذا وذاك في إقدام وإحجام، والفقيد لابد أن يظل متشحاً بالمجد لكريم فعاله مصاباً بالحسد لغيظ العاجزين منه، وأخيراً يتوجع شوقي للفقيد العزيز، تربه وصديقه إذ إن لكل حزن يوماً يمضي به، لكن الفقيد يتجدد عليه الحزن ويستمر.

     وفي رثائه لأمين الرافعي يختار شوقي البحر الخفيف ليبدأ قصيدته قائلاً:

مــال أحبـــــابه خليـــلاً خليـــلاً     وتــولى اللـــــــــدات إلا قليـــلا
فصلوا أمس من غبار الليــــالي     ومضى وحـــده يحث الرحيــلا
سكنـــت منـــهم الركاب كأن لم     تضطرب ساعة ولم تمض ميلا
جـــردوا من منازل الأرض إلا     حجــــراً دارساً ورملاً مهيـــلا
وتعـــروا إلى البلى فكســـــاهم     خشــنة اللحد والدجى المسدولا
في يبــــاب من الثرى رده المو     ت نقيـــــــاً من الحقـود غسـيلا
طرحوا عنده الهمـوم وقـــــالوا     إن عبء الحياة كان ثقيلا[19]

     ففي هذه الأبيات السبعة التي جعلها شوقي مطلعاً لقصيدته استطاع أن يحشد لنا من خلال البحر الخفيف، مجموعة من المعاني والأفكار المناسبة لرثاء الرافعي، فالأحباب مضوا على التوالي إلى الموت وتركوا المرثي وحده يحث طريقه الموحش دون رفيق، وفي مدينة الموتى تسكن حركة القافلة كأنها لم تضطرب ساعة من النهار ولم تقطع ميلاً من الأرض، والراحلون تركوا وراءهم كل ما جمعوه في منازل الأرض ولم يبق لهم إلا حجر دارس ورمل مهيل، فصاروا إلى البلى الذي كساهم من بعد عز الدنيا لحداً خشناً وظلاماً دامساً، ثم هم بعد ذلك متساوون إزاء التراب الذي صاروا إليه وهو تراب نقي من أحقاد الدنيا، بريء من عداوتها، لذلك وجدوا به سعادة فطرحوا عنده هموم الحياة وأعباءها التي تبين لهم أنها كانت صعبة ثقيلة. وهكذا وفق شوقي في توظيف البحر الخفيف ليتسع لمعانيه التي أراد أن يقولها.

     ويلاحظ أن شوقي كان يؤثر اختيار القوافي المطلقة، على القوافي المقيدة، وهذا الاختيار من شوقي اختيار موفق لأن القصيدة تنتهي بما يساعد قارئها ومنشدها على التغني والترنم فكأنه يعبر بذلك عن أحزانه، إذ تأخذ الكلمات فيه مداها إلى الآخر بخلاف القوافي المقيدة، ولذلك كانت القوافي المطلقة عنده أكثر من القوافي المقيدة، وخاصة في مراثيه التي يجود فيها ويتفوق، وهو ما يؤكد أن هذا الاختيار اختيار واع من قبل الشاعر تمليه ملكته الموسيقية الصافية، فكأنه يسمع نفسه قصيدته قبل أن يسمعها الناس.

     ومما ينبغي الوقوف عنده الموسيقى الداخلية عند شوقي، ذلك أنها تتكامل مع الموسيقى الخارجية لتخرج لنا قصائده في أجمل لحن وأروعه، نجد ذلك في حسن انتقائه لألفاظه وحسن سبكه لعباراته بحيث يشعر القارئ أن البيت يتدفق تدفقاً متسلسلاً سهلاً طبيعياً كأنه جدول لا كدر فيه. يقول شوقي في رثائه سيد درويش:

بـلبـــــــل إســكـنــــــــــــــدري أيـكـه
               ليس في الأرض ولكن في الســــــماء
هبـــــــط الـشــــــاطئ من رابيـــــــة
               ذات ظــــل وريـــــاحيـن ومـــــــــاء
يحــــمل الـفــــن نميــــراً صـــافـيـــاً
               غـــــدق الـنـــبع إلى جيـــل ظمـــــاء
حــــل في واد عـلى فسحـتــــــــــــــه
               عـــزت الطيـــــــر به إلا الحـــــــداء
يمـــلأ الأسحــــــار تغـــــــــــريداً إذا
               صرف الطير إلى الأيك العشاء[20]

      فالكلمات في غاية الأنس والسلاسة والعذوبة، والتراكيب مسبوكة سبكاً متوالياً لا تعقيد فيه ولا صعوبة، ولذلك تخرج الألفاظ بسهولة من مخارجها في الفم ليحسن وقعها في سهولة أيضاً في الأذن، وتقع التراكيب موقعاً لا نبو فيه ولا غرابة في الأذن كما خرجت مثل ذلك من الفم لتؤدي مهمتها الموسيقية مع الألفاظ. وهذا الأمر كثير جداً عند شوقي بحيث يكاد يكون السمة العامة لشعره ومتابعته باستمرار تفضي إلى تكرار نمطي.

      والحقيقة أن الألفاظ عند شوقي مختارة بعناية لذا يسهل التلفظ بها ويلذ التسمع لها، ومثل ذلك جمله وتراكيبه التي تتدفق في سهولة ويسر وتتابع ليسهل التلفظ بها ويلذ التسمع لها هي الأخرى أيضاً، وبذلك تتكامل موسيقى الألفاظ وتتناغم وتتسق مع موسيقى الجمل والتراكيب لتكون لنا منها جميعاً موسيقى داخلية رائعة.

      ومما يروعنا في الموسيقى الداخلية لشوقي ذلك التساوق والتقابل والتماثل في الألفاظ والجمل، وهو ما يضيف بعداً جديداً لموسيقاه يضاعف من إيحاءاتها الإيقاعية ويثري ألحانها وأنغامها.

      رثى شوقي مصطفى فهمي، وكان المرثي قد رزق البنات وحرم الأولاد، فخاطبه شوقي قائلاً:

أأبــــــا البنات رزقتــهن كرائماً    ورزقت في أصهـارك الكرمــاء
لا تذهبــن على الذكور بحسـرة     الذكر نعم ســــلالة العظــــــماء
وأرى بنــاة الدهر يثـــلم مجدهم     ما خلفوا من طالح وغثــــــــــاء
إن البنــــات ذخــائر من رحـمة     وكنوز حب صــــادق ووفـــــاء
والســـاهرات لعـــــلة أو كبــرة     والصــــابرات لشــــــــدة وبلاء
والباكيــــاتك حين ينقطع البــكـا     والزائراتك في العــراء النــائي
والذاكراتــك ما حيين تحدثــــــاً     بســوالف الحرمــــــات والآلاء
بــالأمس عزاهن فيــك عقـــائل     واليوم جاملهن فيك رثائي[21]

     فنحن هنا إزاء موسيقى داخلية لا تخطئها الأذن، فالبنات ساهرات صابرات باكيات زائرات ذاكرات، وهذه الكلمات التي وصف بها شوقي البنات على وزن واحد، وهي تقع في الأذن موقع الشارة الموسيقية اللازمة التي تتكرر في أول الشطر الأول، وأول الشطر الثاني، وكلمات (علة وكبرة وشدة) في البيت الخامس هي ذات وزن موسيقي واحد تأتي لتمنح الإيقاع المتكرر، وفي البيت الأخير نجد نوعاً من التقابل الموسيقي بين الشطرين يأتي من كلمة في الشطر الأول تقابلها كلمة مماثلة في الشطر الثاني فكلمة (بالأمس) في الشطر الأول تقابل كلمة (واليوم) في الثاني، وكلمة (عزاهن) تقابل كلمة (جاملهن) وكلمة (فيك) متكررة وكلمة (عقائل) تقابل كلمة (رثائي) وهذا التقابل يمنح الأذن موسيقى داخلية جديدة إضافة إلى موسيقى البحر والقافية ليكون أثرها أكبر.

     وفي رثاء شوقي لحافظ نلمس الموسيقى الداخلية لا بآذاننا فقط، بل بكل حواسنا:

ووددت لو أني فــــداك من الـــردى     والكــــاذبون المرجفــــــون فــدائي
النــــاطقون عن الضغيـــنة والهوى     الموغرو الموتى على الأحياء[22]

     فكلمة (فداك) في الشطر الأول تقابلها كلمة (فدائي) في الشطر الثاني، وكلمتا (الكاذبون) و (المرجفون) تأتيان معاً بصيغة جمع المذكر السالم ليتكرر إيقاعهما، وكذلك كلمة (الناطقون) في البيت الثاني. وتأتي سهولة قراءة البيتين لألفاظهما وتراكيبهما لتجتمع مع هذه التقابلات الموسيقية فتزيد في إيقاع الموسيقى وتراً جديداً.

     ويقول شوقي عن الموت في رثائه اللورد كارنافون:

هو منــزل الســـــاري وراحة رائح     كثـــر النهـــــار عليه في إتعــــــابه
وشفــــاء هذي الروح من آلامهـــــا     ودواء هذا الجسم من أوصابه[23]

     فعبارة (منزل الساري) تماثل وتقابل عبارة (راحة رائح) من حيث الوزن ومن حيث الإضافة وهذه نغمة موسيقية واضحة، والشطران في البيت الثاني يتقابلان، فكلمة (شفاء) تقابل كلمة (دواء) وكلمة (هذي) تقابل كلمة (هذا) وكلمة (الروح) تقابل كلمة (الجسم) وكلمة (الآلام) تقابل كلمة (الأوصاب) والتقابل واضح من حيث عدد الكلمات وأوزانها وإضافاتها.

     ومن ذلك قول شوقي في وصف الفرعون المكتشف وما في قبره من عجائب وغرائب:

المنـــــــدل الفياح عود سريـره     واللؤلؤ اللماح وشي ثيـــــــابـه
بنيان عمران وصرح حضارة     في القبر يلتقيان في أطنــــــابه

     والتماثل والتقابل اللفظي واضح في البيت الأول كلمة كلمة، تعريفاً ووصفاً، وإضافة ووزناً، كما هو واضح في الشطر الأول من البيت الثاني.

     والأمر نفسه نجده في قول شوقي عن الموت في القصيدة نفسها:

نـــــــام العدو لديه عن أحقاده     وسلا الصديق به هوى أحبابه
الراحة الكبــــرى ملاك أديمه     والســــلوة الطولى قوام ترابه

     فالتقابل في التركيب اللغوي بين، فعلاً واسماً وإضافة ووزناً وعدد كلمات، وهو ما يلقي في الأذن موسيقى داخلية عذبة.

     إن عناصر الموسيقى الداخلية في مراثي شوقي تتشكل من لغته المستوية الرائعة بألفاظها وتراكييها، ومما يبثه فيها من تماثل، ومما يشيعه فيها من تقابل، حيث نظفر بوقع داخلي كاللازمة الموسيقية في الأغنية تتكرر وتحلو، فتتسق الأنغام وتتكامل الألحان، وتشترك كلها في إخراج معزوفة جميلة رائعة. والموسيقى الداخلية مع الموسيقى الخارجية في مراثي شوقي تجعلان من شعره صرحاً باذخاً من الموسيقى تشترك فيها شتى الألحان والأوتار، وهو ما يضفي على شعره طلاوة خاصة وروعة ينفرد بها، وهذه الموسيقى هي إحدى مكونات فنه وعبقريته في بناء قصائده بناء ما يزال يروع القارئ والمنشد والسامع على السواء. يقول الدكتور شوقي ضيف عن تفرد شوقي في ملكته الموسيقية:((ولسنا نعرف في العصر الحديث من تحولت إليه الملكة العربية بجميع خصائصها الصوتية والموسيقية على نحو ما نجد عند شوقي، فقد تشرب روح العربية وامتلك أزمتها اللغوية، يصرفها كما يشاء له الشعر والفن))[24]. والذي ينظر في شعر شوقي، ويتملى موسيقاه، ويحسن الإصغاء إلى ألحانه لا يجد في هذا الحكم أي مبالغة، فالشواهد لدى شوقي على صحته هي من الكثرة بحيث تغطي كل شعره، في المراثي وفي غيرها، إن الموسيقى عند شوقي من أهم مكونات عبقريته، فقد كان فيها ملهماً كل الإلهام، موفقاً كل التوفيق، ولذلك كان شعره أصلح للغناء من سواه لما فيه من ثراء ألحان وتنوع أنغام، ولذلك كان للدكتور طه وادي أن يقول بحق: ((إن الأداء اللغوي للجملة الشعرية عند شوقي، به سمة مميزة معجزة، تذكرك بالمتنبي وأساليبه الشعرية النقية، وفيها من الجرس الموسيقي المصفى ما يدل على عبقرية وقدرة خلاقة، من هنا كان شعره من أصلح النماذج للغناء والتلحين))[25]، وكان للدكتور شوقي ضيف أن يقول عن شوقي:((خلق شوقي موسيقياً،له أذن لا تبارى في سماع الألفاظ وتأليف الألحان الشعرية، لو أنه لم يتجه إلى الشعر لكان مغنياً أو موسيقاراً من الطراز الأول))[26].

-------------
[1] الديوان 2/54.
[2] الديوان 1/203.
[3] الشوقيات المجهولة 2/292.
[4] شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص 34.
[5] المتنبي وشوقي، ص 91.
[6] حياة شوقي، ص 100 - 101.
[7] مهرجان أحمد شوقي، ص 5.
[8] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 44 – 45.
[9] المرجع السابق، ص 46.
[10] المرجع السابق، ص 72 – 73.
[11] المرجع السابق، ص 73 – 74.
[12] المرجع السابق، ص 81.
[13] بلابل من الشرق، دار المعارف، القاهرة، سلسلة اقرأ، العدد 355، 1972م، ص 150.
[14] الديوان 2/344.
[15] الديوان 2/373.
[16] الديوان 2/386.
[17] الديوان 2/408.
[18] الديون 2/427.
[19] الديوان 2/496.
[20] الديوان 2/333.
[21] الديوان 2/354.
[22] الديوان 2/359.
[23] الديوان 2/377.
[24] فصول في الشعر ونقده، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1977م، ص 336.
[25] شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص 20.
[26] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 165.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة