الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 03 - شوقي والموت


 الفصل الأول

(الرثاء في شعر شوقي)

03 - شوقي والموت:

     عاش شوقي حياة مرفهة مترفة في جميع مراحل حياته، ولم تضيق عليه الدنيا إلا في فترة نفيه للأندلس تضييقاً يسيراً وكأنها تداعبه فيه، وكان رجلاً محباً للحياة، راغباً فيها، أوتي من المال والجاه والنفوذ والشهرة ما جعله يزداد كلفاً بها وحرصاً عليها، لذلك كان يخاف الموت كثيراً، وكان يتساءل عن ساعة الموت لأنها ترعبه، وكان يرى أن كل شيء قبلها أو بعدها هين، كما كان كثير التساؤل عما يؤول إليه جسد الميت في قبره.

     يقول الأستاذ كامل الشناوي وهو يتحدث عن جزع شوقي من الموت ((وكان شوقي يحب الحياة ويفزع من الموت، إذا سمع بموت أحد أصدقائه سأل: كيف مات؟ وهل كان يشكو من الكبد؟ هل كان عنده ضغط؟ هل كانت شرايينه متقلصة؟))[1].

     وواضح من رواية الأستاذ الشناوي كيف كان شوقي يحب الحياة بحيث يسأل في استقصاء يحاول من خلاله التأكد أنه غير مصاب بالمرض الذي أودى بالصديق، ليعيش مع الأمل أنه لا تزال أمامه فسحة من الوقت قبل الموت.

     من جانب آخر كان شوقي يكثر من السؤال عما بعد الموت، كأنه يريد أن يطمئن إلى مصيره بعد وفاته التي يهابها والتي يريد تأخيرها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يقول الدكتور أحمد محمد الحوفي: ((إذا كان شوقي أكثر شعراء العربية رثاء، فإنه كان أكثرهم مساءلة للموتى عن الموت وعما بعده، فلطالما توقف في مراثيه ليسأل الموتى عن حقيقة الموت والروح سؤال الحفي القلق الحيران المشتاق إلى أن يعلم ما يجهل))[2].

     وفي مراثي شوقي نصوص كثيرة تؤيد ما قاله الشناوي والحوفي، ففي قصيدته التي قالها في رثاء شكسبير يخاطبه قائلاً:

بمن أماتك، قل لي: كيف جمجمــة     غبراء في ظلمات الأرض جوفـاء
كانت ســــماء بيــــــان غير مقلعة     شؤبـــوبها عسل صاف وصهبــاء
فأصبــحت كأصيص غير مفتـقـــد     جفته ريحــــــانة للشعر فيحــــــاء
وكيف بات لســــان لم يدع غرضاً     ولم تفتـــــه من البـــــاغين عوراء
عفـــا فأمسى ذنابى عقــــرب بليت    وسمّها في عــروق الظلم مشـــــاء
وما الذي صنعت أيدي البـلى بيـــد    لهــــا إلى الغيب بالأقـــــــلام إيماء
في كل أنمــــلة منها إذا انبجســـت     بــــرق ورعد وأرواح وأنـــــــواء
أمست من الدود مثل الدود في جدث   قفـــــازها فيه حصباء وبوغــــــاء
وأين تحت الثـــــرى قــلب جوانبه     كأنهن لوادي الحــــق أرجـــاء[3]

     إن الشاعر حريص على الاستفسار من شكسبير عما بعد الموت، يطلب منه أن يقربه له كما قرّب أمر الحياة  ووصفها، ويستحلفه بالله عما أصاب رأس أديب عظيم في التراب وماذا حل بلسانه ويده وأنامله؟ والشاعر يسأل ويستقصي في السؤال، كأنه يريد أن يحصل على طمأنينة، وكأنه مشفق على نفسه من الدود الذي سيعبث برأسه الذي كان سماء بيان ولسانه الذي لم يغادر غرضاً.

     ولذلك كان من أعجب العجب أن نجد الشاعر يتمنى الموت فيقول في رثائه لحافظ:

قد كنت أوثر أن تقول رثــائي     يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سـلامة     قـــدر وكل منية بقضـــاء[4]

     وفي رثاء شوقي لرياض باشا نجده يستفسر منه عن الموت في قطعة رائعة:

ســــألتك ما المنية أي كـــأس     وكيف مذاقـــها ومن السقـــاة
ومــاذا يوجس الإنســان منها     إذا غصت بعــــلقمها اللهـــاة
وأي المصرعيـــن أشد موت     على علــــم أم الموت الفوات
وهل تقع النفـــوس على أمان     كما وقعت على الحرم القطاة
وتخـــــلد أم كزعم القوم تبلى     كما تبــــلى العظام أو الرفات
تعـــــالى الله قابضــــها إليــه     ونـــاعشها كما انتعش النبات
وجازيها النعيــــم حمى أمينـاً     وعيشـــــاً لا تــكدره أذاة[5]

     إن الشاعر في هذه الأبيات شديد الخوف من الموت، لذلك يطلب من المرثي أن يحدثه عنه بالتفصيل لأنه الحق وما سواه باطل ولغو، وفي أسئلة دقيقة ذات طبيعة استقصائية، يسأل الشاعر الفقيد عن كأس الموت ومذاقها وسقاتها وماذا يحس الإنسان منها وقت شربها، وأيهما أشد الموت المباغت أم المعروف، وما مصير الروح بعد الموت، أتبلى أم تفنى، وينتهي من هذه الأسئلة بالجزم بالبعث والنشور، وهو ما يدل على أنها ليست أسئلة شك، بل أسئلة رجل مؤمن متخوف من لحظة الموت.

     وفي رثائه لجدته يجعل شوقي من الدنيا دار قتال، يروّع الناس فيها ما يروعون، ثم يصابون بسهم الموت الذي ما منه مهرب:

هي الدنيا قتـــــــال نحن فيه     مقاصد للحســـــــــام وللقناة
وكل النــــــــاس مدفوع إليه     كما دفع الجبـــان إلى الثبات
نروع ما نــــــروع ثم نرمى     بسهم من يد المقدور آت[6]

     وفي رثائه لعبد العزيز جاويش يستحلفه بالموت الذي أصابه أهو شقي به أم سعيد، وكأنه يريد أن يحصل من خلال      طمأنينة المرثي على طمأنينة لنفسه:

نشـــدت بالموت إلا أبنت     أأنت شقي به أم سعيد[7]

     وفي قصيدته في الخديوي إسماعيل التي قالها بمناسبة وصول جثمانه إلى مصر نجده يقرر أن الموت لا مهرب منه:

أنا من لا يرى الفـــــــرار من المو     ت ومن لا يرى من الموت بدا[8]

     وفي قصيدته في كتشنر يصور أن النجم سوف يعثر بالموت إذا هربت النفس إليه، وأن المحترس الحذر سوف يصيبه القدر القاتل:

وإذا الموت إلى النفــــس مشى     وركبت النجــــــم بالموت عثـر
رب ثاو في الظبى ممتـــــــــنع     سله المقدار من جفن الحذر[9]

     وفي رثائه لصديقه عمر لطفي وهو رثاء صادق مؤثر، نجده يخاطب صديقه الفقيد، مبيناً له أن حفرته تعد ليلحق به:

ســـهرنا قبيـــــل الردى ليــلة     وما دار ذكر الردى في السمر
فقمت إلى حفــــرة في التراب     وقمت إلى مثــلها تحتفر[10]

     وفي قصيدته التي قالها في قاسم أمين يتحدث الشاعر عن واجبه في رثاء الرفاق الأخيار الذين سبقوه إلى الموت، ويخبرهم أنه سيظل يبكيهم وأن بينه وبينهم سفراً إليهم فهو يكاد يرى محله بينهم:

يا غائبين وفي الجوانح طيـفهم     أبكيـــكم من غيب حضــــــــار
بيني وبينـــكم وإن طال المدى     سفــــر سأزمعه من الأسفــــار
إني أكــــاد أرى محلي بيـــنكم     هذا قراركم وذاك قراري[11]

     وفي قلق متوجس يناشد الشاعر صديقه أن يعود كما عاد لازار من قبل، ليحدثه عن الموت، ليعلم ما الذي ينتظره فيه، لأن كل إنسان سيطلق الدنيا، كما طلق الفرزدق زوجته النوار، مهما أحبها:

هلا بعثــــت فكنت أفصـــح مخبر     عمـــا وراء المــــــوت من لازار
انفض غبار الموت عنك ونـاجني     فعســـاي أعلم ما يكون غبــــاري
هذا القضاء الجد فارو وهـات عن     حكم المنـــــية أصدق الأخبــــــار
كل وإن شغفتـــــه دنيــــــاه هوى     يوماً مطلقهـــا طـــــــلاق نـــــوار

     وفي رثاء شوقي لمحمد المويلحي يصور ساعة احتضار الفقيد وكيف طالت هذه الساعة ويتساءل عن حالها، وكأنه يرى فيها ساعته هو:

تعب الموت في صبور على النـــز     ع قليـل إلى الحيــــــاة نـزاعـــــــه
صــــارع العيش حقبة ليت شعري     ســــاعة الموت كيف كان صراعه
قهــــر المـوت والحيــــاة وقد تحــ     ـكم في رائض السباع سباعه[12]

     وأما قصيدة شوقي في رثاء إسماعيل صبري وهي من أجود شعره، فإننا نجد فيها تصويراً مفصلاً للقبر، يعكس رعب الشاعر منه:

في منـزل دارت على الصيد العلا     فيـه الرحى ومشت على الأرداف
وأذيل من حســـن الوجوه وعزها     ما كان يعبـــــد من وراء سجــاف
من كل لمـــاح النعيــــــم تقــــلبت     ديبــــاجتـاه على بلى وجفـــــــاف
وترى الجماجم في التراب تماثلت     بعــد العقـــول تماثل الأصــــداف
وترى العيون القاتــــــلات بنظرة     منـــهوبة الأجفان والأسياف[13]

     ويعود شوقي ليسأل صديقه المرثي عن الموت وطعمه، ويستحلفه بما كان بينهما من مودة أن يخبره عن ذلك، في هذا البيت الجميل الذي يعكس قلقاً وتوجساً وحيرة:

قل لي بســــــابقة الوداد أقاتل     هو حين ينزل بالفتى أم شافي

     وفي رثاء شوقي لأمين الرافعي، يتحدث عن يوم وفاته القادم، وكيف يبكى عليه لكنه لا يشعر، وكيف يقول الناس فيه لكن الموت لا يأذن له أن يقول، ويقدم لنا ذلك في صورة جميلة حزينة:

رب يوم ينـــــاح فيه علينــــــــا     لو نحس الـنـــــواح والترتيــــلا
بمــراث كتبــــن بالدمع عنــــــا     أسطراً من جوى وأخرى غليلا
يجـــد القــــائلون فيها المعـــاني     يوم لا يأذن البلى أن نقولا[14]

     وفي رثاء جورجي زيدان نجد الشاعر يسأل المرثي كيف تنفصل الروح عن الجسد، ويزحف البلى إليه، وهل تحن إليه بعد الفرقة حنين الغريب إلى وطنه، وهو ما يدل على مقدار خوفه من الموت وقلقه من ساعته:

وضعت خير روايات الحيــاة فضع     رواية الموت في أســـــلوبها العالي
وصف لنا كيف تجفو الروح هيكلها     ويستبد البــــلى بالهيـــــــكل الخالي
وهل تحن إليــــه بعد فرقتــــــــــــه     كما يحن إلى أوطـــانه الجالي[15]

     وفي رثاء شوقي لأبيه نجده يسأل أباه عن الموت وكأسه المر، وعن ساعة الموت التي يهون كل شيء قبلها وبعدها، وهل شرب فيها الموت جرعة أم جرعتين، وهو ما يدل على خوفه من هذه الساعة ورهبته إياها:

يــــا أبي والموت كــــــــــــأس مرة     لا تــــــذوق النفــــس منها مرتيــــن
كيف كانت ســــــاعة قضيــــــــــتها     كل شيء قبـــــلها أو بعد هيــــــــــن
أشــــربت الموت فيــــــــــها جرعة     أم شربت الموت فيها جرعتين[16]

     وفي رثاء شوقي لعلي بهجت، يطلب منه أن يجيبه، وأن يخبره عن الماضين، حيث إنه قد أعد عدته حتى يلحق بهم، ويطلب منه وصف منـزلهم ومنـزله:

أخي أقبـــــل علي من المنـــــــايا     وهـــات حديثك العذب الشهيــــــا
نشـــــدتك بالمنية وهي حـــــــــق     ألم يك زخـــــرف الدنيا فريـــــــا
عرفت الموت معـــــــنى بعد لفظ     تكــــــلم واكشف المعنى الخبيــــا
فخبــــرني عن المـــاضيــــن إني     شــــددت الرحل أنتظر المضيــــا
وصــــف لي منـــــزلاً حملوا إليه     ومالمحوا الطريق ولا المطيا[17]

     وفي رثاء شوقي لبشارة تقلا يخاطب المرثي ليسأله عما لقي بعد الموت وماذا شهد في القبر وليعود بعد ذلك فيقرر أن الموت ظلمة وثقل، ولحظات تفعل بالإنسان مالا تفعله الرماح:

ليت شعري ماذا لقيت من المو     ت وأخفى لك التراب المهيـــل
إنمــــا الموت ظلمة تملأ العيــ     ـن ووقر على الصـــدور ثقيـل
وثوان أخف منــــها العــــوالي     كل عضو ببعضها مقتول[18]

     وفي رثائه لعلي رفاعة الطهطاوي يتساءل شوقي عن جدوى الفرح بالدنيا مادامت ترد ذلك إلى البكاء في النهاية، وعن التوسع فيها ما دام القبر الضيق هو المنقلب والمآل، ويقرر أن كثيرين ممن كانوا في أحسن حال وأجمل معشر صاروا إلى صحبة الديدان، وأن منعمين مترفين كانوا يستخشنون أرق الملابس باتوا في قبورهم يألفون الديدان والتراب والأكفان:

فيـــــم ابتســـــامك للدنيـــــا وغايتــــــها
               تـــــرد كل محــــب عنــــــك منتحـبـــــا
وما اتســـــاعك منها بعدما حسبـــــــــت
               عليـــــك ضيقـــة الأجــــــداث منقــــلبـا
كم صـــــاحب لبدور الدهر فــــــــارقهم
               لم يحص من حشرات الأرض ما صحبا
ونــــاعم كــــــان يؤذى من غــــــــلالته
               تــــــألف الدود والأكـفـــان والتربا[19]

     هذه النصوص تدل على حب شوقي للحياة، وخوفه من الموت، بدرجة كادت تصبح حالة مرضية فيها مبالغة وتشاؤم ربما أحرجته وأحرجت من حوله، يقول الأستاذ أحمد محفوظ، وهو الذي لازم الشاعر الكبير منذ عودته من المنفى حتى وفاته، مصوراً هذا الجانب المهم فيه: (( كان يستبشر خيراً إذا سمع ثناء على صحته، وكنت أعلم عنه هذا، فكنت إذا عدته مريضاً في داره أو سمعته يشكو وجعاً في مكتبه أسرعت قائلاً: والله إن وجهك ينبئ عن صحة وشباب، فكان يطير فرحاً ويلتفت إلى ولديه ويقول: أما فيكما من يقول لي مثل هذا، ويسر بقية يومه.

     وكان يحب الحياة حباً عظيماً، ويخاف الموت خوفاً شديداً، ويكره أن يتحدث عنه، كما كان يكره غيره أن يتحدث عنه أمامه، فكنا نعلم عنه هذا فنتحاشى ذكره أمامه، فلا ننعى ميتاً ولا نخوض في حديث الموت ولا فلسفته، ولا في أية ناحية من نواحيه كائنة ما كانت، ويستطيع قارئ شعره أن يتبين هذا في حيرته الدائرة في الخوف من الموت في كل مراثيه))([20]). وأردف الأستاذ محفوظ كلامه هذا بذكر بعض الوقائع المؤيدة له.

     والمعرفة العميقة للأستاذ أحمد محفوظ، بشوقي وحبه للحياة وخوفه من الموت، جعلته يندهش جداً مما قاله في رثاء حافظ إبراهيم الذي سبقه إلى الدار الآخرة، فيقول: ((ومات حافظ قبله بثلاثة أشهر فبكاه، وأفزعني أن يقول في مطلع رثائه له:

قد كنت أوثر أن تقول رثــائي     يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سـلامة     قــــدر وكل منيــــــة بقضــاء

     ولو كنت تعلم ما أعلمه من حرص شوقي على الحياة وكرهه للموت غاية الكره وبغضه لذكره بغضاً قاتلاً لفزعت معي، ولكنه المرض الذي ألهمه هذه الفلسفة، ولم يكن البيت الأول فلتة بل أكده بعد ذلك، ولم ينس الساعين الذين طالما مشوا بين الشاعرين بالوشاية، وأفسدوا بينهما حتى بعد الموت فقال:

وددت لو أني فـــداك من الـــردى     والكـــــــاذبون المرجفون فــدائي
النــاطقون عن الضغينة والهــوى     والموغرو الموتى على الأحيــــاء
من كل هــــدام ويبني مجـــــــــده     بكرائم الأنقاض والأشلاء))[21]

     ويقول الأستاذ يحيى حقي: ((وهلع شوقي من المرض ينعكس على مراثيه، فهو في أحيان كثيرة يحرص أشد الحرص على أن يذكر لنا كيف كان مرض الفقيد وبأي داء مات، فنحن نعلم منه أن إسماعيل صبري مات بالذبحة الصدرية، وعبده نور مات فجأة، وأن مصطفى كامل لم يبن للناس داؤه هل هو القلب أم السل أم السرطان، يسردها شوقي سرد خبير بالأمراض، وأن عاطف بركات قد امتد مرضه وطال أرقه في الفراش، وأن حسين شيرين مات بعد مرض طويل، وأن إسماعيل أباظه زار شوقي قبل موته وهو مريض محطم. أما استبشاعه للقبر فإنه يظلل كثيراً من مراثيه، فالقبر رقاد على الحصى بعد التقلب في الحرير، ومعانقة للأكفان في جوف الثرى بعد الطراز الفخم في الأعياد، والقبر مملوء بالحشرات، لا بأس أن توحي إليه بحكمة، يقول لعمر لطفي:

لا تشـــــكون الضر من حشـــــــراته     حشرات هذا الناس أقبح منظرا[22]

     ويقول لعلي باشا رفاعة: كم من منعم تألف الدود والأكفان والتربا، وهو مكروب أشد الكرب بالانحلال الذي يصيب جسد الميت، وبدلاً من أن يشيح عنه نراه يطل عليه، ويدقق في وصفه ويرسم له صورة لم أر مثل بشاعتها في الشعر العربي، فهو يقول عن فتحي زغلول وقد هام بالمقابلة بين رأس تتقد ذكاء في حياته، ورأسه وقد تعرضت للبلى بعد موته، إنه كما يعجب لهذا الذكاء يعجب:

لرأســـــه العـــــالي تنـــاثر لبه     ونزا وصار نسيجه لفساد[23]

     هكذا حال شوقي، إن هرب من أن يشهد احتضار من يرثيه فهو لابد سائله في مرثيته عن لحظة الموت، كيف وجدها؟ فشوقي لا يرهب الموت في ذاته بقدر رهبته للحظة طلوع الروح، وهي عنده لحظة عصيبة لا شيء يضمن أن لا تكون مصحوبة بألم شديد، إنه يخاف من الموت عذابه، يقول لسليم تقلا:

إنـــما الموت ظلمة تملأ العـــيـ     ـن ووقـر على الصــــدور ثقيل
وثوان أخف منــــها العـــــوالي     كل عضو ببعضها مقتول[24]

     هذه الثواني هي التي تزلزل شوقي . يقول لرياض باشا:

ســـألتــك ما المنــــــية أي كـــأس     وكـيـــف مذاقها ومن السـقــــــــاة
وماذا يوجس الإنــســــــــــان منها     إذا غصت بعـلقمهـــا اللهـــــــــــاة
وأي المصرعيــــــن أشد مـــــوت     على عـلــــــم أم الموت الفـــــوات
وهل تقــــع النفـــــــوس على أمان     كما وقعت على الحرم القطاة[25]

     ويقول لأبيه:

يـــا أبي والموت كـــــــأس مرة     لا تــذوق النفــــس منها مرتيـن
كيف كانت ســـــاعة قضيــــتها     كل شيء قبلها أو بعد هين[26]

     لذلك كان التجلد للموت في نظر شوقي هو قمة البطولة، والمثل الأعلى عنده هو سقراط يذكره في قصائده مرتين: مرثيته لعمر المختار، ومرثيته لأبيه[27]، تسحره صورة سقراط وهو يشرب السم بيده لا انتحاراً، بل طلباً للموت الذي أريد له بغير إرادته))[28].

     وهكذا ظل شوقي طوال عمره خائفاً من الموت ومن القبر، ومن ساعة الوفاة بالذات، وهو خوف ألح عليه إلحاحاً شديداً، لذلك كان غريباً أن تمنى الموت قبل حافظ، ولعل مرد ذلك إلى ما أصابه من مرض، وما تقلب به من أحوال الدنيا، وهو ما جعل أمر الموت يهون عليه، فيود لو يفوز برثاء حافظ له.

     وللأستاذ أحمد محفوظ وصف جميل ومؤثر لشوقي في أخريات أيامه، سنورده على طوله لأنه وثيقة أمينة دقيقة. نرى فيه وهن الشاعر، وشيخوخته، ومرضه، وفقدانه للمتع التي كان يحبها، وأصفيائه الذين كان يؤثرهم، وشعوره بقرب الأجل، وهو ما غيّر في مشاعره وعاداته ((فاقتصر على الرياضة في الضواحي بعربته، ثم الرجوع إلى المنزل ثم العشاء الخفيف ثم القراءة في كتب التصوف ثم النوم المبكر، وأصبح الشيخ الذي كان ينفر دائماً من اصطحاب أي إنسان في جولاته لا يستغني عن صحبة كاتبه أحمد عبدالوهاب.

     لقد رجع هذا الرجل المتفرد دائماً إلى طفل يجزع من السير وحده ويخاف الناس والاختلاط بهم. بعد ما كان من عهد قريب جداً يتجول في أقصى الأحياء الوطنية وأشدها خطراً على سالكها.

     ولكنه المرض؛ ذلك المرض الذي حمل شاعرنا الكبير على السفر إلى القاهرة في وقدة الصيف، لأن كاتبه غادره لزيارة أبيه المحتضر الذي بلغه نبأ احتضاره وهو مع مولاه في الإسكندرية.

     يا للشيخ العظيم المسكين. شوقي الذي كان لا يزور سرادق الأموات أبداً ولا يعرفها ويخافها ولم يطرقها للمجاملة ولو كانت لأصدق الأصدقاء وأعظم العظماء، يذهب إلى سرادق متواضع في حي وطني ينتظر في ركن فيه ساكناً ساهماً. يتغير قراء القرآن، وتنفض جماعة وتدخل أخرى وهو جالس ساكن ينتظر فراغ السرادق من المعزين وانتهاء ليلة العزاء، ليصحبه كاتبه إلى داره، لأنه لا يستطيع أن يظل بغير أنيس. فماذا كان يجري في خاطر هذا الشيخ المريض وهو قابع مستكين في هذا السرادق الذي تفوح منه رائحة الموت، وهو الذي كان يهرب من حديث الموت ولا يطرقه أبداً إلا في الشعر.

     والمرض أيضاً وثقله وشبحه المقيت الذي يرفع يده في الظلام يشير إلى الموت ليقترب، هو الذي جعل شوقي يقف في حديقته الواسعة التي تكاد تبلغ مساحتها فداناً يتأمل في تلك المساحة ويقيسها. ولكنه يخطئ في التقدير، فيهيب بكاتبه يدعوه ليسأله: هل تستطيع أن تقول لي عن مقدار ما يحتاجه قبر من مساحة؟ فيضطرب الكاتب المسكين ويتلعثم ويقول: لا قدر الله. فيلح المريض الواهن طالباً جواباً، فيضطر الكاتب الذي لا يعرف إلا الطاعة أن يقول: أظنها عشرين متراً، فيقول المريض: وما مقدار مساحة حديقتنا؟ فيقول الكاتب: أظنها ثلاثة آلاف متر، فيقول المريض: قسمها على عشرين . فيقول الكاتب: تساوي مئة وخمسين، فيقول المريض: سبحان الله إن ثلاثة آلاف متر لا تكفينا – لأنه كان يريد أن يضم قطعة أرض فضاء مجاورة إلى حديقته – وعشرين متراً فيها أعظم الكفاية لتضم عظامي بعد موتي !! ما أبعد طمع الإنسان. بهذه النظرية الجديدة ! كان شوقي ينظر إلى الحياة التي بدأت تتسلل من بدنه الموهون.

     وكان يقول: أصبحت لا أخاف الموت وكنت أخافه، فليس لي في هذه الدنيا ما أعمله. لقد فقدت كل أسباب حياتي، فقدت شهية الطعام، وفقدت القدرة على السير وحيداً، وفقدت لذائذ الكيف، فلا سجائر ولا منعشات. وفقدت أسباب الاستمتاع بالجمال التي كانت تعينني عليها العافية، وساء خلقي وأصبحت ثقيلاً على أولادي وعلى الناس.

     قال المازني رحمه الله: إن الله لطيف بعباده . إنه يهون كل شيء حتى الموت؛ يعود عليه الناس يدفعهم في طريقه خطوة خطوة حتى إذا ما نزل بهم لم يعافوه. هكذا كان شوقي. كان يسير إلى الموت ويهيئ نفسه له ويعينه المرض على السير حتى بلغ آخر المطاف))[29].

----------------------
[1] مهرجان أحمد شوقي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، القاهرة، 1960م، ص 254.
[2] أضواء على الأدب الحديث، ص 159.
[3] الديوان 2/350.
[4] الديوان 2/359.
[5] الديوان 2/386.
[6] الديوان 2/398.
[7] الديوان 2/408.
[8] الديوان 2/412.
[9] الديوان 2/441.
[10] الديوان 2/447.
[11] الديوان 2/468.
[12] الديوان 2/480.
[13] الديوان 2/486.
[14] الديوان 2/496
[15] الديوان 2/512.
[16] الديوان 2/558.
[17] الديوان 2/594.
[18] الشوقيات المجهولة: الدكتور محمد صبري،دار المسيرة،بيروت،ط2 ، 1979م ،1/245.
[19] الشوقيات المجهولة 1/303.
[20] حياة شوقي، مطبعة مصر، ص 40 – 41 .
[21] المرجع السابق، ص 165 – 166.
[22] الديوان 2/454.
[23] الشوقيات المجهولة 2/151، وصحة الشطر الأول " ولرأسك العالي تناثر لبه".
[24] الشوقيات المجهولة 1/245 والبيتان في رثاء بشارة تقلا وليس سليم تقلا.
[25] الديوان 2/386.
[26] الديوان 2/558.
[27] كلام الأستاذ يحيى حقي يدل على دقة ملاحظته، لكنه يحتاج إلى شيء من التصويب والتكملة، فشوقي لم يذكر سقراط في مرثيته لأبيه، بل ذكره في مرثيته لأمه، وفي مرثيته لعمر المختار، كما أنه ذكره في قصيدته الشهيرة التي مجد فيها العلم والمعلمين، وفي همزتيه الشهيرة في الرسول ×.
[28] طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1984م، ص 284 – 286.
[29] حياة شوقي، ص 189 – 191.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة