الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 01 - شوقي وشعره

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

01 - شوقي وشعره:

     ولد شوقي وعاش ومات في عهد الأسرة العلوية التي ارتبط بها ارتباطاً وضع بصماته على حياته وشعره معاً، وإن كان ثمة تفريق لابد منه بين فترتين من حياته مع هذه الأسرة، الأولى تنتهي بخلع الخديوي عباس، وفيها بلغ قمة مجده السياسي، وكان أسيراً لها تماماً، والثانية تنتهي بوفاته في عهد الملك فؤاد وفيها بلغ قمة مجده الأدبي من ناحية وتحرر بعض الشيء من أسره القديم وصار ألصق بالشعب من ناحية أخرى.

     وقد ولد في عام 1870م لأسرة تداخلت فيها الدماء، فكان ذلك خيراً وبركة عليه، ففيه دماء عربية ويونانية وكردية وشركسية وتركية.

     وأخذ طريقه للتعليم المدني منذ بدايته، وهو تعليم عصري حديث لا يسير على الطريقة الأزهرية القديمة، حتى إذا أنهى المرحلة الثانوية دخل مدرسة الحقوق ليتعلم الحقوق والترجمة عن الفرنسية معاً. ويتخرج عام 1890م وعمره عشرون عاماً، ليعمل في قسم الترجمة في ديوان الخديوي توفيق الذي لم يلبث أن بعثه على نفقته الخاصة إلى فرنسا ليتم دراسة الحقوق.

     وحين عاد شوقي أواخر عام 1893م من بعثته كان الخديوي توفيق قد مات وحل محله ابنه الخديوي عباس حلمي الثاني الذي لم ترج سوق شوقي لديه أول الأمر، لما وقر في نفسه من أنه شاعر، وهو يحتاج إلى رجل سياسي يكون مشيراً عليه ومعيناً له، فيما يطمح إليه من إنجاح خططه في مقاومة الإنجليز، لكنه لم يلبث بوساطة عدد من مستشاريه ومنهم مصطفى كامل، أن بدأ يثق به، ويكلفه بمهام ينجح فيها، فتعمقت الثقة بينهما، حتى صار صديقه وكاتم سره، ورسوله المفاوض، وممثله في المؤتمرات، وهذه الفترة هي أزهى فترات شوقي السياسية والاجتماعية، وقد امتدت عشرين عاماً من 1894م إلى 1914م، صار فيها شوقي شخصية مرموقة جداً في القصر، له كلمة، وله رأي، وله حضور بارز.

     لكن القدر كان يعد لشوقي أمراً آخر، إذ إن الإنجليز خلعوا الخديوي عباس حلمي الثاني ومنعوه من العودة إلى مصر لما نشبت الحرب العالمية الأولى، وولوا مكانه عمه السلطان حسين كامل، ونفي شوقي إلى الأندلس عام 1915م فظل فيها إلى أواخر عام 1919م، وعاد ليجد نفسه في ظروف متغيرة سياسياً واجتماعياً، فبدل في حياته وغير، وحاول أن يكون أقرب للشعب بعد أن لم يبق له مكان في القصر.

     وإذا كان شوقي قد بلغ قمة مجده السياسي في عهد عباس حلمي الثاني، فإنه بلغ قمة مجده الأدبي في عهد فؤاد، ذلك أنه تفرغ لفنه تفرغاً تاماً، ثلاثة عشر عاماً، بلغ فيها الذروة، وكان المهرجان الذي بويع فيه أميراً للشعراء عام 1927م بمثابة اعتراف مصري وعربي بسبقه وأستاذيته، وصارت داره في الجيزة ملتقى الأدباء والشعراء المصريين ولمن يزور مصر من أهل الأدب والثقافة، حتى انتقل إلى رحمة الله في أكتوبر عام 1932م.

     كانت الظروف مواتية لصقل عبقرية شوقي من جهات كثيرة، فقد اجتمع له الثراء، واجتمعت له الحياة السهلة الهادئة الخالية من المنغصات، ووفق في زواجه من سيدة ثرية كانت عوناً له، وتعلم تعليماً منتظماً ليست فيه فجوة أو انقطاع، وأتقن اللغتين الفرنسية والتركية، وسافر في بعثة زادت من ثقافته ووسعت آفاقه، وارتحل كثيراً بقصد السياحة أو تمثيل حكومته في المؤتمرات وحظي بفترة طويلة من المجد السياسي كان فيها من أقرب الناس إلى خديوي مصر.

     وحتى فترة نفيه لم تكن قاسية كما قد يظن، ذلك أنه قضاها في ضاحية من ضواحي برشلونة اسمها (( فلفديرا)) في غاية الجمال ولم يكن إبانها يشكو من ضنك في العيش أو قلة في المال، وإن كان بطبيعة الحال قد عاش أقل مما كان عليه في مصر، لذلك يمكن القول: إن فترة النفي كانت أشبه بالسياحة والعزلة منها بأي شيء آخر، لقد رافق شوقي في منفاه زوجته وولداه علي وحسين وابنته أمينة وحفيدته منها والمربية التركية وخادمتان والطاهي، وهذا ما وفر له حياة عائلية رائعة في ضاحية جميلة رائعة، لكن الشاعر الكبير لم يحسن استثمار هذه الظروف المواتية جداً في منفاه، لما غلب عليه من الحزن والاكتئاب بسبب خسارته لموقعه المهم جداً من الخديوي المعزول، وعقوق الكثيرين ممن كان يحسن إليهم من خلال هذا الموقع.

     ولما عاد إلى مصر بعد انتهاء الحرب، خسر موقعه السياسي، لكنه كسب ما هو أهم من ذلك، كسب حب الناس، وذاعت شهرته واتسعت، وجاءته الوفود تسعى لتبايعه عام 1927م في يوم خالد من أيام الأدب في مصر، ثم إنه في هذه المرحلة الجديدة تفرغ لنفسه، فارتقى بشعره وقدم للعربية المسرح الشعري للمرة الأولى وهو ما زاد من خلوده وشهرته.

     شخصية شوقي خليط عجيب من محبة الإسلام والإخلاص له، دون الالتزام كثيراً بأوامره، ومن ركوب المعصية دون أذى الناس، ومن حب شديد للدنيا ولذاتها، جعله يخاف الموت كثيراً، وجعله أيضاً لا يتبنى مذهباً سياسياً قد يجر عليه المتاعب، ومن إيثار للسلامة والعافية يصل إلى حد الأثرة المفرطة، ولعل نهاية البارودي المحزنة كانت دائماً نصب عينيه.

     هادئ يصعب الوصول إلى قرارة نفسه، فيه حذر السياسي، ولباقة الدبلوماسي، ومجاملة الحاشية المحيطة بالمسؤول الكبير التي تتحرك بحساب، وتقدر على كتمان عواطفها انسجاماً مع دواعي السياسة أو رغبة المسؤول الكبير.

     أحب شوقي مصر؛ والعرب، والإسلام، والأتراك، وتداخلت في شخصيته هذه الدوائر تداخلاً لا نشاز فيه، بل فيه التكامل، بسبب موقع مصر المتقدم والريادي لدى العرب والمسلمين، وبسبب الأواصر الدينية والسياسية التي كانت تربط مصر بالدولة العثمانية، وتجمعها ضد المحتل الإنجليزي، خاصة في الفترة التي رفع فيها السلطان عبدالحميد شعاره المشهور ((الجامعة الإسلامية)).

     شوقي ثمرة ناضجة لتلاقي الحظ المواتي بالموهبة القادرة، فقد كان رجلاً ذكياً لبقاً كيساً، وكان يمتلك موهبة شعرية حقيقية، صقلتها الدراسة المنتظمة، والاطلاع الدائم، والحياة الثرية، وكثرة السفر والتجوال، وسعة الوقت، واطلاعه على ثقافة لغتين مهمتين، والاختلاط بمستويات عالية، ثقافة وجاهاً ومكانة، وتجدد الخبرة، ودوام التأمل والخلوة إلى النفس، لتكون ثمرة ذلك كله، أن يبرز شوقي شاعراً خالداً عظيماً، كان وسيظل فخراً لمصر وللعروبة وللإسلام، وقد خلف ديواناً كبيراً، واقتحم ميادين جديدة، واندفع بإيجابيات مدرسة الإحياء إلى الأمام، وصار واحداً من أعلامها الكبار.

     وإذا كان البارودي قد أدى دوراً رائداً في شعره موضوعياً وفنياً جعل له فضلاً لا يجاريه فيه أحد من شعراء عصره، وجعل له بصمات باقية على عصره وعلى من تلاه، وإذا كانت هذه الريادة قد ظهرت آثارها على الشعراء بدرجات متفاوتة، فإنها قد ظهرت على حافظ وشوقي ظهوراً بارزاً، يمكن للدارس معه القول: إن هذين الشاعرين تمثلاها خير تمثل أولاً، ووسعا فيها ثانياً.

     التقط شوقي راية الريادة بعد البارودي، فأتم ما صنعه أستاذه من ارتقاء بالصنعة الفنية عن آفات عصور الضعف، وعودة بها إلى ما كانت عليه في أزهى عصور الشعر العربي، فإذا باللغة على جادة الصحة وما هو أعلى من الصحة، وإذا بالتراكيب في غاية الإحكام والاستواء، وإذا بالموسيقى في أحلى ألحانها بحيث تذكرك بالبحتري. أما الخيال عند شوقي فهو تصوير حي جميل ومبدع.

     وأتم شوقي أيضاً ما صنعه أستاذه البارودي من الريادة في الموضوع، فارتقى في ذلك، إذ نأى عن الموضوعات التافهة التي حجل فيها الشعر العربي طويلاً إبان ضعفه، واقتحم ميادين جديدة في الشعر الوطني، والشعر التاريخي، والشعر السياسي، والشعر الديني، واتصل بهموم العرب والمسلمين فضلاً عن هموم مصر، فما يكاد يقع حدث ذو بال إلا وجدنا شوقي يسارع إلى المشاركة فيه حتى صار له أن يقول بحق وجدارة في مهرجان تكريمه عام 1927م:

كان شعري الغناء في فرح الشر     ق وكان العـــزاء في أحزانه[1]

     ولم يكتف شوقي بهذا، بل اقتحم ميداناً جديداً هو ميدان الشعر المسرحي الذي كتب له أن يفوز بشرف ريادته له فهو أول من أدخله إلى الأدب العربي.

     وديوان شوقي غني جداً من حيث كثرة ما نظم، ومن حيث تعدد الموضوعات التي طرقها، ولقد كان شعره في حياته وبعد موته مثار جدل طويل عريض بحيث يمكن القول فيه: إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس، كما قيل في أستاذه المتنبي من قبل.

     ولقد تمثل شوقي طريق الشعراء الفحول في عصور العربية الزاهية، وبخاصة المتنبي والبحتري فقد كان هذان الشاعران أستاذيه الأكبرين، يظهر أثر الأول في حكمة شوقي، ويظهر أثر الثاني في موسيقاه، وإذا كان شوقي في صنعته قد ظل في إطار الشعر العربي الموروث وتقاليده المرعية، فإنه ارتقى أعلى درجات هذا الموروث وانتقى لنفسه أفضلها صياغة وموسيقى.

     ويلتقي مع هذا التيار العربي الخالص في شعره تيار آخر، هو تيار ثقافته الفرنسية الواسعة التي اكتسبها أثناء مقامه في باريس، إذ أتقن الفرنسية إتقاناً رفيع المستوى، واطلع على النماذج الشعرية العالية في الأدب الفرنسي عند هيجو، ولامرتين، ودي موسييه، وغيرهم، واختلف إلى المسارح التي كانت تقدم المسرحيات الذائعة، وقد ظهر أثر ذلك في بعض شعره الغنائي، كما ظهر أثره حين أخذ ينظم مسرحياته الشعرية المشهورة، وبهذا كانت المؤثرات في ثقافته وشخصيته أكثر مما هي لدى حافظ، وهو ما جعل حظه في التجديد أكبر من حظ صاحبه وأظهر .

     يستمد شوقي خلوده من سعة الموضوعات التي نظم فيها، والتي أعطته أبعاداً عربية وإسلامية واسعة، ومن ثقافته المتنوعة، ومن لغته المستوية المحكمة، ومن خياله المحلق، ومن موسيقاه الآسرة.

     هوجم شوقي في حياته كثيراً جداً ولا يزال يهاجم، لكن رحيله عن دنيا الناس، وتلاشي الخصومات والمنافسات، جعل النقاد يتناولونه بموضوعية أكبر، فإذا به يحتل مكانته العليا ميتاً كما احتلها حياً، وإذا بالعقاد والمازني وطه حسين يثنون عليه ويقرون له بالتفرد والامتياز، بعد أن قالوا فيه أقسى النقد وهو حي. لقد مضى شوقي الإنسان كما يمضي كل الناس وبقي شوقي الشاعر((ظاهرة)) متفردة في وجدان مصر، بل وجدان العرب حيث كانوا وهي ظاهرة لها من الأصالة والقوة ما يمنحها الخلود، بحيث لا يمكن أن تتجاوزها الأيام فيما تتجاوز.

---------------------
[1] ديوان شوقي، طبعة د. أحمد محمد الحوفي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1979م، 1/585.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة