الفصل الأول(الرثاء في شعر شوقي)
10- لغة الشعر: كانت لشوقي معرفة واسعة بالعربية، مفردات وتراكيب وطرائق تعبير، وكانت له إلى جانب ذلك أذن موسيقية واعية، صقلتها كثرة المطالعة في دواوين الشعر العربي، وحبه للموسيقى والغناء، فتلاقى هذان الأمران ليجعلا لغة شعره لغة متفردة متميزة، تتجاوز رتبة الصحة لتصل إلى درجة الكمال والجمال، وحسن الاتساق وتمام الاستواء دون نبو أو شذوذ، فكأنها خرير الماء الصافي في أرض هادئة لينة، إن لغة شوقي لغة عالية دون غلظ، لينة دون إسفاف، وهو فيها صائغ ماهر مقتدر، وهو أمر يمكن لنا أن نعثر عليه في مراثيه جميعاً لسعته وامتداده.
وإذا كان لدارس أن يؤاخذ شوقي في موقف وطني، أو عاطفة باردة، فليس له بحال أن يؤاخذه في لغته التي كانت قوية محكمة مصفاة. يقول الأستاذ عباس حسن: ((وأما شوقي فكلماته منتقاة، وألفاظه ممتازة، يضع الكلمة اللائقة في الموضع اللائق، تتوسط أخوات مؤتلفات فلا نفور ولا قلق ولا إكراه، ومامثله إلا كالصيرفي النقاد فهو بحتري زمانه))[1].
أما الأستاذ أحمد محفوظ فإنه يقول: ((ولم يكن شوقي إلا ساحر الأسلوب جزل اللفظ يستعرض الحسن منه فيختار أحسنه، فهو صائغ صناع، وإذا أراد صوغ عقد نثر حقيبة جواهره، فاختار ما يلائم الذوق الرفيع، وصاغ العقد بمقدار يرضي الجمال بل يبهره، وشوقي عندي يتبع البحتري في هذا، فهما اثنان لم يظفر الشعر العربي بضريب لهما في جمال الأسلوب ... وهو لا ينزل إلا قليلاً، لأن ذوق الاختيار عند الفنان المطبوع لا يتزحزح من الحسن إلى القبيح حيث هو عالم بالحسن قادر عليه. فهو إن تزحزح إنما يتزحزح درجة أو درجتين، فالموهبة تأبى عليه أن ينزل دون ذلك، لأنها غالبة عليه في المجال، والكمال المحض غير واقع، فصفاء العبقرية قد يعتوره سحاب يحجب الشمس ولكنه لا يحجب الضياء))[2].
أما الدكتور طه وادي فإنه يقول: ((أسهم شوقي على درب الإحياء الشعري وبدايات التجديد فيه، بمحاولات كثيرة كماً وكيفاً، فشعره يمثل مرحلة متقدمة من مراحل إحياء الشعر العربي التي بدأها البارودي، حيث أصبحت الجملة الشعرية أصفى لغة وأثرى خيالاً وأقوى تركيباً، وحملها طاقة غنائية عذبة، موظفة عناصر التراث القديم ومطورة لها، وهذه العودة إلى مصادر العروبة في الفن هي التي وحدت الذوق العربي حول شعر شوقي وأهلته بالتالي ليكون أمير الشعر العربي سنة 1927م))[3].
وأما الدكتور شوقي ضيف فهو ينتهي إلى أن شوقي ((عني عناية شديدة بدرس الشعر وعيونه التي سبقته، وهو درس انتهى به إلى فهم أسرار الصنعة ومعرفة أصولها معرفة جعلت النصر حليفه في أكثر مبارياته إن لم يكن فيها جميعاً. فلقد تلقن أصول الصياغة العربية في الشعر، ولم تعد هناك كلمة شاعرية أو لفظة موسيقية لم يعرفها شوقي فقد أحاط علماً بكل القوالب الصوتية))[4]، وبعد أن يقارن الدكتور شوقي ضيف بين البحتري وشوقي يقول: ((إن شوقي يجري على عمود الشعر العربي، فقد أوتي من علمه بصياغاته وتأليفه ما لم يؤته شاعر منذ البحتري))[5].
وهكذا تتضافر شهادات الدارسين لتعلي – بحق – من لغة شوقي وتؤكد عظمتها وتفوقها. الأمر الذي يشهد له ديوانه به حيث مضيت.
يقول شوقي في رثاء صديقه عمر لطفي:
قفــــوا بالقبــــور نســــائل عمر متى كانت الأرض مثـوى القمر
سلوا الأرض هل زينــت للعليــ ـم وهل أرجت كالجنـــان الحفـر
وهل قـــــام رضوان من خلفها يــلاقي الرضي النـقي الأبـــــر
برغم الـقــــــلوب وحبـــــــاتها ورغم الســــــماع ورغم البصر
نزولك في الترب زين الشبــاب سنــــاء الندي سنــــــــا المؤتمر
مقيــــل الصديـــق إذا ما هـفـــا مقيـــــل الكريم إذا ما عثــــــــر
حييــــت فكنـــت فخــار الحيـاة ومت فكنت فخـــــار السير[6]
إن الألفاظ في هذه الأبيات واضحة جلية فيها حسن الانتقاء، الذي يجعلها سهلة الفهم، وفيها اختيار يجعل بعضها موحياً يترك لدى المتلقي أثره الذي يوسع مدى خياله وتفاعله، أما بنية الجملة فهي مستوية مستقرة مسترسلة، تتوالى فيها الكلمات لتقع الواحدة منها في موقعها الطبيعي دون عسف أو تكلف. يضاف إلى ذلك ولع شوقي بالمقابلة حيث يوائم بين الشطرين برد الثاني على الأول أو تكملته على النسق نفسه، كما نرى في البيتين الأخيرين من هذه القطعة.
ولو وقفنا عند قول شوقي في تصوير السفينة الغارقة في قصيدته في كتشنر:
وجفت قلباً وخــــارت جؤجؤاً ونزت جنبــاً ونــاءت من أخر
طعنت فانبجست فاستصرخت فأتـــاها حينها فهي خبـــر[7]
لراعتنا قدرته على انتقاء ألفاظه المؤدية الموحية، وموالاة التعقيب على الأفعال الدالة على الحدث بالفاء بحيث نشهد منظر السفينة تحيط بها الكارثة بسرعة بالغة، فيضطرب قلبها، وتعجز مقدمتها، وتميد من الجنب، وتثقل من الخلف، ويتتابع في المشهد منظر الطعن فالانفجار فطلب النجدة فالهلاك، وهكذا كانت الألفاظ والتراكيب مؤدية معبرة عن المشهد باقتدار تام.
وانظر إلى هذه الأبيات من رثائه لمحمد المويلحي:
سيـــد المنشــئين حث المنـــــايـا ومضى في غـبـــــاره أتبـــــاعه
حطـــهم بالإمــــام للموت ركـب يتـــــلاقى بطـــاؤه وســـــراعـه
قنعوا بالتـــــراب وجهـــاً كريماً كان من رقعة الحيــــــاة قنــاعه
كسنــا الفجر في ظلال الغوادي كرم صفحتاه، هدي شعاعه[8]
فالألفاظ مؤدية دالة، سهلة دون ابتذال، موحية دون غموض، فيها حسن الانتقاء وفيها حسن التوزيع داخل الجملة بحيث تقع اللفظة موقعها، والجمل مسترسلة محكمة، تتوالى بانسجام وانتظام، والشطر الثاني يتم معنى الشطر الأول أو يضيف إليه أو يقابله، بحيث يخرج المرء من تمثله للأبيات وهو في أحسن حالات الفهم والتلقي والمشاركة.
ومثل ذلك يقال في هذه الأبيات من رثائه إسماعيل صبري، وهي أبيات تألقت فيها لغة شوقي وارتفعت إلى الذروة:
جلل من الأرزاء في أمثـــــاله همم العزاء قليـــلة الإسعـــاف
خفت له العبـــرات وهي أبيــة في حادثات الدهر غير خفـاف
ولكل ما أتلفت من مستـــــكرم إلا مودات الرجـــــال تــــلافي
ما أنت يا دنيــــا أرؤيا نــــــائم أم ليل عرس أم بســــاط سلاف
نعــــماؤك الريحـــــــان إلا أنه مســت حواشيه نقيع زعـــــاف
حملوا على الأكتاف نور جلالة يذر العيون حواسد الأكتـــــاف
وتقــــلدوا النعش الكريم يتــيمة ولكم نعــوش في الرقاب زياف
متمايـــل الأعواد ممــا مس من كــرم ومما ضم من أعطـــــاف
وإذا جلال الموت واف ســــابغ وإذا جلال العبقرية ضــافي[9]
فهي مستوية الصياغة جداً، ألفاظاً وتراكيب، انتقاء وترتيباً، وموالاة بين الأشطر تكملة أو إضافة أو مقابلة، فلا يشعر المرء إزاءها إلا بالروعة والإعجاب، ولا يملك إلا الإقرار أنه أمام يد قادرة صناع، وهذه السمة هي من الكثرة والشيوع والاتساع بحيث تكاد توجد في جميع مراثي شوقي، الأمر الذي يجعل متابعتها بالدرس والتحليل عملاً نمطياً، لذلك توقفنا لدى بعض النماذج التي تغني عن المتابعة والاستقصاء.
ومن أجمل ما وفق فيه شوقي في صياغته، تلك الإضافات اللفظية الجميلة، التي توحي بالجدة والطرافة وحسن الوقع، وتزيد من القدرة على الإيحاء، مثل: ((سابقة الوداد))، و((صنعة الأفواف))، و((ثياب زفاف))، و((عذب نطاف))، و((لماح النعيم))، و((صفوة الألاف))، و((رؤيا نائم))، و((بساط سلاف))، و((جلال العبقرية)) في القصيدة نفسها. ومثل ذلك يقال عن الصفة التي تلحق بالموصوف لتسبغ عليه روعة وجمالاً، مثل: ((الرفات السافي))، و((الغدير الصافي))، و((قرنها الرعاف))، و((الروضة المئناف)) في القصيدة نفسها.
وفي رثاء شوقي ليعقوب صروف، نعثر على مثل هذه الصيغ البليغة المؤدية: ((خداع سراب))، و((وشيك خراب))، و((قيام ضباع))، و((قعود ذئاب))، و((شهد رضاب))، و((مجال وثاب))، و((فسيح رحاب))، و((رفاف ريحان))[10].
وفي رثائه لمحمد فريد نعثر على مثل هذه الصيغ: ((ساقة النعش))، و((منار المعاد))ـ، و((حقيبة الموت))، و(( نضو سفار))[11].
وفي رثاء شوقي لأمين الرافعي نظفر بهذه الصيغ الجميلة: ((غبار الليالي))، و((خشنة اللحد))، و((الدجى المسدولا))، و((خالدي الغرار))، و((قرحة الثكل)) ([12]).
وهذا النوع من الصياغة يبرع فيه شوقي، ويضفي على أسلوبه جمالاً وروعة.
وهكذا برع شوقي في صياغته، وبلغ شأواً بعيداً من الصحة والجمال والتفوق في ألفاظه، وفي تراكيبه، إننا نجد فيها السهولة دون ابتذال، وحسن الانتقاء دون تكلف، والإيحاء دون غموض، والجزالة دون إغراب، ونجد أيضاً الانسجام والاسترسال في سبك متسق يقع فيه كل شيء موقعه المناسب دون عسف أو إكراه، كما نجد التقابل، والإضافة البديعة، والوصف المؤدي، وهذا كله من أمارات عبقرية شوقي وتفوقه، وهو أيضاً دلالة على قوة ملكته الموسيقية الرائعة المصفاة.
لقد كان شوقي واحداً من أهم رموز مدرسة الإحياء، وهي مدرسة لها دورها الكبير في الشعر العربي على عدة مستويات منها مستوى اللغة، فقد أحسنت هذه المدرسة للغة، وأعادتها إلى قوتها القديمة وحررتها من الضعف الذي لحقها دهراً طويلاً. يقول الدكتور طه وادي وهو يتحدث عن دور هذه المدرسة: ((إن دور هذه المدرسة جليل في بعث المعجم اللغوي القديم وإشاعته، بعد أن انقطعت في العصور الوسطى صلة الفكر والأدب به. إن الإحيائيين استوحوا القديم قلباً وقالباً. من هنا فإنهم قد أثروا المعجم المتداول وأعادوا للغة نقاءها وبهاءها وقوة أدائها. ومن يدرس إنتاج العصر كله فكرياً وأدبياً وصحفياً يلمس إصرار المثقفين على استخدام المفردات ذات الصلة القوية بالمعجم القديم))([13]).
وإذا صح هذا الحكم على أحد من شعراء الإحياء فإنه بدون ريب يصح على أشهر أعلامهم البارودي وحافظ وشوقي، الذين كانت لهم مقدرة لغوية متفردة، ومعجم شعري غني، شديد الصلة بالمعجم اللغوي القديم للشعر العربي.
إن ديوان شوقي كله، في مراثيه وفي غير مراثيه، يشهد بتفوقه في لغته، وهو تفوق يدل على أن صلته الوثيقة والمستمرة، بعيون الشعر العربي منحته القدرة على السيطرة عليها، حتى باتت كأنها عجينة بين يديه يشكلها كما يشاء بيسر ومهارة، وكأنها ألقت إليه قيادها تماماً، راضية مختارة.
----------------------
[1] المتنبي وشوقي، ص 91.
[2] حياة شوقي، ص 100 – 102.
[3] شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص 11.
[4] شوقي شاعر العصر الحديث، ص 78.
[5] المرجع السابق، ص 81.
[6] الديوان 2/447.
[7] الديوان 2/441.
[8] الديوان 2/480.
[9] الديوان 2/486.
[10] الديوان 2/373.
[11] الديوان 2/434.
[12] الديوان 2/496.
[13] شعر ناجي الموقف والأداة، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1990م، ص 19.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق