الأربعاء، 13 يوليو 2022

التكافل الاجتماعي في الإسلام

الفصل الأول: مولد الرسول ﷺ وعظيم خلقه .. تأملات في بعض المعاني

التكافل الاجتماعي في الإسلام

     رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً كبيراً في السوق يسأل الصدقة، فقال له: ما أنت يا شيخ؟ قال: أنا شيخ كبير أسأل الجزية والنفقة. وكان يهودياً من سكان المدينة المنورة، فإذا بعمر، المسلم العظيم، يقول له: ما أنصفناك يا شيخ!.. أخذنا منك الجزية شاباً، ثم ضيعناك شيخاً، وأخذ بيده إلى بيته، فرضخ له ما كان من طعامه، ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول: افرض لهذا وأمثاله ما يغنيه ويغني عياله.

     إن معنى الرحمة في هذه الحادثة واضحٌ بيّن، مضافاً إلى معنى العدل، وهما صفتان كبيرتان، من أهم ما تُبنى عليهما الحضارات من حيث العلاقات الاجتماعية، وحسن الصلة بالرعايا على اختلاف ما هم عليه.

     تتضح الرحمة في عناية عمر رضي الله عنه باليهودي العجوز حتى ليأخذه بيده إلى بيته هو ليقدم له شيئاً مما فيه من طعام. أما العدل فإنه يتضح إذ يعلن لليهودي أنه ليس من الإنصاف قط أن تؤخذ الجزية منه وهو شاب فتي، ثم يُهمَل ويضيع وهو شيخ عجوز، ويتضح كذلك في مسارعة تطبيق العدل من بعد إنصافه، حين يبعث عمر إلى خازن بيت المال ليفرض لهذا اليهودي منه، ما يغنيه ويغني عياله، فإن هذا الشيخ العجوز وإن كان يهودياً إلّا أنه واحد من رعايا الدولة المسلمة، لذلك عليها أن ترعاه وتتدبر أموره، ولذلك لم يفرض له ما يسد حاجته فحسب، بل وما يغنيه إلى جانب ذلك، ثم اتسع الخير والبر والعون، فشمل إلى جانب اليهودي عياله، وامتد أكثر وأكثر، فشمل جميع أهل الذمة ممن هم على شاكلة هذا اليهودي العجوز.

     لقد دلت هذه الحادثة من جملة ما دلت عليه، على خلقي الرحمة والعدل في شخص الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي طبيعة المجتمع المسلم والحضارة الإسلامية، وهذا هو الذي نحب أن نَخلص إليه مما سقناه من حديث، لنقرر على ضوئه جدارة الأمة المسلمة بالوصاية على الناس، والقوامة على الجماعات البشرية، لأن جميع الناس من مسلم وكافر، بوسعهم أن يعيشوا حياة هادئة كريمة في ظلال من الأمن والرحمة، والعدل والتكافل، تقررها العقيدة الإسلامية بادئ ذي بدء، وتقننها وتفصلها الشريعة الكريمة الطهور، وينفذها أولو الأمر والسلطان، ويسهر على رعايتها وحراستها المسلمون كلهم حكاماً ومحكومين، علماء وقادة، مسؤولين وعاديين.

     لقد كان عمر رضي الله عنه، مثالاً كريماً لهذه المعاني العِذاب الوضاء جميعاً، فلقد جمع إلى حزمه المشهور، وصرامته في الحق، رحمة متناهية بالضعفاء والمساكين، وإحساساً رهيفاً جداً بضخامة المسؤولية التي ألقيت على عاتقه.

     وإنه لرائع جداً أن ننتقل من قصة عمر مع اليهودي إلى قصة أخرى مع فتاة تطيش هزالاً رآها ذات يوم في سكك المدينة المنورة، تقوم مرة وتقع أخرى، فقال وقد رقَّ لحالها، وحزن لها أشد الحزن: يا حوبتها!.. يا بؤسها!.. من يعرف هذه منكم!؟ فقال له ابنه عبد الله: أما تعرفها يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: هذه إحدى بناتك!.. قال عمر: وأيّ بناتي هذه؟ قال: هذه فلانة بنت عبد الله بن عمر، أي ابنته هو. فقال عمر: ويحك، وما صيّرها إلى ما أرى؟ قال عبد الله: منعُك ما عندك. فقال عمر: إنك والله ما لكَ عندي غير سهمك في المسلمين وسعك أو أعجزك، هذا كتاب الله بيني وبينكم.

     إنه ما يغيب عن المرء وهو يتأمل في هذه الحادثة الفذة ما في الخليفة العظيم من أخلاق تبدو متناقضة وما هي بمتناقضة!.. فالرحمة تمتلك قلبه حتى يهتف إذ يرى الفتاة تقوم وتقع: يا حوبتها!.. يا بؤسها!... يهتف بهذا القول الذي يدل على حزن بالغ، ورقّةٍ شديدة، وحنان عميق، ورحمة واسعة لا تكلف فيها ولا تصنّع. لكن هذه المشاعر الرحيمة كلها، ما كانت لتخرق عنده الميزان الذي يتعامل به مع ولده ومع الآخرين، ولذلك يهتف بولده عبد الله وهو والد الفتاة، بعد أن تنكشف له الأمور بجلاء: إنك والله ما لكَ عندي غير سهمك في المسلمين وسعك أو أعجزك!

     أهو تناقض يا ترى!؟ لا.. ليس هو بتناقض قط، لكنه خلق الرحمة في عمَر الإنسان يتدفق فيحنو على هذه الفتاة، ثم هو خلق الإحساس بالمسؤولية في عمر العادل يمتلك عليه الموقف، فيقيم الميزان الراشد الذي لا يسمح بأن يعطى أحد من الناس أكثر مما يستحق.

     تُرى أثمة أي مبالغة إن قلنا: إن حضارتنا أعظم الحضارات وأكرمها إنْ على مستوى المبادئ، وإنْ على مستوى التطبيق!؟

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة