الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس
مكانة العهد المكي في الهجرة النبوية
ظهر الإسلام أول ما ظهر في مكة المكرمة، فقد كُلِّفَ الرسول الكريم ﷺ أن يبدأ بعشيرته الأقربين، وهم قومه في مكة المكرمة التي ولِد ونشأ وترعرع، وهكذا انطلقت بداية حركة التاريخ الإسلامي من مكة المكرمة، مهبط الوحي أولاً، وموطن رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام.
وجاءت الهجرة إلى المدينة المنورة بعد ثلاثة عشر عاماً عانى فيها المسلمون في مكة المكرمة شتى أنواع الأذى والمحن، وفي المدينة المنورة وجد الإسلام الأرض الخصيبة، ووجد النفوس الصافية، والفطرة النقية، والمعادن الكريمة التي سرعان ما آمنت بالإسلام، ومنحته صادق الولاء.
وفي المدينة المنورة برز الواقع الإسلامي في صورة حية عملية لم يظهر فيها من قبل في مكة المكرمة، هذه الصورة الحية، هي الدولة الإسلامية التي أقامها الرسول الكريم ﷺ عقب الهجرة، نموذجاً عملياً للإسلام يستقي ملامحه من التوجيهات والقيم القرآنية الكريمة، ومن تطبيق الرسول الكريم ﷺ لهذه القيم والتوجيهات.
وقبل الهجرة الشريفة لم يكن الإسلام في واقعه العملي التطبيقي سوى أفراد يعيشون مشتتين مضطهدين يعانون من وطأة المقاطعة المادية أحياناً، والنفسية والاجتماعية في أكثر الأحيان، أو مشردين في الحبشة، لاجئين سياسيين؛ كما نعبّر نحن اليوم.
وعلى الرغم من أن الانطلاق التطبيقي للإسلام بدأ في المدينة المنورة، إلا أن حركة التاريخ الإسلامي لا يمكن أن يَغْفُلَ المرء فيها عن العهد المكي. ذلك أن هذه الحركة بدأت في مكة المكرمة بناء عقدياً، ورسالة سماوية، وقيماً ومُثلاً ومبادئ، حيث ظل الوحي يتنزل بذلك طيلة ثلاثة عشر عاماً تحقق فيها أمران، الأول: عقدي حيث تكاملت الأسس الكبرى، والمعالم الأساسية لرسالة الإسلام، والثاني: عملي حيث تم بناء القاعدة المؤمنة الصلبة، وطليعة الجهاد الأولى، وهي أولئك النفر الكرام من المهاجرين الذين منحوا صادق ولائهم للإسلام في ظروف قاسية شاقة، وكانوا رأس الحربة في حركة التاريخ الإسلامي، روّاداً لزحفه المظفر الميمون، تمحّضوا لهذا الدين.
أما المدينة المنورة فقد شهدت الإسلام بناءً عملياً تطبيقياً، ونظاماً مادياً متكاملاً، يظهر شامخاً للعيان في دنيا الناس الواقعية التطبيقية، وهكذا يتكامل الأمران معاً، ويتساوقان ليصوغا التاريخ الإسلامي صياغة نظرية وتنفيذية على السواء.
وعندما بدأت الرسالة الإسلامية مسيرتها في مكة المكرمة حوصرت وحوربت، وانصب العذاب والتنكيل على المؤمنين بها، وحينَها لم يجد المسلمون أي حرج في أن يتركوا مكة المكرمة وينطلقوا في الأرض، ذلك أن الهدف لم يكن أرضاً بذاتها، بل الهدف هو غايات محدودة معينة، وهي عبارة عن مجموعة من القيم والمثل والمبادئ.
لم يكن هدف الإسلام أن تعلو أرض معيّنة، أو ترتفع راياتها، أو يسود ذووها، أو يشمخ مجدها الوطني، أو عزها القومي، وما إلى ذلك من صغار المبادئ، وتوافه الأهداف، بل كان هدف الإسلام من سعيه وكفاحه أن يفوز بأي أرض وأي قوم. يجد المسلمون عندهم وعلى ترابهم الفرصة كي تحيا القيم التي جاء من أجلها، وتطبق المثل التي دعا إليها، وتسود المبادئ التي أعلنها على الناس، لأن هذه الفرصة تهيئ لهم السبيل ليرى الناس جميعاً الصورة الحية الحقيقية للإسلام؛ إذ يُطبق عملياً، ويُنفَّذُ واقعياً في دنيا الناس.
وهذه الصورة الحية أكثر أثراً في الناس، وأبعد في إقناعهم وهدايتهم، إلى الطريق الصحيح من مجرد الدعوة النظرية فحسب!,, ومن هنا يأتي حرص الإسلام الشديد، وحرص دعاته الدائم على ضرورة تمثُّل هذا الدين واقعاً حياً، في دولة إسلامية تصاغ وفق هديه المبارك، وتشاد وفق مبادئه الكريمة الخالدة.
من أجل ذلك لم يكن غريباً قط، بل كان طبيعياً ومنطقياً وبديهياً، أنه حين وجد الرسول الكريم ﷺ، ووجد المسلمون أن هناك أرضاً أخرى، هي أكثر تمهيداً وأغنى وأخصب، وأكثر مواءمةً وملاءمة لتحقيق هدفهم الربّاني الكريم لم يترددوا في أن يتركوا مكة المكرمة، وأن يضحوا فيها بكل أملاكهم، وأحياناً بأهلهم وأبنائهم، وبكل ما هو عزيز ونفيس وثمين، مسارعين بالهجرة إلى الأرض التي لاح لهم أن شمس الإسلام سوف تسطع منها، وتنتشر في كل الأرض، لأن عقيدتهم أغلى من كل ما تركوا وأنفس من كل ما ضحّوا وأثمن من كل الذي يودّعون.
إنها مهمة كبيرة حقاً تلك التي كان على المهاجرين أن يؤدوها، ولا يستطيع الوفاء بها إلا عظماء الرجال.
ولقد شهد التاريخ فعلاً؛ أن المهاجرين الكرام كانوا عظماء حقاً، وكانوا على مستوى المسؤولية التي نيطت بهم، فنهضوا بها أحسن نهوض وأكرمه وأبلغه، فكانت حركتهم الشجاعة بداية المسيرة في حركة التاريخ الإسلامي في كل عصوره على الإطلاق، الذي ظل وسيظل مديناً لموقفهم المؤمن الجريء العملاق.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق