الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس
علاقة التاريخ الهجري بالعهدين المكي والمدني
لقد كان الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، موفقاً تمام التوفيق، حين جعل من الهجرة المشرفة بداية للتاريخ الإسلامي، لكن المرء لا يستطيع أن يغفل الركيزة الأولى التي انطلق منها هذا التاريخ في مكة المكرمة، حيث الرسول العظيم ﷺ يبلّغ رسالة الإسلام محتملاً شتى المشاق والعقبات والصعاب، وحيث صحابته الكرام الأوفياء يصرون على التمسك بإسلامهم بالرغم من المحن الثقيلة، فثمة مَنْ تشوي جلودَهم شمسُ مكة المكرمة في لهب الصيف، وثمّة مَنْ شردوا عن بلدهم الحبيب وعاشوا في الحبشة، وهم ينتظرون الفرج والخلاص ويوم النصر المأمول، مستمعين آيات الله عز وجل تتنزل بين الحين والآخر لتواجه أوضاعهم في مكة المكرمة، وأوضاع المسلمين المشابهة لها طيلة العصور، ممن يتمردون على ما في مجتمعاتهم من فساد وانحراف، ويكافحون من أجل استئناف حياة إسلامية خالصة.
حركة التاريخ الإسلامي إذن؛ تبدأ من مكة المكرمة نفسها، تبدأ منذ هاتيك الدقائق الغالية التي شرف بها الزمان واعتز، وهي الدقائق التي شهدت وحي السماء يتنزل على الرسول الكريم ﷺ ليقول له وهو في غار حراء: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1).
وبذلك بدأت حركة التاريخ الإسلامي في مكة المكرمة، عقيدة ودعوة، وقيماً ومثلاً، ومبادئ أساسية كبرى، ثم اكتملت في المدينة المنورة دولة وحكومة، ونظاماً وسلطاناً، وبناءً اجتماعياً عملياً، يقدم الصورة الحية التطبيقية للإسلام وشريعته الخالدة.
أما إنسان الإسلام الذي كان لبنة هذا التاريخ، ومادته الحية، وخليته التي تتحرك به وتحمله وتدعو إليه، فهو ذلك المسلم الذي آمن بهذه الرسالة الربانية، ووعى حقيقة مسؤوليتها، وعزم على النهوض بأعباء هذه المسؤولية والوفاء بها، وطفق يحاول أن يوجد الرصيد العملي الواقعي لرسالة الإسلام تنفيذاً صادقاً لها، وتطبيقاً جاداً لمبادئها ومثلها وأخلاقياتها.
هذا الإنسان وجد في كل العصور والأماكن منذ بزغت شمس الرسالة الكريمة، وسيظل يؤدي دوره في الحياة ما كان كونٌ، وما كانت حياةٌ حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها. قد يكون فرداً في مجتمع مظلم ناءٍ عن منهج الله تعالى وشرعه، وقد يكون انتماؤه الجغرافي الترابي لبلد غير إسلامي، وربما كان داعية إلى الله تعالى في مناطق متباعدة، في أدغال أفريقيا وصحاريها، أو في عواصم الحضارة الغربية الغارقة في المادة وعبادتها، لكنه حيث كان ويكون.. هو الخلية الحية المتحركة في مسيرة الإسلام، ما دام صادق الولاء له، وحسن الفهم لحقيقته، عاملاً على نشره وتطبيقه والدعوة إليه.
وإنسان هذا التاريخ، رجل لا علاقة له بالأرض والجنسية، واللغة واللون، والقومية والتراب، والوظيفة والحدود، والسحنة والشكل، والعادات والأزياء، وما إلى ذلك من مقاييس وحواجز متخلِّفة محدودة كابية، بل هو رجلٌ.. الإسلام وحده جنسيته وهويته، وحقيقته ووطنه. فالمعوّل في تحديد: من هو؟ وما هي حقيقته؟.. على ولائه للإسلام ومحاولة تطبيقه بشكل عملي.
ولعبرة بالغة، وحكمة جليلة، كان من صناع التاريخ الإسلامي أو ظهوره، نفر من غير العرب، كان لهم دور كبير مشكور، وكأن كل واحد منهم ممثل لأمة من أمم الأرض الأخرى، فكان بلال الحبشي ممثلاً للأحباش، وصهيب الرومي ممثلاً للروم، وسلمان الفارسي ممثلاً للفرس، فكان وجودهم مع بقية المسلمين العرب وعلى رأسهم الرسول الكريم ﷺ، إعلاناً حضارياً ضخماً، على صعيد القيم والمثل والمبادئ النظرية، وعلى صعيد التطبيق العملي، والواقع التنفيذي، بأن رسالة الإسلام للناس كل الناس، في الأرض كل الأرض، وأنها فوق الحواجز الزائفة الكاذبة المتخلفة، التي تفرق الناس أقساماً شتى، ومزقاً متناحرة بسبب اللون والجنس واللغة والزي، وما إلى ذلك من جاهليات.
إذن؛ ليس امتيازاً لأحد في الإسلام أن يكون قد ولد على أرض ما ولو كانت عزيزة غالية، كما أنه ليس نقصاً في أحد أن يكون قد ولد على أرض أخرى ولو كانت بعيدة أو كريهة أو فقيرة وما إلى ذلك.
وما قيل عن الأرض يقال عن أصل الإنسان ونسبه، ولونه وشكله، ولغته وملبسه، وكل ما يمتُّ إلى ذلك بسبب. وينطبق هذا على العرب كما ينطبق على غيرهم من الشعوب المسلمة، وما أجمل ما عبّر به د. عبد الحليم عويس عن ذلك! حين قال: "ولئن كانت المحاولات التي تعطي العرب أفضلية مجانية لمجرد الأرض أو الجنس، محاولات متناقضة مع الإسلام نفسه، فإنها كذلك متناقضة مع سنة الله في الكون، لأنه سبحانه رفض دعوى اليهود الأفضلية، ورفض دعواهم ودعوى النصارى معهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وردّ على هؤلاء وأولئك بالرد القرآني الحاسم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة18).
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق