الأربعاء، 13 يوليو 2022

إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".. عبارة وجيزة جداً، قليلة الكلمات، لكنها حافلة بالمعاني الكبار، والمشاعر السامية، والدلالات العميقة على حقيقة قائلها، وإيمانه الراسخ الضخم، ويقينه العميق المكين.

     هذه العبارة الوجيزة جداً، الغنية جداً، هي التي قالها الرسول الكريم ﷺ، لأبي بكر الصِّدِّيق، الذي عبّر عن حزنه وإشفاقه أن يصل المشركون إليهما، وفي وصولهم القتل لا ريب.

     لقد كان المشركون على فم غار ثور الذي اختفى فيه المهاجران الكريمان، وليس بين المشركين، والمهاجرَيْن الكريمَيْن إلا اقتحامُ الغار، لكن الله عز وجل خذل عدوه، وأيّد وليّه، فآب المشركون بالخيبة والخسران على الرغم من كثرتهم، وآب المهاجران الكريمان بالنجاة الكريمة، على الرغم من أنهما كانا في الغار وحيدَين مجرّدَين من أسباب القوة المادية.

     وإذن؛.. فلعله طبيعي ومنطقي ومتوقع، أن يعبّر الصِّدِّيق العظيم عن مخاوفه، فلو أن واحداً من المشركين نظر إلى موضع قدميه لرآهما، وخوفه ليس على نفسه، فهو في التضحية والشجاعة لا يُشَقُّ له غبار، لكنه خائف على الرسول الكريم ﷺ أن تقتله عصبة الغدر والوثنية والضلال، والتي آلت على نفسها محاربة الإسلام، وإطفاء شعلته المباركة النيّرة، ولكنْ كما كان موقف الصِّدِّيق هو المتوقع، فإن موقف رسول الله ﷺ هو المتوقع كذلك، حيث لم يَهِنْ، ولم يلِنْ، ولم يخشَ، ولم يضعُفْ، بل قال للصِّدِّيق قولته الرائعة تلك: "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" ما أروعها من قولة كريمة!.. في ذلك الوقت الرهيب العصيب، حيث الكفر يقف في مدخل الغار باحثاً عن الرسول الكريم ﷺ ليسارع إلى قتله. ما أروعها من قولة!.. تصدر عن فم النبوة الطهور، وبين النجاة والقتل خطوات، وبين الحياة والموت لحظات، أنياب الموت حادة قاطعة، ومخالبه كالسيوف مشرئبة، لكنَّ عناية الله أعظم، ورعايته أقوى، فإليها التفويض، وعليها الاعتماد، هي الملجأ والملاذ والمعتصم، وهي الباب الذي لا يوصد، والقوة التي لا تنفد، وهي العون السريع، والغوث المبادر.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" قولة أدخلت في قلب الصِّدِّيق العظيم، الطمأنينة والسكينة، والهدوء القوي المستيقن، وكانت بشرى خير وصدق، وأمارة فوز كبير مرتقب، وعلامة نصر قادم قريب، وذلك هو الذي كان.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" شعار كبير ضخم، ينبغي أن نرفعه اليوم، والهجرة تمرّ بنا ذكراها الطهور، ونحن نتلمس في نورها المبارك عِبَرها ودروسها، محاولين أن نجد مواضع أمينة لأقدامنا، ومعالم هادية لمسيرتنا، شعارٌ يجب أن نرفعه ونتمسك بحقيقته، ونعض عليه بالنواجذ، منارةَ صدقٍ وخير، نهتدي بضيائها، ونستمد منها العزيمة المؤمنة، والإيمان الصادق، واليقين الشجاع، والثقة الراسخة.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" شعارٌ يجب أن نعلن تمسكنا به، والهجرة تمر بنا طيوفها، وأعداؤنا علينا يتكالبون، والصعاب تظهر في طريقنا هنا وهناك، والمثبِّطون والمُخَذِّلون، والمُعَوِّقون والمُرجِفون يتعالى صياحهم المنكر، زاعمين أَنْ ليس لنا طاقة بقتال الأعداء وانتزاع الظفر عليهم من بين براثن التحديات الصعبة المسعورة. شعار علينا أن نرفعه ليكون لنا معينَ قوة ومدد، وذخراً يمدنا بطاقة من التفوق الروحي ليس لها حدود.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" شعارٌ يجب علينا أن نرفعه اليوم، على أن نلتزمه حق الالتزام، ونعيه حق الوعي، وننهض بشدة وقوة وبطولة؛ بكل تبعاته ومسؤولياته ولوازمه، ونكون متوكِّلين لا متواكلين، عاملين لا قاعدين، مبادرين لا خائفين، ونؤدي كل الذي علينا من إعداد إعذاراً إلى الله عز وجل، وإبراءً لذمتنا من أن يشوبها النقص أو التقصير، ونفعل كل الذي من شأنه أن يجعلنا مع الله عز وجل حقاً وصدقاً، قولاً وعملاً، ليكون الله جل شأنه معنا.

     وحين نتعامل مع هذا الشعار، هذا التعامل الجاد المؤمن، سيبطل كيد الأعداء، ونخرج من التحديات التي نلاقيها اليوم فائزين منصورين، بإذن الله ومشيئته، تماماً، كما بطل كيد مشركي قريش، وهم على فم الغار، فخرج المصطفى ﷺ من ذلك الموقف العصيب، فائزاً ظافراً، لينتقل بالدعوة الإسلامية من نصرٍ إلى آخر، ومن ظفرٍ سابق إلى فوز لاحق، حتى علت الراية الإسلامية، وهُزِمت راية الوثنية والبغي والعدوان.

     ما من ريب في أن التحدياتِ الكبيرةَ حولنا كبيرةٌ، لكنه ما من ريب أننا بالإيمان أقوى منها وأكبر، وما من ريبٍ في أن خصومنا مسعورون باغون عادون، غرقوا في الأذى، وبيّتوا الشر، وأحكموا المكيدة، وخلوا من شرف الخصومة، لكننا بإذن الله تعالى نحن الغالبون.

     أليس لنا إذن أن نرى في عبرة الهجرة الشريفة، بشائر خير لنا نحن -المسلمين- في أيامنا الراهنة، إذا رفعنا بحق، وتمسكنا بصدق، وأعلنَّا بوعي ومسؤولية، شعارنا الخالد العظيم: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا؟

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة