الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس
عام جديد.. والأمة المسلمة اليوم
لا يفوتنا اليوم ونحن في مطلع عام هجري جديد، انطوت به سنة من عمر الزمان، وبدأت سنة جديدة، سنتان تجعل المؤمن بين مخافتَيْن، مخافةٍ مما مضى أن تكون الذنوب كثيرة، والحسنات قليلة، ومخافةٍ مما يأتي حيث لا يدري المرء ما الله قاضٍ فيه.
لا يفوتنا اليوم في مطلع العام الجديد والمخافتان تحيطان بنا من هنا ومن هناك، أن نتوقفَ عند دروس الهجرة الشريفة العظيمة، التي تذكِّرنا بها إطلالة العام الجديد، إذ يفد شهر محرَّم فيحمل إلينا ذكراها الطهور، لنستجليَ دروسَها الكريمة، في محاولة جادة واعية لفهم عبرها البالغة العظيمة، وعظاتها الغنية الواسعة، ودلالاتها الكريمة المعطاء، في السرية والكتمان، والإعداد والتدبير، والصبر والاحتمال، والتضحية والفداء، والشجاعة والبطولة، والإيمان القوي الذي لا يتزعزع، وإخلاص النية لله عز وجل وصادق الاعتماد عليه والتفويض إليه، واسترخاص المال والأهل والوطن وكل شيء في سبيل العقيدة.
تواكبُ محاولَتنا الجادةَ لفهم ذلك كلِّه ووعيِه وحسنِ الإحاطة به؛ محاولةٌ جادة أخرى للإفادة العملية منه في الذي نواجهه اليوم من متاعب ومشكلات، وصعاب وتحديات، وذلك بأن نستلهمَ دروسَ الهجرةِ الشريفة، ونستنيرَ بخطواتها المباركة المؤمنة، متأسِّين بما فعله في جميع مراحلها رسولُنا الكريم محمد بن عبد الله ﷺ وصحبه الكرام الأوفياء.
إن الأمة المسلمة اليوم، وهي تعاني متاعب كبيرة، وتحديات بالغة الخطورة، وصعاباً وعقباتٍ، وتواجه خصوماً في منتهى الشراسة والمكر، والخديعة والعنف، والغدر والخسة، ونقض العهود وإخلاف الوعود، يهدفون إلى تصفيتها تصفيةً تامة، تصفيةً جسديةً ومعنوية،.. إنها وقد كثرت عليها مؤامرات الأعداء من الشرق والغرب، واشتدت في وجهها الأعاصير الباغية الخؤون، حتى هال ذلك كثيراً من أبنائها، فسقطوا أسرى الوهن المخجل، والخوف المُقعِد، والرعب المستحكم من قوى الأعداء، والخيالات التي تزيد من قوتهم، وتبالغ في قدراتهم وإمكانياتهم،..
إنها وحالُها كذلك في أشدِّ الحاجة إلى أن تعود إلى عِبَر الهجرة، تتوقف عندها وقفةً جادة ذكية، وتفحصها وتغوص في أعماقها، وتبحث عن دلالاتها العميقة، وتستخلص من ذلك كله، معالمَ وضيئةً بيّنة، لا عوج فيها ولا التواء، ولا لبس ولا غموض، تتخذ منها صُوَىً هاديةً مباركة في مسيرتها الصعبة الشاقة، ومشاعلَ صدقٍ ونور، تقودُ خطاها في دربها الوعر الطويل، حيث الأعداء الحاقدون يُعِدّون لها المكيدة تلو المكيدة، والشر والأذى، والمتاعب والصعاب دون أن يرعوا في ذلك إلًّا ولا ذمة، ولا وفاءً ولا حرمة، ولا قانوناً اتفق عليه الناس، ولا معنى من معاني الأخلاق والفضائل تعارفت عليه البشرية.
إن الأمة المسلمة اليوم شديدة الحاجة لدراسة الهجرة الشريفة، وحُسنِ وعيها، والاستنارة بدروسها الهادية المباركة الرشيدة.
إن خصوم الأمة المسلمة اليوم كثيرون بلا ريب، أقوياء أذكياء، يكيدون لها، ويَأْتَمِرون بها، ويريدون لها الشر، ويخططون للقضاء عليها، قضاءً مادياً ومعنوياً على السواء.
وما من ريبٍ أن تدبيرهم خطير، وشرّهم كبير، ونيّاتِهم خبيثة، وإعدادَهم مكين، لكن هذا كلّه من الممكن أن يسقُط تحت إصرارِ المؤمن، وعزيمته القوية، وإيمانه الشامخ المستعلي؛ تماماً كما سقط مكر الأعداء من مشركي قريش، وبطشُهم وقوتُهم، وذكاؤهم وكثرتهم، وإصرارهم واستماتتهم في الخصومة، وعنادهم الغريب الملحاح، وهم يلاحقون المصطفى الكريم ﷺ، وهو مُجرَّدٌ من القوى المادية، معزولٌ عن أسباب القوى الظاهرة، مختفٍ في غارٍ صغيرٍ بعيد، على قمةِ جبلٍ أجردَ موحشٍ، ليس معه من البشر سوى الصِّدِّيق رضي الله عنه وأرضاه.
لو نظر إنسانٌ بعين المادة وحدَها، وحساباتها للأشياء، وتقديرها للنتائج على ضوء المقدِّمات؛ لتوهَّم أن أمر الإسلام قد انتهى وباد، وما هي إلا لحظات حتى يصبحَ خبراً من الأخبار فحسب!.. فالرسول الكريم ﷺ في غار ثور، وأعداؤه الكثيرون الحاقدون المصمّمون على قتله وصلوا إلى فم الغار وأحاطوا به، لكنَّ عناية الله عز وجل حرست المهاجِرَيْنِ العظيمَيْن، وصرفت عنهما كيد الأعداء. ذلك أنهما فوّضا إليه جَل شأنه أمريهما بعد أن أخذا بكلِّ الأسباب المتاحة لهما، فأدّيا ما عليهما دونَ أيِّ تقصير.
واليوم على الأمة المسلمة أن تبذلَ كلَّ جهدها، وتأخذَ بكلِّ سببٍ متاح، ثم تصدقَ في التوكل والتفويض والإنابة، يأتيها بإذن الله تعالى النصر المؤزر والفوز المبين.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق