السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - تبديل وتعديل

تبديل وتعديل

     كان عمر أبو ريشة يعيد النظر في شعره كثيراً، وربما أسقط قصائد كاملة من شعره فيما نشر من دواوين، وربما عدل تعديلاً كبيراً أو صغيراً في بعض شعره حين يعيد نشره في طبعة تالية. ومرد ذلك أنه كان كثير التجويد في شعره ذلك أنه كان يتأنى فيه ويتعنى، ويبذل جهداً غير عادي لأنه كان شاعر صنعة أكثر منه شاعر طبع. وإذا حاولنا أن نستقصي مفهومه للشعر من خلال المقابلات التي أجريت معه وهي كثيرة سنجده يرفض فكرة الوحي فيه الذي يصفه بأنه: هالة يضفيها بعض الشعراء على أنفسهم، حتى يوهموا به الناس، ونجده يقرر أنه ينظم الشعر دون إيمان بهذا الوحي.

     وكان يرفض تصنيف النقاد للشعراء إلى مدارس، وعنده أنه ليست هناك مدرسة كلاسيكية أو رومنطيقية أو رمزية أو سريالية إلى آخر ما هنالك من مسميات، هناك شعر وشعر فحسب.

     والقصيدة عنده: خلجة أو خطرة أو عاطفة تنتهي عن طريق التداعي إلى التبلور في فكرة لها لونها وجرسها وخيالها. وهذه العناصر الثلاثة اللون والنغم والخيال؛ أشبه بأجنحة ثلاثة تنهض بالفكرة إلى المدى الذي يريده لها، وإذا فقد جناح واحد منها في قصيدة ما، لم تستطع النهوض، وكانت قطعة من النثر أو هي بالنثر أشبه.

     وكان عمر أبو ريشة يكرر كثيراً أنه شاعر قصيدة لا شاعر بيت، وأن القصيدة عنده وحدة لا تتجزأ، وأنه كان يحرص على أن يختمها ببيت كان يسميه بيت المفاجأة أو بيت الاستثارة. وكان يسوق هذا المعنى باعتزاز يقرر معه أنه يختلف بشعره عن كافة المدارس والمذاهب القديمة والحديثة، فالقصيدة في الأدب العربي مفككة يستطيع القارئ أن يعيد ترتيب أبياتها فيحذف منها ويضيف إليها، والشاعر العربي يضع كل المشاعر والتفسيرات والأحاسيس في قصيدته بحيث لا يترك للقارئ مجالاً لتفاعله مع القصيدة، أما هو فيهتم بأن يدع للقارئ مجالاً للتفاعل مع شعره، ويهتم بالفكرة فيأتي بها دائماً في آخر القصيدة بحيث تفاجئ القارئ، ويؤكد أن ذروة القصيدة عنده هي آخر بيت فيها، ويؤكد أيضاً ــ وفي تأكيده هذا شطط كبير ــ أن له مذهباً خاصاً في الشعر يختلف عن شعراء الشرق والغرب.

     وحين قام الأستاذ سيمون عواد بإجراء حوار معه لاحظ أنه يعنى ببيت المفاجأة، فأراد أن يعرف أذلك صدفة أم أمر مقصود؟ فسأله: لاحظنا من كل ما أوردت من قصائد أن البيت الأخير هو بيت مفاجأة يخلق فكرة لم نتوقعها؛ فهل كان ذلك صدفة أم عن سابق تخطيط؟ فأجاب عمر أبو ريشة: «هذا أسلوبي في الكتابة، القصيدة عندي وحدة متكاملة تحمل فكرة جديدة تعودت أن أختمها ببيت الاستثارة أو كما تقول بيت المفاجأة»[1]، وكان هذان المعنيان «وحدة القصيدة» و«بيت المفاجأة» يتكرران كثيراً في المقابلات التي تجرى معه.

     عمر أبو ريشة إذن شاعر يرفض فكرة الوحي والإلهام، ويرفض تصنيف الشعراء إلى مدارس، ويرى أن الشعر نظم ومعاناة، ويحدد ثلاثة عناصر للشعر يحرص على أن يوفرها فيما ينظم، ويصر على أن شعره وحدة لا تتجزأ، ويحرص على ما سماه بيت المفاجأة، ويهتم بالفكرة التي يريد توصيلها للمتلقي، ويوافق سيمون عواد في أنه يفعل ما يفعل عن سابق وعي وتخطيط. ومعنى ذلك أنه كان ينظر إلى الشعر على أنه صنعة تحتاج الصبر والمعاناة، بل تحتاج إلى المعاودة تعديلاً وتبديلاً وتهذيباً وحذفاً وإضافة، مثله في ذلك مثل ذي الرمة الذي يلاحظ كل من ينظر في ديوانه أنه «ليس من طراز أولئك الشعراء الذين كان القدماء يقولون عنهم: إنهم يغرفون من بحر. ولكنه من طراز أولئك الذين كانوا ينحتون من صخر، أو بعبارة أخرى من مدرسة الصنعة التي كانت تنظر إلى الشعر على أنه صناعة لا بد من أن يوفر لها صاحبها كل جهده، ويتعاهدها بالتنقيح والتهذيب والتقويم والتثقيف»[2]. والنظر في شعر عمر أبو ريشة ما بين طبعة للديوان وأخرى يسعفنا في تقديم الشواهد على أنه كان كثير التبديل والتعديل والمعاودة.

     في قصيدته الشهيرة «جان دارك» صور عمر أبو ريشة البطلة الفرنسية بين رغباتها الجنسية المكبوتة وبين تقواها الدينية السامية، فكان ختام القصيدة في المرة الأولى:

فبـدت تصلــــي للصليـــ     ـب؛ صلاة فائزة طروبة
فإذا به ما زال يـــــــــــر     مقها بنظـــرات رهيبـــة

     وهذا الختام يقدم لنا البطلة الفرنسية وبقايا رغباتها الجنسية لا تزال فيها، مما يجعل الصليب يؤنبها في نظرات رهيبة لأنه كان يريد منها أن تميت فيها كل أهوائها من أجل ما آمنت به ودفعت حياتها ثمناً له.

     لكن هذا الختام يصبح في المرة الثانية:

فبدت تصلي للصليــــــــ     ـب؛ صلاة فائزة طروبة
فــــإذا به يحنـــو عليـــــ     ــها بابتسامتـــه الحبيبــة

     والختام المعدل في النشرة الثانية أفضل في حق البطلة الفرنسية التي جمعت إلى الوطنية والبطولة التدين الذي يصل إلى القداسة، وهو تدين يجعلها تبرأ من شوائب الرغبات الجنسية فتلاقي من الصليب الحنان والابتسام لا التأنيب والزجر، لذلك كان عمر أبو ريشة موفقاً في هذا التعديل.

     وفي أوبريت «عذاب» يجري عمر أبو ريشة تغييراً في بعض كلمات البيت الذي تخاطب فيه سعاد زوجها:

تقبلني؟ إن صدر الفراش     تمزق من أمسنـا الممتــع

     ليصبح:

تقبلني؟ إن خــد الوساد     تململ في ليلنــا الممتع

     والتغيير يشي بذوق عمر أبو ريشة ودقة تأمله للكلمات، فخد الوساد أقرب إلى طبيعة الصورة من صدر الفراش، والتململ أرفق من التمزق، وأدل على الموقف، والليل يوحي بالمتعة، أما الأمس فيوحي بالانقضاء.

     وربما يشعر عمر أبو ريشة بأن بيتاً واحداً يغني عن اثنين، فيقوم بدمجهما في بيت، نجد ذلك في قصيدة «خداع» حيث يمر بنا البيتان التاليان:

وتهت ببرد الشبـــاب القشيـب     وفتنة نظراتــــك الساحـــــرة
فلم تسمعي زفرتي في الهـوى     ولم تمسحي دمعـتي الحائــرة

     وهذان البيتان يندمجان معاً في بيت واحد:

وتهت علي فلم تسمـــــــــعي     صدى زفرة في الدجى ثائرة

     وربما نظر إلى كلمة عنده فوجدها حشواً فحذفها، وهو ما نجده في قوله في القصيدة السابقة:

سمعت بأذني صوت الضمير     يردد يا وغــد لا تعتـــــــــــد

     إن السماع يكون بالأذن بداهة، لذلك لا داعي لذكرها، وهو ما فعله الشاعر فجعل البيت هكذا:

سمعت نداء الضمير الجريح     يتمتم يا وغــــــــــــد لا تعتد

     وأحياناً يحذف بيتاً لم يرق له، ففي قصيدته «يا عيد» نجد هذا البيت في طبعة، ثم لا نجده في طبعة تالية:

فأطمعت كل باغ فــي كرامتهـا     لا يلطم الليث إلا وهـو مصفود

     ومثل ذلك يقال عن هذا البيت الذي نجده في قصيدة «الصليب الأحمر» يظهر في طبعة، ويختفي في أخرى:

في كل صــوب أرعن متنمر     يسعى إليه أرعن متنمــــــــر

     وكذلك قوله في قصيدة «عاصفة»:

ارفــعي الرأس عن مواطئ نعـلي
               وانحري الخوف فوق مذبح يأسك

     وهو بيت يصور فيه توسل المرأة بطريقة فيها استجداء وذل وهوان، والحذف هنا مشكور، إذ إن في البيت قسوة هائلة لا تتفق مع طبيعة الشاعر الدبلوماسي الرقيق الذي طالما أكد أنه أحب المرأة كثيراً، واختلف معها كثيراً، ولكنه لم يسئ لها في كل الأحوال، وأنه لم يهن جمالها قط حتى عند اختلافه معها.

     وفي قصيدة «هذه أمتي»، وهي قصيدة وطنية هاجم فيها الشاعر فرنسا يوم كانت تستعمر سورية وغيرها من البلدان العربية، نجد له خمسة أبيات يحذفها فيما بعد:

رحــــــم الله هتلراً يـــا فرنســـــــا
               كنت أشهى إمائــــــــــه وحســانـه
أو لم تهتـــكي على قدميـــــــــــــه
               ما هفت كل غــــــــادة لصيانـــــه
كم تـلويت في لياليــــه سكــــــرى
               بين حمى شفاهــــــه ودنانــــــــــه
فدعي الزهــــــــــو إنمـــا الزهــو
               للجـــانيــه من حد سيفه وسنـــانـه
واغضضي الطرف أنت أم لشعب
               ليس ديغولُــــــــــه سوى بِيتانِــــهْ

     ديغول وبيتان من قادة فرنسا العسكريين يوم اجتاحها الألمان في الحرب العالمية الثانية، والأول رمز لمقاومة المحتل، والثاني رمز للاستسلام، والشاعر يسوي بين الاثنين ازدراء لفرنسا كلها.

     والأبيات سخرية مرة بفرنسا، وشماتة بهزيمتها المنكرة على يد هتلر، ولعل الشاعر حذفها حين وجد بلده وسواه من بلدان العرب قد حصل على الاستقلال من فرنسا، وظن أن عهداً جديداً من التعاون بين أعداء الأمس قد جاء مما يستدعي طي صفحة الأحقاد. وليته لم يفعل!.. فمثل هذه الأبيات ذات قيمة فنية جميلة، وذات قيمة سياسية تاريخية، ثم هي لا تقدم ولا تؤخر فيما كان يؤمله الشاعر من علاقات جديدة.

     وقد حذف الشاعر فيما حذف تسعة أبيات من أوبريت «عذاب»، وثمانية أبيات من قصيدة «خداع»، وخمسة أبيات من قصيدة «جان دارك».

     كما أنه زاد في أوبريت «عذاب» خمسة عشر بيتاً، وزاد في «كاجوراو» أحد عشر بيتاً، وزاد في قصيدة «محمد» ستة أبيات، وزاد أربعة أبيات في قصيـدة «شاعر وشاعر».

     وهكذا كان عمر أبو ريشة يغير في شعره حذفاً وإضافة وتبديلاً، لدواع فنية أو سياسية أو ذوقية، يحدوه في ذلك أنه شاعر ذو أناة ومعاودة، ينظر إلى العمل الفني على أنه جهد متكرر لا بد من تحسينه ولو بعد حين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

     وممن شهد لعمر أبو ريشة بذلك، وأشاد به، الدكتور عبد القدوس أبو صالح، فقد قرر أن شاعريته تطورت تطوراً سريعاً مذهلاً، وأعاد ذلك التطور إلى حرص الشاعر على التنقيح والتبديل والحذف الذي ربما يمتد إلى إلغاء مقاطع كاملة[3].

-----------------
[1] المجلة العربية، الرياض، جمادى الثانية 1398هـ= مايو 1078م.
[2] يوسف خليف، ذو الرمة شاعر الحب والصحراء، القاهرة، مكتبة غريب، ص274.
[3] مجلة أهلاً وسهلاً، جدة، ديسمبر 2000م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة