السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - المسرح الشعري

المسرح الشعري

     يبدو أن عمر أبو ريشة كان يطمح إلى أن يكون شاعراً مسرحياً إلى جانب كونه شاعراً غنائياً، ولذلك نشر مسرحية كاملة هي «ذي قار» كانت أول أعماله المنشورة، وأوبريت باسم «عذاب» ضمن ديوانه، ونشر فصولاً من ثلاث مسـرحيات لم تكتـمل هي «محكمة الشعراء» و«الطوفان» و«سمير أميس»، وأعلن عن ثلاث مسرحيات هي «تاج محل» و«علي» و«الحسين»، ولكن لم ير النور منها شيء مع تكرار الإعلان وتطاول الزمان.

     ودراسة المسرحية الوحيدة المكتملة «ذي قار» التي لم يعد طباعتها قط، مع مرور قرابة ستين عاماً على طبعتها الأولى[1]، ودراسة الأجزاء المنشورة من مسرحياته الثلاث، والتساؤل عن جدية ما وعد به من مسرحيات أخرى، كل هذا يحمل الدارس على أن يقرر أن عمر أبو ريشة انصرف عن المسرح الشعري لأنه لم يرض عما أنجزه فيه، مما جعله يؤمن أنه شاعر غنائي قبل كل شيء، وهذا ما يؤكده الواقع حيث صب معظم اهتمامه على الشعر الغنائي حتى مات، ولقد كان محقاً فيما فعل فهذا الشعر هـــو مجال تفوقه وهو الذي عاش معه حتى آخر عمره.

     ومن المقرر لدى الدارسين والنقاد أن الأدب المسرحي أدب جديد على العربية، وأن الشعري منه أكثر جدة. وكان أحمد شوقي أول من أدخل المسرح الشعري إلى الأدب العربي، وقد وهب السنوات الأخيرة من عمره لهذا الفن، فأخرج مسرحياته «مصرع كليوباترة» و«مجنون ليلى» و«الست هدى» و«علي بك الكبير» و«عنترة» و«قمبيز».

     ومع الجهد الكبير الذي بذله شوقي في هذه المسرحيات، ومع أنه كتبها، وهو في أوج نضجه واكتماله إلا أن النقاد وقفوا عند عدد من العيوب والثغرات فيها، ولعل كونه الرائد الأول في هذا الباب يشفع له. وخلافاً لشوقي كان صنيع عمر أبو ريشة. بدأ شوقي شاعراً غنائياً وظل طيلة حياته كذلك، وعني بالمسرح الشعري أواخر عمره، أما عمر أبو ريشة فقد عني بالمسرح الشعري في أوائل حياته لكنه انصرف عنه مبكراً وركز على الشعر الغنائي.
❊❊❊

     مسرحية «ذي قار»: هي المسرحية الأولى للشاعر، وهي المسرحية الوحيدة المكتملة لديه، أما باقي مسرحياته فهي أجزاء غير مكتملة أو وعود، ولذا يجدر بنا أن نتوقف لديها لأنها أجدر من سواها بكشف قدرات عمر أبو ريشة المسرحية.

     تعود مسرحية «ذي قار» إلى العام 1929م، حيث نظمها الشاعر وهو لا يزال في العشرين من عمره ومثل هذه السن لا تؤهله للعمل المسرحي الذي يحتاج إلى دربة وخبرة ومعرفة جيدة بالفن المسرحي. وتأخر نشر المسرحية عامين فرأت النور عام 1931م، حين نشرها الأستاذ محمد صبحي اللبابيدي، صاحب المكتبة الحلبية في حلب، وهي تقع في مئة وست عشرة صفحة من القطع الصغير، وقد ألـحق بها الناشر عشر صفحات أخرى للأستاذ حمدي كامل، عنوانها «نظرة في شعر المؤلف».

     تدور مسرحية «ذي قار» حول قصة حب يلتقي فيها أبطال المسرحية في مسلسل من الوقائع يتداخل فيها هذا الحب بالصراع بين العرب والفرس الذي كانت ذروته يوم ذي قار الذي وقع مع بداية البعثة النبوية الشريفة أو قبلها بقليل.

     وأصل الواقعة التاريخية لذي قار أن كسرى ملك الفرس غضب على النعمان ملك الحيرة، وكان تابعاً له فقتله، وعين مكانه إياساً الطائي، وكانت للنعمان ودائع عند هانئ بن مسعود الشيباني فطالبه إياس بها فأبى، ومن هنا اندلعت شرارة الحرب بين الفرس والعرب، واستمرت الحرب أياماً انتهت بانتصار العرب في يومها الأخير الذي عرف بيوم ذي قار، وهو ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة.

     ولم يكن لهذا النصر قيمة إستراتيجية ذات بال، إذ ظل الفرس في موقع القوة والسيادة، وظل العرب في موقع الضعف والعجز حتى جاءت الفتوح الإسلامية بعد ذلك بقليل، فغيرت المعادلة وقلبت مجرى التاريخ، لكن هذا النصر كانت له قيمة معنوية كبيرة فقد فرح به العرب، وطربوا له، وارتفعت روحهم المعنوية إذ وجدوا أنفسهم ــ وهم الضعاف الفقراء الممزقون ــ منتصـرين على دولـة عظمى كانت أحـد قطبين يحكمان العالم: الفرس والروم.

     أما عمر أبو ريشة فلم يأخذ بالأصل التاريخي للواقعة، وإنما اختار منها وأضاف وتخيل، فكانت وجهتها عنده أن الأحداث وقعت في زمن النعمان نفسه، وخلاصتها أن كسرى أراد أن يتزوج ابنته الحرقاء، فرفض النعمان فاشتعلت المعركة، وانتصر العرب على الفرس، وتزوجت الحرقاء من المنذر بن الريان وهو ابن عمها وكان محباً لها.

     تتكون المسرحية من أربعة فصول يمكن إيجاز أحداثها على النحو التالي:

الفصل الأول: ويغطي الصفحات من 8 إلى 38، وتجري أحداثه إلى جوار غدير ماء، حيث نجد مجموعة من الشبان يرقصون «الدبكة»، وهم ينشدون أبياتاً على بحر راقص هو مجزوء الرمل، تقول اللازمة المكررة فيها:

كلما الصـب المعنَّى     أبصر المحبـوب أنّا
وإذا ما الليـل جــــنَّا     أترع الكــأس وغنَّى

     ويتفرق الشبان حين يدخل عليهم الأمير المنذر بن الريان، لكن الأمير يأبى أن يفسد صفوهم فيعودون، ويعود المجلس للغناء والراح، ويتفاعل الأمير مع المجلس فيكشف عن أحزانه ويبوح بحبه للحرقاء بنت النعمان، وتدخل وهو في حاله هذا من الوجد والبوح فتاتان هما هند ومريم فتعلمان حقيقة الأمر فتقوم مريم بإبلاغ الحرقاء بعشق ابن عمها لها، فيلتقي العاشقان المنذر والحرقاء، ويتبادلان الغزل ويتعاهدان على الإخلاص والوفاء.

أما الفصل الثاني: الذي يستغرق الصفحات من 39 إلى 59، فتدور أحداثه في بلاط كسرى ملك الفرس، حيث نرى كسرى ومعه وزراؤه وندماؤه وشعراؤه، أحدهم يمدح، والثاني يداعب، والمنشدون يغنون، وكسرى يطرب ويهب، وحين يدخل الطميح أحد قادة كسرى يزف لسيده بشرى انتصاره على بني شيبان، ويعرض عليه من سباهن من بناتها، وهن حسناوات كواعب يعجب كسرى بهن، فيشيد أحدهم بجمالهن الذي يكاد يشبه جمال الحرقاء، وهنا يسأل عنها كسرى فيعلم عنها ما يدعوه إلى الرغبة في الزواج منها، ويرسل إلى أبيها النعمان في طلب ذلك، وينتهي الفصل وعلى خشبة المسرح عربيان هما عصام وعناد، يعبران عن ضيقهما برغبة كسرى، ويريان أنه لا يليق بالحرقاء، فهو مزدكي إباحي غصوب، لا يرقى وإن كان ملكاً إلى مستوى الحرقاء الفتاة العربية الحرة.

أما الفصل الثالث: وهو يستغرق الصفحات من 59 إلى 81، فتدور أحداثه في الحيرة في قصر النعمان، حيث نشاهد الحرقاء تتحاور مع مريم وهي قلقة على ابن عمها المنذر الذي تأخر الوقت ولم يظهر، ومريم تهدئ من مخاوفها، ثم نشاهد النعمان مع وزرائه وحاشيته، يصرف شؤون دولته فيرى شيخاً يهودياً اعتدى عليه أحد وزرائه، فيحمله حبه للعدل على إنصاف اليهودي وتحقيق مطلبه وإلقاء الوزير الظالم له في السجن، ثم يدخل الشعراء ومنهم النابغة الذبياني الذي يلقي بين يدي النعمان قصيدة مطولة تقع في ثمانية وعشرين بيتاً مطلعها:

اعقل قلوصي أيهذا الحادي     إنا بربع بثيــــنة وسعــــــاد

     وينتهي الفصل وقد جاء الطميح يخطب الحرقاء بنت النعمان لسيده كسرى، فيرفض والدها رفضاً قاطعاً مع ما في الرفض من أخطار ومهالك، ومع تهديد الطميح إياه.

أما الفصل الرابع: وهو الأخير أيضاً فإنه يغطي الصفحات من 82 إلى 116، وتدور أحداثه قرب قصر الريان، حيث نشاهد العاشقين المنذر والحرقاء يتلاقيان ونذر الحرب تتوالى، ويتعاهدان على الوفاء، ويتواصيان بالصبر والاحتمال، وتطلب الحرقاء من المنذر أن ينسى الغرام، وأن يبذل نفسه في طلب المعالي، وهي هنا بطبيعة الحال التصدي لكسرى ومطامعه، ثم نرى النعمان وحاشيته بملابس الحرب وهو ينشد أبياتاً حماسية يظهر فيها اعتزازه بملكه وعروبته وهزؤه بكسرى، ثم يبدأ القتال الذي يأخذ شكل مبارزات فردية يقتل النعمان في إحداها، وفي ثانية يلتقي الطميح وهو عربي موال لكسرى مع ابنه عصام الموالي للنعمان، ويدور بينهما حوار طويل تظهر فيه عروبة عصام وإخلاصه لقومه، ويتبارز الأب والابن فيسقط الابن قتيلاً. أما الحرقاء فتهرب إلى الصحراء حيث يجيرها بنو بكر بن وائل، وينتهي الفصل بانتصار العرب ومبايعة قبائلهم للمنذر ملكاً عليهم، وزواج المنذر والحرقاء، ويقفل الستار والعرب ينشدون أنشودة الانتصار على الفرس والاعتزاز بمجدهم وعروبتهم.

     ودراسة المسرحية تنتهي إلى النتائج التالية:

(1) لم يستطع الشاعر أن يبني مسرحيته بناء درامياً متقناً، يأخذ الثاني منه برقاب الأول، ويفضي إلى الثالث، بحيث تتدافع الأحداث وتتعقد، حتى تأخذ ذروتها ثم يكون الحل، فمثلاً نجده في الفصل الأول يطيل مجالس اللهو والشراب والغناء إطالة تخرج بها عن وظيفتها منذ أن نلتقي بمجموعة الفتيان الذين يرقصون ويغنون وينشدون إلى أن يدخل عليهم المنذر بن الريان فينشد هو الآخر أبياتاً دالية يعبر فيها عن حبه، وأبياتاً أخرى رائية يدعو الفتيان فيها إلى أن يستمروا في لهوهم حين هموا بالانسحاب توقيراً له واحتراماً، ويغفو الأمير ويصحو لنعلم خلال ذلك في أبيات له تطول كثيراً حتى تبلغ تسعة عشر بيتاً أنه وقع في حب ابنة عمه الحرقاء.

     ويتصل بهذا الملحظ أننا نرى في المسرحية مواقف استطرادية دخيلة تماماً كموقف الشيخ اليهودي المتظلم الذي نلقاه في الفصل الثالث، وهو موقف مقحم تمام الإقحام ليست له أي فائدة في دفع الأحداث أو تفسيرها ولو حذف كله لما خسرت المسرحية شيئاً، ومثل ذلك يقال عن القصيدة الطويلة التي يلقيها النابغة الذبياني بين يدي النعمان في الفصل الثالث، وهي قصيدة لا صلة لها قط بأحداث المسرحية، وليس لها أي داع مسرحي أو ضرورة درامية، بل إنها زيادة على كونها مقحمة تبتعد بالنظارة عن أصل المسرحية ومادتها الأساسية حين يسمعون إليها، وهي تتحدث في لغة فخمة جزلة بدوية عن القلوص والنؤي والأوتاد والأظعان والوجناء والشآبيب والعير والأثفان والرسيم والقتاد والقفر والرميم والذئب والمشطب والسيل والوادي، مما يصور فيه الشاعر رحلته في الصحراء حتى يصل إلى النعمان طالباً رفده وصفحه.

     إن هذا الطول في الأبيات، وهي مقحمة ابتداء، ثم هذه اللغة الحوشية الغريبة التي لا يكاد يستوعبها النظارة يشعرهم بالافتعال والتكلف، ويبعدهم عن جو المسرحية. وربما كان لهذه القطعة التي وضعها عمر أبو ريشة على لسان النابغة سبب نفسي لا علاقة له بالمسرحية وهو رغبته في أن يثبت مقدرته اللغوية فحشد لنا ما حشد في هذا الاستطراد، ويؤكد صحة هذا الاستنتاج ما رواه الدكتور سامي الدهان حين قال: «وكم فعل عمر مثل هذا حين كنا نخلو إليه في جلساتنا في حي قريب من قلعة حلب، يهدر بالشعر القديم ويقلده متندراً ساخراً، ولن أنسى أنه كان يخدعنا عن أنفسنا ونحن في مطلع الشباب فنحسب أن الشعر قديم حقاً، ويلهو بنا زمناً نبحث فيه عن صاحب الشعر في المصادر القديمة، ونعود إليه لنقرأ في ثغره ضحكة الشباب المنتصر الساخر»[2].

     وما قيل عن هذا الاستطراد يقال عن استطراد مماثل نراه في المبارزة التي تقع بين الطميح وابنه عصام، فهو استطراد مقحم هو الآخر لا يدفع بالأحداث ولا يضيف أي خيط إلى بناء المسرحية.

     وبهذا يتبين لنا أن في المسرحية مواقف مقحمة وطولاً يعطل الحركة، ويدفع إلى الملل، تفقد الأحداث معه تواليها وتسلسلها وتصاعدها.

(2) خالف الشاعر قاعدة الوحدات التي تحرص عليها المسرحية الكلاسيكية، وهي وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الموضوع، فبعض الأحداث يجري على الغدير، وبعضها يجري في قصر النعمان، وبعضها يجري في قصر كسرى، وبعضها يجري في منطقة ذي قار ليمتد عدة أيام، وكان أثر ذلك في المسرحية أن بدت مفككة تراخت معها الحبكة، وغاب التركيز وضعف عنصر الصراع وترهل.

(3) لم يستطع عمر أبو ريشة أن يصور خصوصية الأبطال الرئيسيين في المسرحية فكان عرضه لهم عرضاً سطحياً لم يغص فيه على أعماقهم، وإذا كان هذا مقبولاً حيال أي واحد منهم، فإنه لا يقبل قط فيما يتصل بالبطل الرئيسي المنذر بن الريان الذي يريد الشاعر أن يقدمه لنا بطلاً قومياً يتصدى لأعداء أمته ومقاتلاً شجاعاً لا يهاب ولا يضعف. إن صورته هذه تتناقض مع مشاهدتنا له عاشقاً رقيقاً رهيفاً يقول عن نفسه:

يميل بي اللحن ميل الزهور     وقد قبــلتها شفــــــاه السحر

     ومع مشاهدتنا له شاباً رومانسياً كثير البكاء والشكوى وهو يقول:

يا غراماً بين أحشائي نما     ورماني في بحور التعس
أترى تهجر قلبــاً مكلمـــا     يتلظى في سعـــير النفس

     ومع مشاهدتنا له دنفاً كأنه مراهق واهم حالم وهو يقول:

أيها الموت اقترب واشفق علي
يـا أخي
وانبتي يا أرض من بعد مماتي
كل نبت عاطر فـــوق رفــاتي
عله يقتـــاد من كنـــــــــت أود
فاستــبد

     إن المنذر بن الريان هو الشخصية المحورية في المسرحية، وهذا يستدعي من الشاعر أن يصور ملامحه النفسية تصويراً يجمع كل خيوطها ليبرزه لنا شخصاً مندفعاً مقداماً حياً، ذا ميل جامح يشد النظارة ويستأثر باهتمامهم، خاصة أن عمر أبو ريشة كان يريد أن يقدمه لنا بطلاً قومياً ومقاتلاً يدافع عن عروبته ضد عدو خارجي، لكن المشاهد التي عرضت لنا المنذر لم تتعاون كلها في بناء هذه الصورة الموحدة، بل تفرقت لترسم لنا عدة صور لشخصية محورية واحدة.

(4) هناك مواقف يشق على النظارة الاقتناع بها لأن عمر أبو ريشة لم يحشد لها المسوغات المنطقية المقنعة التي تخفف من غرابتها وتجعل الإنسان قادراً على افتراض إمكانيتها. فالموقف الذي يتبارز فيه الطميح مع ابنه عصام موقف غريب لم يستطع الشاعر أن يصوره التصوير الدقيق. نحن هنا أمام مأساة أخطر من حب المنذر والحرقاء، إنها ذروة مأساة درامية يقتتل فيها الأب الذي يوالي كسرى مع ابنه عصام الذي يوالي المنذر، ويقتل الأب ابنه مع إعجابه بانحيازه إلى قومه ودفاعه عن ذويه، وبعد وقوع القتل لا نجد من الأب القاتل الندم الذي يليق بمأساة من هذا النوع، وهي مأساة كانت جديرة بوقفة نفسية تحليلية ربما يتسرب بسببها شيء من الإقناع إلى النظارة الذين لابد أنهم استغربوا كثيراً وهم يرون والــــداً يقتـــل ابنــه دون تردد شديد قبل القتل، ودون ندم أشد بعده.

(٥) يلاحظ على الحوار امتداده واتساعه، وتحوله أحياناً إلى مقطوعات غنائية لا تدفع الحدث ولا تطور الشخصية بحيث يمكن أخذها كما لو كانت قصائد مستقلة والأمثلة على ذلك كثيرة، منها الأبيات العشـــرون التي ينشدها المنذر في الفصل الأول والتي تبدأ بقوله:

يا غراماً بين أحشائي نما     ورماني في بحور التعس

     ومنها الأبيات التي تقولها مريم للحرقاء، وهي تحدثها عن حب المنذر لها ومعاناته، وتبدأ بقول الشاعر:

حرقـاء في كنف الغدير     صـب بمضطرم السعير

     وهي أبيات تقع في خمسة وعشرين بيتاً.

     ومنها أبيات عمر أبو ريشة التي تقع في ثمانية وعشرين بيتاً قالها على لسان النابغة الذبياني ومطلعها:

اعقل قلوصي أيهذا الحادي     إنا بربــــع بثيــنة وسعــــاد

(6) مسرحية ذي قار مسرحية تعليمية تنحو نحواً وطنياً يشيد بالعرب والعروبة بشكل تغلب عليه السذاجة، وهذا المنحى يتسق بشكل عام مع عمر أبو ريشة فقد كان شاعراً وطنياً جهيراً، ويتسق أيضاً مع المرحلة التي ظهرت فيها المسرحية (1929م ــ 1931م)، حيث وقع العالم العربي في قبضة الاستعماريين الفرنسيين والإنجليز والطليان والإسبان مما دعا الكتاب والأدباء والشعراء إلى استنهاض همم العرب ضد أعدائهم، ومن هنا جاء عمل عمر أبو ريشة ليكتسب صبغة وطنية بما نجده فيه من ثناء على العرب وإعجاب بشجاعتهم وتمرد على أعدائهم، ولذلك لا نستغرب أن نجد في المسرحية خطاباً مباشراً كقول النعمان:

نفس الملوك أبيــــــة لا سيما     من ينطقون طبيعـــة بالضـاد
إن الحياة وإن علت لرخيصة     إن قام أمر مواطــن وبــــلاد

     وكقوله أيضاً مخاطباً الطميح رسول كسرى إليه:

فأخـــبر مليـــــكك أني     ذو نخــــــوة وحميـــة
تـراه يجهــــــــــل أني     من أمـــــــــة عربــية
لله أمــــــــــة مجــــــد     به النفـــــــوس أبيــــة

     ومثل ذلك قول الحرقاء تستثير مروءة العرب ونخوتهم:

واذل يعرب أين الســــادة النجــب     وأين منهم أسود الغاب إن غضبوا
وأين مجدهم السامي الذي رفعــوا     وأين ملكهم العالي الذي ضربـــوا

     ومثل هذه الأبيات تذكر المرء بالمظاهرات الحماسية التي كان يقوم بها الشباب العربي ضد الاستعمار والصهيونية، وكانت تلقى فيها قصائد خطابية حماسية تثير حمية العرب ضد المستعمرين، وكأن أبيات عمر أبو ريشة هذه جزء منها. والنظر في أبيات الشاعر هذه وفي قصائده الوطنية الأخرى يدل على أنها من روح واحدة.

     ومما يؤكد التوجه العربي الوطني للشاعر في هذه المسرحية أنه وضع صورته في بدايتها وقد وضع على رأسه الكوفية والعقال، وأنه أهداها إلى الأستاذ حبيب العبيدي بهذه العبارة الدالة «إلى الرجل العربي الأستاذ حبيب العبيدي»، والعبيدي هذا عالم عراقي عمل من أجل العرب والمسلمين، وله كتاب باسم «جنايات الإنجليز على البشر عامة وعلى المسلمين خاصة»، طبع في بيروت عام 1916م، «فدلل عمر على حب للعرب وتفان في العقيدة، وكره في الاستعمار حين أهدى إليه المسرحية وهو ما يزال طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1929م»[3].

     أما آخر ثلاثة أبيات في المسرحية فهي هذه الأبيات التي نجد الجميع ينشدونها بعد انتصارهم على الفرس:

نلنا المنى بعـــد العنـــــا     بالسيف والرمح السنـين
فلتخـذل الحســـــــاد ولـ     ـتخسف عماد الظالمـين
وليبق مجـد العـرب طـو     ل الدهر وضاء الجبـين

     ومن صورة الشاعر وإهدائه في أول المسرحية، إلى ختامها بالأبيات الثلاثة السابقـة، مروراً بالأبيات الأخرى المماثلة التي جاءت في ثنايا المسرحية، نجد مسرحية ذي قار، مسرحية تاريخية وطنية لا تلتزم بالتاريخ تماماً، ولكنها تقتبس منه وتضيف إليه، وتسقط وقائعه القديمة على وقائع العصر الحديثة مؤملة أن يصنع أحفاد اليوم نصراً يماثل النصر الذي صنعه أجداد الأمس.

     ويقرر الدكتور عمر الدقاق هذا التوجه الواعي لدى عمر أبو ريشة في استدعاء التاريخ وتوظيفه توظيفاً وطنياً فيقول: «لقد طلع أبو ريشة على جيل ما بين الحربين وهو في نحو العشرين من عمره بمسرحية شعرية اسمها «ذي قار»، وقد قبس حوادثها من تاريخ العرب في الجاهلية، والحق أن أبا ريشة أحسن انتقاء هذه الزاوية من التاريخ، فأكسب بذلك مسرحيته روحاً قومية بالإضافة إلى ما هو مرتسم حولها من هالة تاريخية، فمعركة «ذي قار» أول التحام ذي شأن بين العرب وبين الفرس تجلت خلاله شهامة العرب وإباؤهم وعنفوانهم كما انجلى عن انتصار مبين للعروبة المتفتحة على الصلف الفارسي. وما من ريب في أن أبا ريشة كان يؤلف مسرحيته تلك وهو يضع نصب عينيه حال قومه في ظل الاحتلال البغيض، وتحت وطأة الصراع المرير بين حق العرب وباطل الغرب، واضعاً عيناً على الغابر، وعيناً أخرى على الحاضر، وكأنه يرمي من وراء ذلك إلى إلهاب المشاعر المتوثبة وإمدادها بروح الثقة ونسغ الأمل، يؤيد ذلك تلك النزعة الرومانتيكية التي تطالعنا في تتويج المسرحية بهذين البيتين اللذين جعلهما تصديراً لذي قار، مرافقين لصورته بالزي العربي:

يا فؤادي ألا تـــــــــــزال كئيبــاً     شـــــاكياً باكياً على دون جدوى
لا تكن ظـــــالماً فإنـــك إن مـت     تركت الآلام من غير مأوى[4]

(٧) وعلى كل حال تبقى المسرحية في العمر الذي نظمها فيه عمر أبو ريشة في سن العشرين محاولة شجاعة منه أصابت حظاً من التوفيق، ومثلت على المسارح السورية، أما أخطاؤها فهي مغفورة للسن ولحداثة التجربة. ومن الواضح أن الشاعر قد اكتشف هذه الأخطاء، فلم يعدل في المسرحية قط، ولم يعد طباعتها قط، وكأنه أسقطها من تراثه، وقد نبه إلى ذلك الدكتور عمر الدقاق فقال: «ولعل أبا ريشة نفسه قد أدرك بعد نضجه تلك الصفة السطحية في مسرحيته، فضرب عنها صفحاً وأغفلها من بين ما عاود نشره من شعره»[5]. أما الدكتور سامي الدهان فإنه يمضي خطوة أبعد من خطوة الدكتور عمر الدقاق حيث يرى أن مسرحية ذي قار هي ديوان عمر أبو ريشة في شبابه وليست مسرحية، ذلك أن ذي قار «وحدها ديوان الشاعر المطبوع الذي يمثل صباه والطور الأول من حياته الشعرية صب فيها مختارات شعره لتلك السن على شكل حوار. أجل إننا نظرنا إليه كديوان لا كمسرحية، ففيه ألوان مختلفات من الأدب في الوصف والغزل والهجاء»[6].
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الثاني لعمر أبو ريشة الذي يأتي بعد مسرحيته ذي قار فهو «محكمة الشعراء» وهي مسرحية يحاكم فيها عمر أبو ريشة الشعراء، وهو أمر لا يبدو غريباً على شاعر مثله ظل معتداً بنفسه شخصاً وشعراً في كل مراحل حياته، ونحن نعرف عنه أنه ذم البحتري وسخر منه وهو طالب في الجامعة الأمريكية في بيروت، ووصف نفسه أكثر من مرة بأنه أكبر شعراء العربية وهو شيخ كبير متزن. وقد نشر الشاعر فصلين من هذه المسرحية في مجلة الحديث الحلبية عام 1934م، ووعد بنشرها حين تكتمل لكن الوعد لم يتحقق، مثله مثل وعود أخرى يبدو أن الشاعر الكبير انصرف عنها إما لأن الظروف لم تتح له إكمالها، وإما لأن ما أنجزه منها لم يرق له.

     وقد حشد عمر أبو ريشة في هذه المسرحية شعراء عصره المشهورين مثل أحمد زكي أبو شادي، وشفيق جبري، وجميل صدقي الزهاوي، وعلي الناصر، وأنطق كلاً منهم بما تخيل، وحكم لبعضهم، وحكم على بعضهم الآخر، وجعل "أبولون" إله الشعر في الأساطير اليونانية حكماً يستدعي الشعراء ويحاكمهم ويسألهم ويحاورهم، وجعل "منيرفا" إلهة الحكمة في الأساطير نفسها شاهدة على ما يجري، والمسرحية في حقيقتها نصرة للشعراء المجددين وهجوم على الشعراء التقليديين، بل هي ثناء على شعره هو لأنه أحد المجددين الذين يريدون أن يفسحوا لهم مكاناً إلى جوار المشاهير، يدل على ذلك أنه جعل أبا شادي ينشد أبياتاً سبق له أن قالها في أمين الريحاني عام 1932م وهي:

أرضعته الطبيعـــــة الفتانـــة يوم أن فتح الصبـــا أجفانـــــه
ورمى الفجر هالــــة فــوق فــوديــه بشتى أضوائه مزدانــة
وضمير الظلمــــاء فض عليــــــه ختم سر لم يستطع كتمانه
وحباه الخيــــال من أفقــــه الرحــب جناحـــين ذللا ميدانــه
وغفا الوحي لاثمـــاً شفتيـــه ولســـــان الإلهــام يهدي لسانه
فـــإذا الكون كله نصـــب عينيـه تجـــلت أسراره عريــــانة
نسمة من هداية نفح الله بها الناس فجاءت معطارة ريانة[7]

     وحين يسمع الزهاوي هــذه الأبيات يسخر منها، لكن "أبولون" وهو الحكم يحكم لها ويشيد بها.

     على كل حال يبدو أن هذه المسرحية كانت محاولة فيها اعتزاز الشباب وسرعته، لذلك لم يرض عنها عمر أبو ريشة وطواها فيما طوى من أعمال. وإلى هذا الرأي ينتهي الدكتور عمر الدقاق إذ يقول عنها: «غير أنه فيما يبدو أيضاً قد أنكر هذه المسرحية وعدها من نزوات الشباب لما انطوت عليه من آراء نقدية متطرفة في بعض الشعراء أغلب الظن أنه عدل عنها، فقد حشد أبو ريشة مشاهير شعراء عصره في الشرق العربي، وأجرى بينهم محاورات على أساس كونهم محافظين ومجددين»[8].
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الثالث لعمر أبو ريشة فهو أوبريت «عذاب» الذي نظمه عام 1935م، ويستحق هذا العمل وقفة فيها شيء من الأناة والبسط لأنه عمل مسرحي مكتمل، ذلك أن أعمال عمر أبو ريشة المسرحية المكتملة اثنان هما «ذي قار» و«عذاب»، أما باقي أعماله فهي ناقصة أو أنها مجرد أحلام ووعود.

     الأوبريت هي أوبرا مصغرة، وهي تجمع بين المسرح والموسيقى والإنشاد، وهي أيضاً من الفنون التي لم يعرفها العرب. وقد نظم عمر أبو ريشة أوبريت «عذاب» عام 1935م، أي بعد ست سنوات من «ذي قار»، وسنة من «محكمة الشعراء»، فلا غرابة إذا رأيناها أنضج من الناحية الفنية وأكمل، وهذا يفسر سر احتفاء الشاعر بها، إذ حرص على نشرها في كل طبعة تالية من ديوانه خلافاً لـكل من «ذي قار» و«محكمة الشعراء» اللتين أسقطهما من تراثه.

     لم تلحن أوبريت «عذاب»، ولم تخرج إخراجاً مسرحياً، بقيت على الورق مثلها مثل قصائده الغنائية، فكأنها ألحقت بالمسرح الذهني حيث ينصرف إليها القارئ يقرؤها ويتخيل مشاهدها دون نظارة أو تمثيل أو إخراج إذاعي. وبذلك يكون أدق تصنيف لها أنها من المسرحيات الذهنية ذات الفصل الواحد.

     ويبدو موضوع الأوبريت غريباً عن البيئة الشرقية، لأنه حكاية الزوج والزوجة والعشيق، ولعل ذلك من أثر الحياة الغربية على عمر أبو ريشة الذي قضى فترة من شبابه في إنجلترا، حيث لا تعد هذه الحكاية في الأسر الغربية شذوذاً مستغرباً، بل إنها إرث مألوف ومعروف في الحياة الاجتماعية والأدبية على السواء.

     أبطال الأوبريت ثلاثة هم: الزوج واسمه جميل، وهو فنان مثالي حالم يخلص لفنه وينصرف إليه ولا يعنى بأمور رزقه مع أنه ضعيف الحال قليل الموارد. والعاشق وهو نزار، وهو رجل لهو وملذات بوهيمي التوجه كان يحب سعاد قبل زواجها من جميل ولا يزال يطمع فيها، والزوجة وهي سعاد، وتتراوح اهتماماتها ونوازعها بين مثالية الزوج وبوهيمية العاشق، فلها عين على المثل والفن والقيم والطهارة، ولها عين على الملذات والمال والنعيم، وينتهي أمرها بالسقوط ثم الانتحار.

     يرفع الستار عن جميل وهو جالس في بيته المتواضع يرسم صورة فتاة، ومن البداية نكتشف أن الرجل مثالي رومانسي حالم ومحب أيضاً، فهو ينشد مخاطباً زوجته سعاد:

عرفت بك الله بعد الضـــلال     فدل البديــــــع على المبــدع
أغنيــك حبي وهـــذا الوجود     ضحــوك الثنـــايا يغني معي
سعاد منى القلب خلي الرؤى     تذوب على دافئ المضجـــع
لقد أومــأ الصبـح للساجعات     فهبت تفـــــتش عن مرتــــع

     وتدخل سعاد لتخاطب زوجها الفنان بدلال يزيد منه أن رأته يرسم صورتها، لكن الصورة رسمت المظهر الخارجي لسعاد، أما روحها التي سنكتشف بعد حين أنها حائرة مضطربة فلم تنلها ريشة جميل الذي يقول لزوجته محزوناً بعد أن سألته هاتفة بدلال وتشوف «أصورتني»:

ظلال الهيولــــى وألوانـــــــه     وراء بنـــــــــاني ولم أقـنــــع
ومن دون روحــك هذا القناع     وما نسج الظــــــن من برقــع
كأن حـــدود الفنـــــون انتهت     وما بلغتـني مـــــــدى مطلعي

     وفي هذه الأبيات إشارتان تنسجمان تمام الانسجام مع منحى الأوبريت، وتومئان إلى شخصية جميل، فنراه في الأولى فناناً مخلصاً لفنه لا يرضى بما أنجز، ويحس أنه مطالب بالغوص على الأعماق لاستخراج أقصى قدراته، ونراه في الثانية يتخوف من القناع الذي تتسربل به روح سعاد، فيحمله على الظنون السيئة وهو ما وقع بعد ذلك فعلاً. وتبدو سعاد غير سعيدة حين يقبلها زوجها فتقول له فيما يشبه الاستنكار:

تقبلني إن خــد الوســاد     تململ في ليلنـــا الممتع

     وحين تنظر من النافذة إلى البيوت البديعة، تعبر عن رغبتها فيها مما يشي بضيقها من فقر زوجها ورقة حاله:

أحن إلى مثل تلك القصور     كستها الخمائل أبهـى حلل
فكم مرغ الفجر أجفانـــــه     عليها ولم تتفتـــــح مقــــل

     وحين يدخل نزار ويرى الزوجين تتملكه الغيرة والحسد، فيقول لهما مغيظاً محنقاً:

لتجر لياليكما كلهـــــــــا     مضمخة بالأماني الغرر

     ويحاور جميل صديقه فنعلم من حديثه له أنه عابث عاكف على الملذات:

تجدد في كل يوم هــــــــواك     وتقطف من حيث شئت الثمر
كطير لعوب سريــع الجنـاح     فما قر فـــي الدوح حتى نفـر

     وتشي إجابة نزار برغبته الآثمة التي لا يرى لها سبيلاً:

رويدك لا تنكأن الجراح     على ذكريات رؤى هجد
لقد نفض اللهو مني يديه     فلن نتلاقـــى على مورد

     وحين ينظر جميل إلى سعاد يحزن، إذ يرى رداءها ممزقاً، وهو بسبب مثاليته وحبه لها يخجل من نفسه لأن فقره يحول دون أن يهيئ لها ما يود وما تود، فيقول:

ولو أستطيع خلعت الضياء     وشاحاً على قدهـــــا الأملد

     فتخجل سعاد مما يدل على أن فيها قدراً من العفة والمثالية والشرف لا يزال يصارع النوازع الهابطة فيها، فتقول لزوجها شاكرة لعواطفه مقدرة لظروفه:

تحملني العطف حتى أنوء     به يا جميـــــل فلا تـــزدد

     وحين ينفرد المشهد بسعاد نراها وحدها تنشد، وقد عرفت أهواء نزار وغرامه، ورغبته الآثمة التي تطل من عينيه، وإمكاناته المالية المسعفة له فيما يريد:

كأني أراه وفي مقلتيــــــــه     بريق من الغـــــيرة العاتية
أعاد لينشر مــــن أمســـــه     صحائف أهوائــه الماضية
أهاجته ذكراي أم رفــرفت     عليه طيوف الهوى الدامية
تفيض يداه بذوب اللجــــين    إذا ظمئت نفســه الطاغيــة

     وحين يدخل نزار يعترف لها بنوازعه الآثمة، فتذكره بزوجها مما يدل على استمساكها ومقاومتها حتى الآن فلا يبالي، ويعمد إلى تهشيم حصون امتناعها واحداً واحداً، فيذكرها بجمالها البارع الذي تهينه أسمالها البالية، ويخطف بصرها صوب الصبايا الملاح اللواتي يرفلن في زاهي ثيابهن، فتبدأ تتهاوى خاصة بعد أن يطالبها بقبلة وهو يريها خاتماً نفيساً يكون ثمناً لها، وتناجي سعاد نفسها وهي بين نوازع الثبات والانهيار، وتعبر عن مخاوفها من القبلة التي ستجر وراءها ما تجر من مسلسل التنازلات. وحين تستسلم سعاد لرغبة نزار يدخل جميل، فيبلغ التوتر أقصى درجاته، يسقط الخاتم ــ وهو ثمن الإثم ــ على الأرض، وتفترق سعاد ونزار، ويهتف جميل ذاهلاً:

تبسم على الجرح يا خافقي     فقد وثب الســـهم من قوسه

     ويطرق نزار، وتذهل سعاد، ويخاطب الزوج صديقه الخائن في سخرية مرة:

ألست صديقي وهـــــــــل بيننا     حجاب نخــــــاف أذى لمسه!؟
وماذا يضـــر الـكـريـــم الوفي     إذا شرب الصحب من كأسه!؟

     ويلتقط جميل الخاتم من الأرض فيناجيه وهو ثمن الإثم والخيانة، بأبيات بديعة غاص فيها عمر أبو ريشة على أعمق مشاعر الزوج الطيب المخدوع:

هو الثمن البخس رد الهوى     ذبيحاً إلى قلبي المضـــــرم
أخاتم إنـــــــي أرى مبسـماً     على شفتيه بقـــــــايا الـــدم
وألمح أشبـــاح بغي الورى     تموج في ماســـــــك الأقتـم
خيال الضحيـة يبكي عليـك     ويشتم فيك فــم المـــــجـرم
وما لفتـة منك في خنصري     بأهون من عضة الأرقــــم

     ويستبد الألم بسعاد وتندم، وتحاول الاعتذار من زوجها الذي يسخر منها سخرية مرة، يسخر وهو يشيد بحبه لها وسعادته بها، ويقدم لها رداء جميلاً، هدية باع الكثير مما هو أثير لديه ليحصل عليها، ويسخر وهو يحرك الخاتم بإصبعه وهو يضع الرداء بين يديها:

عصارة فكري لقـد بعتهـا     وجئت إليك بهــــذا الرداء

     وينتهي الأوبريت حين يستبد الجنون والندم بسعاد فتلقي بنفسها من النافذة منتحرة، وحين يستبد الجنون بجميل الذي يضحك ضحكة وحشية يفرغ فيها كل عذابــــه وإحباطه وأحزانه، لذلك يهدأ بعد هذا الضحك الجنوني الذي أعانه على تجاوز محنته، ويجلس هادئاً أمام الصورة التي كان يرسمها ويبدأ بإتمامها.

     إذا أمكن النظر إلى المرأة المنتحرة على أنها رمز للحياة بكل نقائصها وشهواتها وضعفها، وأمكن النظر إلى الفن على أنه رمز للمثالية والطهر والنقاء والقيم الجميلة، يمكن لنا أن نقول: إن عمر أبو ريشة قد نصر الفن على الحياة، فقد ماتت المرأة وبقي الفن، وهو آخر لوحة من لوحات الأوبريت، وفيه تنتحر المرأة الآثمة، ويضحك الفنان المثالي ضحكة وحشية يتطهر بها من معاناته ويعود بهدوء لإتمام رسالته الفنية. ومثل هذه النهاية تتسق مع شخص عمر الذي يمكن وصفه بأنه ــ من بعض الجوانب ــ رجل مثالي عرف بإبائه وعزته وترفعه، كما يمكن وصفه أيضاً بأنه فنان يتعنى في شعره ويتأنى، ويبذل فيه غاية جهده في الإتقان، ويكثر فيه من التبديل والتعديل، فلا غرابة إذن أن تدفعه مثاليته أولاً، وإعلاؤه للفن ثانياً؛ إلى اختيار هذه النهاية.

     ويمكن أن يوصف هذا الأوبريت بإتقان الحبكة، وتنامي الحدث، والنجاح في رسم ملامح الشخصيات والحوار المركز المؤدي والخلو من الاستطرادات، فضلاً عن إشراق اللغة وجمال الصياغة والوقع الموسيقي الجميل الذي يسكبه في الآذان البحر المتقارب بتفعيلاته المتوالية الهادئة المتسقة الذي اختاره عمر أبو ريشة لتجري عليه أبيات الأوبريت. وهذا كله يكشف عن تقدم الشاعر في صناعته الفنية المسرحية خاصة حين نقارنه بمسرحية «ذي قار» وما كان فيها من نقائص وعيوب. وأخيراً يبقى أوبريت «عذاب» لعمر أبو ريشة خير أعماله المسرحية، فقد تفوق على ما قبله كما رأينا، أما ما بعده فلم يكتمل منه شيء، وربما كان من أسباب هذا التفوق أنها أشبه بالمسرحية ذات الفصل الواحد التي يعين صغرها على التفرغ لها وحشد الطاقة الفنية لإخراجها إخراجاً متقناً.
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الرابع لعمر أبو ريشة فهو مسرحية «الطوفان»، وقد نشر منها مقاطع تنتمي إلى الشعر الغنائي في ديوانه الأول الذي نشره عام 1936م، وهي تنضم فيما يبدو إلى الوعود الكثيرة التي وعد بها الشاعر لكنه لم يستطع الوفاء بها لسبب أو لآخـر، مع مضي أكثر من نصف قرن على الوعـد، وهي مدة كافية للإنجاز وللنشر لو كان هناك إنجاز.
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الخامس لعمر أبو ريشة فهو مسرحية «سمير أميس» وسمير أميس هي فيما تروي الأساطير ملكة قديمة تكونت من جسد امرأة وروح إله، فكان فيها عنصران متناقضان، فيها شعور الجسد الذي تشعر به كل امرأة، وفيها الروح الإلهي الذي يظل متطلعاً إلى الأعلى. وتزوجها القائد نينوى ومنحته كل شيء إلا روحها، فظل يحاول استرضاءها دون جدوى، وأخيراً قتلته. وثار عليها الناس يريدون الانتقام لمصرع مليكهم واقتحموا قصرها ففاجأتهم بأن وقفت أمامهم عريانة، فبهت الناس وسجدوا لها فعلمت بذلك أنهم وصلوا درجة عالية من الإحساس بالجمال، وهذا يعني أنها أدت رسالتها على الأرض، فانسحبت منها ومضت إلى الملأ الأعلى.

     وقد ذكر عمر أبو ريشة أنه بدأ كتابة هذه المسرحية عام 1943م، وانتهى منها عام 1958م، وأكد أنها تتكون من ألف وأربع مئة بيت صب فيها كل قدراته الفنية، وأنه نظمها ست مرات، ومزقها خمس مرات قبل أن تستقر على السادسة، وبذلك جاءت أسلوباً جديداً في العرض، وتفكيراً جديداًن وأجواء جديدة في دنيا المسرحيات[9]. ويبدو أنه لابد من الشك فيما قاله عمر أبو ريشة إزاء هذه المسرحية لسبب بسيط جداً وهو: لماذا لم ينشرها وقد أنجزها عام 1958م خاصة أنه معتز بها أشد الاعتزاز!؟

     وعلى كل حال يدل الجزء المنشور من هذه المسرحية[10]؛ على أنها عمل فيه الكثير من العيوب المسرحية. فهي ملأى بالشعر الغنائي الذي يتكون من مقاطع مطولة، وتأملات تجريدية مطلقة، وقواف لا تتنوع كما يقتضي الحوار المتنقل، فضلاً عن بطء الحركة، وضعف الحبكة، والنبرة الخطابية، واللهجة الجهرية، والأسلوب التقريري، وغياب الملامح المميزة للشخصيات، وهذا يعني أن العيوب التي سجلها النقد على تجاربه الأولى استمرت معه حتى آخر إنتاجه، وربما أدرك عمر هذه العيوب فانصرف عن المسرح الشعري.
❊❊❊

     أما مسرحيات عمر أبو ريشة «تاج محل» و«علي» و«الحسين»؛ فلم ير النور منها شيء مع إعلانه المتكرر عنها في مناسبات كثيرة مختلفة. إن الإنصاف يدعونا الى أن نحكم على العمل المسرحي من خلال دراسته كاملاً، وهو ما حاولناه في «ذي قار» و«عذاب»، والنظر في هذين العملين يدل على بدايات واهنة واعدة في الأول، وعلى تقدم مشكور في الثاني، وبين العملين ست سنوات، إذ يرجع الأول إلى عام 1929م، ويرجع الثاني إلى عام 1935م. ولكن يبدو أن الشاعر توقف نضجه الفني في المسرح الشعري منذ ذلك التاريخ، لذلك لا غرابة أن وجدناه يعد كثيراً بأعمال ثم لا يقدر على إنجازها، وربما كان السبب هو أن الشاعر عرف من خلال المعاناة أنه شاعر غنائي قبل كل شيء، وليس شاعراً مسرحياً، فلم يعد طباعة ما نشر، ولم ينجز ما وعد، ولعله أحسن بذلك غاية الإحسان، فلكل امرئ قدرات يحسن به ألا يحملها ما لا تطيق.
❊❊❊
----------
[1] ألف المسرحية عام 1929م، ونشرها عام 1931م، ومات عام 1990م.
[2] الشعراء الأعلام في سورية، ص311.
[3] المرجع السابق، ص308.
[4] فنون الأدب المعاصر في سورية، ص224-225.
[5] المرجع السابق، ص237.
[6] الشعراء الأعلام في سورية، ص312.
[7] هذا البيت مكسور، وفيه زيادة.
[8] فنون الأدب المعاصر في سورية، ص227.
[9] سامي الكيالي، الأدب العربي المعاصر في سورية، ص373.
[10] نشر منها فصل واحد فقط، في مجلة الحديث الحلبية، عام 1944م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة