السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - مسيرة الحياة

مسيرة الحياة

عاش حياة عريضة زماناً ومكاناً وتنوعاً وامتداداً ودوياً.

     كان الأستاذ شافع أبو ريشة موظفاً محترماً أيام الدولة العثمانية، ولد في قرية «القرعون» من أعمال البقاع في لبنان، وتنتمي أسرته إلى قبيلة «الموالي» التي ترجع إلى قبيلة «طي»، وكان له حظ طيب من التعليم والثقافة والعناية بالشعر، وقد استفاد من علم والده مصطفى الذي كان قاضياً في البقاع، ومن دراسته للحقوق في إستانبول، وقد وصل في وظيفته إلى درجة «قائم مقام» وهي درجة لها قيمتها آنذاك.

     وحمله العمل الوظيفي ذات يوم إلى «عكا» في فلسطين، وهناك اتصلت أموره بوجهاء المدينة، ومنهم شيخ الطريقة اليشرطية الشاذلية، فتزوج من شقيقته خيرة الله اليشرطي التي ولدت له ابنه عمر الذي روى أكثر من مرة أنه رأى النور عام 1911م في عكا. وحين توفي عمر نعاه في عمان شيخ الطريقة وكبير اليشرطيين لأنه ابن عمته.

     ولما قامت الحرب العالمية الأولى عاد شافع بأسرته إلى سورية، فأقام في منبج التي عـين «قائم مقام» لها، وفيها سجل ابنه عمر على أنه من مواليد عام 1908م، ومن هنا جاء الاضطراب في تاريخ ولادة الشاعر ومكانها. على أن الأسرة لم تلبث أن انتقلت إلى حلب، فنشأ فيها الشاعر، فهو بذلك لبناني فلسطيني سوري.

     وفي عكا بدأ يذهب إلى المدرسة طفلاً صغيراً، وكانت هناك مربية شهيرة في تلك الأيام اسمها «هيلانة حوا» تتردد على دار أبيه تعلمه مبادئ اللغة الإنجليزية. وفي عكا أيضاً كان يحضر حلقات المتصوفة وهو طفل صغير، ويستمع أناشيدهم ويحفظها ويشارك في أدائها. وقد أدت هذه النشأة إلى تمكنه من اللغة الإنجليزية من ناحية، وتعميق حبه للإسلام من ناحيــة ثانية، وثراء ملكته الموسيقية من ناحية ثالثة، وقد ظهر ذلك جلياً في شعره فيما بعد.

     وفي حلب أقام الشاعر عشر سنوات يتعلم في المدرسة الرشيدية كما يتعلم أمثاله من الصبيان، لكنه تميز عنهم بأن له جواً خاصاً في البيت يحب الشعر ويتذوقه وينشده، فقد كان أبوه شافع شاعراً مقلاً ينظم الشعر في اللغتين العربية والتركية، وكانت أمه تحب الشعر وترويه وتطرب له، ثم انتقلت جذوة الشعر من الأبوين إلى الأبناء فكان لأخته زينب حظ منه إذ كانت تنظمه على قلة، وكان لأخيه الدكتور ظافر -وهو طبيب أسنان- حظ أكبر من حظ أخته، فنظم الشعر وشارك في الأدب، وترجم عن اللغة الفرنسية، أما عمر فقد كان نجم الأسرة في الشعر وصاحب القدح المعلى فيه.

     بين عامي «1929 - 1924م» أقام عمر في بيروت طالباً في الجامعة الأمريكية حيث أتم المرحلة الثانوية من دراسته وانتقل إلى المرحلة الجامعية، وهناك درس العلوم الحديثة واللغة والأدب، وكان من أساتذته آنذاك: أنيس المقدسي وجبرائيل جبـور وجبرائيل شاهين وفريد المدور وجرجس المقدسي. وفي هذه المرحلة تفتح وعيه الوطني والسياسي، وأخذت موهبته الأدبية تظهر فبدأ يخطب وينظم، ومن طرائفه في تلك الفترة أنه نظم قصيدة ادعى أنها للنابغة الذبياني وهو يعتذر إلى النعمان، وعلى ما يروي عمر كان التقليد دقيقاً بحيث إن أستاذه جرجس المقدسي صدق مزاعمه، وقد يكون لهذه الرواية حظ من الصحة ذلك أن الدكتور سامي الدهان صديق الشاعر روى أن عمر في فترة مقامه التالية في حلب وكان يومها شاباً له حضور كان يلتقي معه ومع ثلة من أصدقاء الشباب فينشدهم قصيدة على أنها لأحد الشعراء القدامى، ويطلب منهم معرفة صاحبها فيبحث عنها هؤلاء حتى إذا لم يجدوا شيئاً ضحك في وجوههم سعيداً ساخراً، وأخبرهم أنها من نظمه، فرواية الدهان تقوي رواية عمر وتدعمها.

     ومن طرائف تلك الفترة التي يرويها عمر أن الأستاذ أنيس المقدسي طلب منهم الكتابة في العبارة الشهيرة التي قيلت عن البحتري: «أراد البحتري أن يشعر فغنى»، فراح عمر يكيل الهجاء للبحتري، ويؤكد أن كل من يتقاضى عن شعره مالاً ليس بشاعر، بل هو متسول وشحاذ،. فقــال الأستاذ معلقاً علـــى ما كتبه تلميذه: ولد لنا اليوم فيلسوف، ثم قال له: لا أقرك على ما تقــول، وحده أسلوبك الشيق جعلني أعطيك علامة جيدة، لكن التلميذ يجيب أستاذه بأنه مصر على رأيه، ولهذه الواقعة دلالتها البالغة، فهي تعبر عن ثقة عمر بنفسه منذ صباه، كما أنها تعبر عن نظرته للشعر نظرة سامية ترفعه عن النفاق والتكسب، لهذا لا غرابة أن وجدنا ديوانه يخلو من المدح. وما ذاك إلا لإحساسه بأهمية الشعر من ناحية، وبأهميته الشخصية كشاعر عفيف مترفع له رسالة وطموح وهدف من ناحية أخرى.

     في عام 1929م حرص شافع على أن يرسل ابنه عمر إلى مانشستر في إنجلترا لدراسة صناعة النسيج وكيمياء الصباغة، وقد استمر في هذه الدراسة حتى عام 1932م كان خلالها يتردد على مدينة حلب في الإجازات الصيفية.

     وفي عام 1929م وضع مسرحيته الأولى «ذي قار» التي قدمتها في السنة نفسها الفرقة القومية الحلبية على مسرح المدرسة الشرقية في حلب مما جعل دائرة شهرته تتسع وتذيع فأقبل عليه الناس. ومما يجدر ذكره أن عمر طبع هذه المسرحية طبعة يتيمة في عام 1931م مما جعلها في غاية الندرة.

     وفي مانشستر أحب عمر فتاة إنجليزية اسمها «نورا» توجت ملكة لجمال القطن في مدينتها، وكانت ابنة صناعي شهير يعمل في الأقطان، وفاتح أسرتها في الزواج منها فوافقوا، وكان ذلك في عام 1931م، ولما كان حريصاً على استئذان أسرته عاد إلى حلب في الإجازة الصيفية يطلب موافقتها، فلما استجابوا له فرح كثيراً، وعاد إلى مانشستر يحمل لمحبوبته النبــأ السار فوجدها قد ماتت، فحزن حزناً شديداً جداً حتى إنه فكر في الانتحار كما روى فيما بعد. وقد ظفر منه الشعر بقصيدة طويلة سماها «خاتمة الحب» قالها في رثاء محبوبته، وقد نشرتها مجلة الجهاد الحلبية في 9/ 1/ 1932م، والغريب أن عمر لم ينشر القصيدة في ديوانه وأسقطها فيما أسقط من شعره مع مكانتها في قلبه، ومع عنايته بالمرأة كثيراً، ومع جودتها بالنسبة لشاعر شاب. وقد مر عمر إثر وفاة نورا بفترة لم تطل من الزهد والتدين، وله خلالها مقال مشكور نشره في إنجلترا يدافع فيه عن الإسلام.

     وفي 16/ 5/ 1932م عاد عمر إلى حلب محزوناً مهموماً لقضاء الإجازة الصيفية لكنه هجر الدراسة في مانشستر، واستقر في حلب ليبدأ فيها مرحلة جديدة من حياته استمرت سبعة عشر عاماً «1932 - 1949م»، وهي فترة زاهية بدأ فيها اسمه يذيع ويشيع شاعراً مقتدراً يتصف بالشجاعة والجرأة، ويهاجم الاستعمار الفرنسي الجاثم على سوريا، ويهاجم عملاءه وصنائعه من السوريين، ويحث الأمة على استعادة أمجادها، ويشارك في المناسبات العامة من رثاء شهيد أو إحياء ذكرى أو الاحتفال بانتصار أو البكاء لكارثة أو التنديد بعدو، مما جعله شاعراً وطنياً جهير الصوت يتلقف الناس شعره ويحفظونه، وطالما وقف في المظاهرات الوطنية الصاخبة ينشد قصائده فيأسر سامعيه بجرأته المعهودة وإلقائه المتميز، وفي هذا الطور من حياتـــه أخــذت شهرته تتجــاوز سوريا فشارك في مناسبات عامة في فلسطين والعــــراق.

     ويأتي عام 1933م فتندفع شهرته إلى الأمام إذ مثلت مسرحيته «ذي قار «في مدينة حمص فحقق له ذلك شهرة مفاجئة.

     ويتحدث الأستاذ أحمد الجندي، وهو كاتب وأديب وصديق للشاعر، كيف أدى تمثيل المسرحية في حمص إلـــى تحقيق هذه الشهرة المفاجئة للشاعر التي تجاوز بها حدود مدينة حلــب، فيقول: وكنا ذات يوم في حمص، وأظن هذا قد كان في صيف عام 1933م، وقد أقبل على المدينة نفر من شباب حلب يريدون أن يمثلوا رواية شعرية، وتساءل الأدباء في حمص، وكانت مدينة الأدباء الشباب في ذلك العهد، فعرفوا أن اسم الرواية «رايات ذي قار»، وأن اسم الشاعر الجديد «عمر أبو ريشة»، وذهبنا مع الذاهبين فاتخذنا مقعداً قريباً من المسرح، وجلس الأدباء متجاورين يلتفتون يمنة ويسرة، وينتظرون الشعر لا التمثيل، ورفع الستار وأخذ الممثلون يروحون ويجيئون، ويلقون حوارهم كلاماً موزوناً مقفى، وأخذ الأدباء ينصتون حتى إذا سمعوا بيتاً جيداً أو شطراً موفقاً أو لفظة موسيقية أو صورة شعرية أخاذة تلاقت نظراتهم وشفعوا ذلك بابتسامات الرضى، الذي كان يصل إلى حد الإعجاب أحياناً، وانتهت الرواية وخرج الناس، والتقى الأدباء على باب المسرح وراحوا يبحثون عن الشاعر إلى أن عثروا عليه في الزحام، فإذا بــه شاب بائن الطول، أبيض البشرة، علق في أعلى أنفه نظارة ذهبية أنيقة، وقد بدا عليه شحوب ظاهـــر تدرك منــه أن صاحب هذه الهيئة رجل فن وشعر، وكان ذلك أول الـعهـد بعمــر.

     ولا تلبث شهرة عمر أن تنطلق في مدى أوسع يتجاوز سورية، وذلك حين يشارك في رثاء الملك فيصل بن الحسين ملك العراق بقصيدة يقول له فيها:

أنت فــــي هيكل الحيـــــاة كتـــاب      تتغنــــــى بآيــــــــه الأحـــــــرار
وتناغي الأم الرؤوم بــــه الطفــــــ     ــل، فيزهــو فـــي وجنتيـه افـترار
كل سطــــر في دفتــيــــه نــــــداء      صــارخ مــا لــه الزمــانَ قـــرار

     وكانت هذه المشاركة أول مشاركاته الأدبية على الصعيد القومي، وقد تلتها مشاركات أخرى أخذت تحقق له المزيد من الشهرة.

     وفي عام 1935م شارك في المهرجان الذي أقيم في الجامعة السورية بدمشق بمناسبة الذكرى الألفية للمتنبي، وقد ألقى في المهرجان قصيدته «شاعر وشاعر» التي مطلعهـا:

شاخص الطرف في رحاب الفضاء     فوق طـود عــــالـــي المناكـب نــاء

     وفي القصيدة جرأة ووطنية وتمجيد للبطولة وتصوير حي بديع، وفيها ثقة الشاعر بنفسه وتمجيده لها من خلال تمجيده للمتنبي، والقصيدة تنطق بقدرة الشاعر حيث قالها وهو لايزال شاباً في منتصف العقد الثالث من عمره.

     وفي العام نفسه يشارك عمر الناس حزنهم على الزعيم الوطني إبراهيم هنانو فيقف على قبره ليقول فيه قصيدة حماسية منها:

هنانو أي صاعقـــــــة أقضــت     على صرح من العليــــــا مشيد
هنانو أي سيـــــــف أغمدتـــــه      يد الأقدار في غمد اللحــــــود

     وفي عام 1936م يذهب وفد سوري إلى فرنسا يفاوض الفرنسيين، وتنتهي المفاوضات بمعاهدة لم يرض عنها الوطنيون ومنهم عمر، فنظم فيها قصيدة سماها «العروس»، ويقصد بالعروس المعاهدة المرفوضة، أما التسمية فكانت من باب السخرية والتنبيه إلى البشاعة الكامنة في معاهدة يريد أنصارها تقديمها للوطن كما لو كانت هدية تهدى، وعروساً تزف، ومن أبياته في هذه القصيدة:

جلوهـــا عروسـاً وكدوا لهـــا الـ     ـحناجــر بالنغمــــة الســــاحــرة
وبرقعهـــــا مــــــن خفـي الطـلا     ســم يأخـذ بالقلـب والبــــاصــرة
صريع الهـــوى إن خلـف الــــــ     ـبـــراقع تلـك المطلقـة الفاجــــرة

     وفي عام 1937م تقام حفلة بمناسبة ذكرى المجاهد الوطني إبراهيم هنانو، فيشارك فيها عمر بقصيدة وطنية ذائعـة مطلعها:

وطـن عليــه من الزمــان وقـــار      النـــور ملء شعابــه والنـــــــار

     وهي قصيدة حماسية مجلجلة يمتزج فيها الدين والوطنية والتاريخ والفخر العام بأمته ووطنه والفخر الخاص بشخصه وشعره، وقد ختمها بهذين البيتين:

أنا عند عهــدك لا تلــين شكيمتي      كـلا ولا يعـــزى إلي عثــــــــار
لا عشت في زهو الشـباب منعماً      إن نال من زهو الشبـــاب العـار

     والبيتان يدلان على نفسيته المعتزة الأبية التي تدرك مكانتها في الوطنية والشعر على السواء، وترى أن لها رسالة لا بد أن تؤديها أياً كانت الصعاب، وسنرى أن هذه النفسية ظلت تصاحب الشاعر طيلة عمره.

     وفي العام نفسه تقام حفلة تذكارية في كل من حماة ودمشق لتمجيد الشهيد البطل سعيد العاص، وهو مجاهد من حماة تطوع للقتال في فلسطين، فاستشهد فيها، فقال فيه عمر قصيدته التي مطلعها:

نام في غيهـب الزمان الماحي     جبل المجـد والندى والسمــاح

وهي قصيدة وطنية مجلجلة، فيها الدين والحماسة والبطولة والتصوير الحي المؤثر.

     وفي العام التالي 1938م يسافر عمر إلى بغداد للمشاركة في مهرجان شعري أقيم لتأبين السياسي العراقي الشهير ياسين الهاشمي، وهنا أقتطف بعض ما قاله الأستاذ نجدة فتحي صفوة عن المهرجان وعن عمر: رأيت عمر أبو ريشة حينما قدم إلى بغداد مع الوفد السوري للمشاركة في الاحتفال بتأبين ياسين الهاشمي في 18/ 2/ 1938م، وكنت في ذلك الوقت طالباً في الدراسة المتوسطة فاصطحبني والدي إلى الحفلة، وكان من خطبائها رئيس الوزراء جميل المدفعي ونوري السعيد والأمير عادل أرسلان والشيخ سليمان الظاهر والأستاذ أكرم زعيتر وجبران تويني وأسعد داغر والعلامة محمد بهجة الأثري والدكتور زكي مبارك والعميد طه الهاشمي شقيق ياسين ورئيس الوزراء فيما بعد. ولا أزال أذكر الآن بعد أكثر من خمسين عاماً شاباً نحيفاً جداً، فارع الطول، على رأسه طربوش، كان يتلوى وهو يلقي قصيدته، أشبه بغصن يداعبه النسيم، وقد فتنت بإلقائه الساحر الذي كان أشبه بقطعة موسيقية، وأعجبت إعجاباً شديداً بقصيدته على قدر فهمي لها، ومن أسف أن القصيدة التي ألقاها أبو ريشة في تلك المناسبة لم تنشر في ديوانه.

     وفي رواية الأستاذ نجدة عدد من الأمور التي تعين على فهم عمر وشعره، فيها ثقته بنفسه التي حملته على المشاركة في مهرجان حافل بالساسة والأدباء والمشاهير وهو شاب دون الثلاثين، وفيها إلقاؤه الشهير المتميز، وفيها سعة انتمائه لأمته ومشاركته في همومها، وفيها استغناؤه عن جملة من شعره، وهذا كله سيتكرر في المستقبل.

     وفي العام نفسه 1938م يطلع علينا عمر بمطولته «خالد» التي قالها في الفاتح العظيم خالد بن الوليد، ومطلعها:

لا تنامـــي يا راويـــات الزمــان فهو لولاك موجـة من دخــان

     وهي قصيدة يمتزج فيها التاريخ والدين والوطنية والبطولة والحزن والأمل، وفيها تصوير بديع، وسمات ملحمية لا تخفى.

     ويشاء الله أن تهب على حياة عمر نسمة من حب وسكينة، وذلك بزواجه من زوجته الأولى منيرة محمد مراد في 9/ 9/ 1939م، وهي عربية، أرجنتينية المولد ترجع أصولها إلى سهل البقاع في لبنان لتلتقي بأصوله هناك، وقد تعلمت العربية بعد زواجها من عمر، ومنها رزق بولديه «شافع» و«وريف» وبابنته «رفيف».

     وفي العام نفسه يشارك الشاعر في تأبين الملك غازي بن فيصل الذي قتل في حادث مريب في بغداد عام 1939م، وكان فتى جريئاً مقداماً مثل أماني العراقيين خاصة والعرب عامة في مقاومة المستعمر، وحقــق شهرة كبيرة حـــين قمع حركة انفصالية قام بها بعض الآشوريين بتشجيع الإنجلـــيز، فحزن عليه الناس عراقيــين وعرباً حزناً شديداً، وفيه قال عمر قصيدته التي مطلعها:

شهقـة في الدجى وراء البــوادي     روعت خاطر الضحى المتهادي

     وفيها يقول الشاعر للمرثي:

ليس يطوي التـــاريخ صفحة مجد    أنـت سطـــــرتهــا بأسنى مـــــداد
يوم هزت آشور فـي وجهك الطلـ     ــــق رمـاحـــــاً رعافة الأحقــــاد

     ويأتي عام 1940م ليشهد مصرع الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وهو سياسي سوري قتل غيلة داخل عيادته في دمشق، فشارك عمر في حفل تأبينه بقصيدته:

هل على الرمل بعد طول السفار     أثـر من قــــــوافل الأدهــــــــار

     وفي العام نفسه ينظم عمر قصيدته «كأس» التي يروي لنا فيها حكاية الشاعر «ديك الجن» الحمصي الذي قتل جاريته الحسناء، ثم ندم على قتلها، وصنع من بقايا جثتها المحروقة كأس خمره، وقد وظف الشاعر الواقعة توظيفاً نفسياً خاصاً، وتقع القصيدة في سبعة مشاهد، كل مشهد لوحة تامة، ويلاحظ أن الشاعر أجرى في هذه القصيدة كثيراً من التعديل.

     وفي العام نفسه يرشح الشاعر نفسه للانتخابات العامة في حلب لكنه لا يلبث أن يضطر للانسحاب، فقد تناقل الناس فتوى تمنع انتخابه لأنه أشار إلى صلب المسيح عليه السلام، وكأنه حقيقة مقررة، وذلك في قوله:

كصرير المسمار في كـف عيسى     ليس ينسى صـــداه مر الليـــالــي

     وفي العام نفسه يبدأ الشاعر حياته العملية، إذ يدخل سلك الوظيفة مديراً لدار الكتب الوطنية في حلب، ويظل في منصبه هذا تسع سنوات «1940 - 1949م» تنتهي بانتقاله إلى السلك الدبلوماسي. وقد عني الشاعر بالدار، واستقدم لها كثيراً من الكتب العربية والأجنبية، وكانت المظاهرات الوطنية في حلب تحرص على المرور بها، ليقف مديرها الشاعر على شرفتها يلهب الناس بأهازيجه الوطنية، وبذلك صارت الدار مثابة ثقافية ووطنية وسيــاسية على السواء.

     وفي عام 1941م يطلع علينا الشاعر بمطولته الشهيرة «محمد» التي كان يؤكد دائماً أنها مقدمة لملحمة طويلة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومطلعها:

أي نجــوى مخضلـة النعماء     رددتها حنـــاجــر الصحراء

     وهي من أشهر شعره وأسْيَره، وقد عدل فيها وبدل غير مرة، وفيها سمات ملحمية ظاهرة. ولها ولأختها «خالد» عناية خاصة في هذا البحث.

     وفي عام 1943م يموت أبوه شافع أبو ريشة، فيرثيه بأبيات دامعة يكتبها على قبره:

نــــاداك تحنــاني فمـــا أسمعــــك     فاذهب فــداك الشـوق قلبي معــك
سرنـــا معـــــــاً حينـــاً وخلفتنــي     وحدي على الدرب الـذي ضيعـك
أرنــو إلى الدنيـــــــــا وآفـاقهـــــا     فمـا أراهــــا جـــاوزت مضجعك
حسبيَ منهــا موعــد فــي المســـا     أفهـم فيـه ســـر مـا استودعـــــك

     ويقام المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري في عام 1944م في سورية، فيشارك فيه عمر بمطولته:

ملعب الدهـــر لو ملكنا هدانـــــا     لبلغنـــا مـــن الحيــــــاة منــــانا

     وهي قصيدة تشي بما اكتسبه الشاعر من تقدم في صنعته الفنية، مثلها مثل قصيدته «هذه أمتي» التي ألقاها عقب خروجه من السجن في السنة التالية 1945م، ومطلعها:

ما صحا بعد من خمار زمانه     فليرفــه بالشــدو عن أشجانـه

     وفي مطالع الأربعينات يشتد عود الشاعر ويعظم دوره الوطني، ويزداد حب الناس له، ويزداد نفور الفرنسيين وأذنابهم منه، وتكون له مواقف محمودة يشوبها الكثير من المغالاة والمبالغة والادعاء حين يرويها عمر بعد أربعين سنة، فيقول: لطالما استحال على الفرنسيين اعتقالي لصعوبة العثور علي...، فما أن ألقي خطاباً أو تصدر لي قصيدة في إحدى الصحف، تتسم بالعنف وتدعو إلى محاربة فرسان الانتداب حتى أتوارى عن الأنظار...، كنت ألجأ إلى حمى عشيرة «الموالي» عشيرتي، حيث يوفرون لي الأمن، فأطمئن إلى نجاتي من براثن الفرنسيين...، لكن القدر عاد وحالفهم قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، فعثروا علي في مدينة «حماة»، واقتادوني مخفوراً إلى بلدة «عنجر» في البقاع اللبناني. في عنجر وضعوني داخل غرفة ضيقة لا تتسع لسجن فأر.

     بعد مضي ثلاثة أيام على وجودي في تلك الغرفة دون محاكمة، سألت عن سبب اقتيادي إلى عنجر فقال لي الحارس: نحن نبحث عن مكان مناسب نعلق فيه مشنقتك...، ليتك بأكثر من روح واحدة كي نشنقك أكثر من مرة واحدة.

     في صبيحة اليوم الرابع، قدم حارس جديد أخرجني من الغرفة، واصطحبني إلى بيروت حتى بلغنا ساحة الشهداء، قال لي الجندي الفرنسي وعلى شفتيه ابتسامة مطمئنة: قبل أن أعيد إليك حريتك، يطيب لي أن أطلعك على سر يخفى إلا على عدد من المقربين... لا أبالغ إذا أكدت لك أن شعرك أنقذك من الإعدام... رئيسي ممن يهوون الشعر إلى حد الهوس، وقد قرأ بعض قصائدك مترجمة إلى الفرنسية، وخلص إلى أن شاباً في مثل مواهبك لا بد له من العودة إلى الصواب عاجلاً أم آجلاً، ثم فتح الجندي حقيبته وقدم لي نسخة من ديوان «بودلير» الشهير «أزاهير الشر» هدية من رئيسه.

     لم أصدق يومئذ أنهم أعادوا إلي حريتي بمثل هذه البساطة! رأيتني كمن يفيق من حلم، من كابوس مزعج... وألقيت نظرة إلى ملابسي فوجدتها قذرة تعلوها طبقات كثيفة من الغبــار... أخجلني ما كنت فيه من مهانة بعد مضي أسبوع كامل دون حلاقة... وزاد في الطين بلة أن جيوبي خالية خاوية... فتذكرت الصديق الذي سبق لوالدتي أن أوكلته بشؤوني أيام دراستي في الجامعة الأمريكية ببيروت... أسرعت أستلف منه ما أعانني على شراء ثياب جديدة، والمبيت تـلك الليلة في «الفندق العربي»، وقد أسفت أشد الأسف لاحتراقه في بداية أحداث السنين التي أدمت لبنان.

     ومرة ثانية حكم علي الفرنسيون بالإعدام. وشاء تعالى أن أفلت من قبضتهم كذلك، ليس بفضل شعري كما في المرة السابقة، بل بفضل سعيد حيدر.

     في مطلع الأربعينات، وجيوش الحلفاء على أشدها في سورية ولبنان ولا أنسى أنني كنت عريساً جديداً في تلك الأيام، أقيمت حفلة لإحياء ذكرى «الشهبندر». ولكن سرعان ما ثبت لنا أن الحفلة، في مراميها الخفية، إنما أريدت لتكريس الانتداب، أو الدعاية للفرنسيين، بحجة تكريم الوطنيين. وكان أن اعتليت المنبر ولم أتردد في مهاجمة رئيس الوزراء حسن الحكيم على مسامع رئيس الجمهورية الشيخ تاج الدين الحسني الذي كان يرعى الاحتفال المشبوه... وختمت قصيدتي بأبيات أقول فيهـا:

أتـلقــــاك والزبـانيـــــة الحمـــــ      ـر، حـوالي رعــــــف الأنيـاب
حمدوا خسة المقـــــــادير لمــــا      داعبتني بمخــــلب وبنــــــــاب
ورأوني ألم شعث جنـــــــــاحي     وقد جرحـا صــــدور السحـاب
فمضوا يسألون هل لان عـودي     وخبـــت عزتي وذل شبــــــابي
خسئ العيـــش لن أقـابل وجــــ     ــــه الله إلا وفي يميـني كتـــابي

     بعد انتهاء الحفلة مباشرة، وما أن تفرق الحضور حتى حاصر الجنــود السنغاليون الفندق الصغير حيث كنت أنزل في محلة «المرجة» بدمشق... غير أن حسن الحكيم قدم مسرعاً إلى المكان، كي يحول وجوده دون دخول الجنود الفندق لاعتقالي... وقد أكبرت فيه ذلك الصنيع، إذ خف الرجل لمساعدتي رغم ما اتسم به الهجوم عليه من عنف... كم مرة سمعته يقـول لي بصــبـر ومـــودة أبويين: «الله يصلحك».

     بعد حسن الحكيم جاء سعيد حيدر، فتحدث إلي، ثم سعى إلى الفرنسيين علهم يعودون عن حكمهم بإعدامي... غير أن هؤلاء تمسكوا بموقفهم، وعينوا نهار الجمعة من ذلك الأسبوع موعداً لتنفيذ حكم الإعدام شنقاً... فلم ير سعيد حيدر عند ذلك بداً من الذهاب إلى الإنجليز بقصد الإفادة من المنافسة الشديدة القائمة بين الحلفاء لوضع يدهم على بلدان الشرق الأوسط، تلك التي درج الفرنسيون على دعوتها «بلدان المشرق». قال سعيد حيدر للإنجليز ما فحواه: لقد تسنى لكم أن تروا بأم العين ما يتمتع به هذا الشاب من شعبية واسعة، وتأكدتم من محبة الجماهير إياه، ومع ذلك يصر الفرنسيون على إعدامه دون وجه حق... فإذا تدخلتم، وحلتم دون تنفيذهم الحكم الجائر الذي أصدروه، فسنعلن على الملأ أنكم أنقذتموه من براثن السلطات الفرنسية.

     حيلة سعيد حيدر أنقذتني من ثاني حكم بالإعدام يصدره علي الفرنسيون... غير أنهم أصروا على نفيي إلى بلدة «المية ومية» في جنوب لبنان، وقد أصدروا قراراً يقضي بإبعادي عن الساحة السياسية... وبلغ بهم «الكرم» حد منحي مبلغ مئة وخمسة وعشرين قرشاً في اليـــوم.

     وتظفر سورية باستقلالها عن فرنسا، فيفرح الشعب وتقام الاحتفالات، وفي إحدى هذه الاحتفالات التذكارية في حلب يلقي الشاعر عام 1947م قصيدته «عرس المجد»:

ياعروس المجــد تيهي واسحبي في مغانينــــا ذيــــول الشهب

     وهي من أشهر وطنيات عمر وأسْيَرها، نشرتها الصحف، وحفظها التلاميذ، وتناقلها الناس، وقدمتها الإذاعة أغنية بصوت إحدى المطربات الشهيرات، ودخلت تاريخ الشعر الوطني في سوريا من أوسع أبوابه، واحتلت فيه مكانة متميزة، وزادت من شهرته.

     وفي العام نفسه 1947م يموت السياسي الشهير سعدالله الجابري، وكان سياسياً بارزاً له زعامة وفيه نبل، وكان عمر يحترمه ومع ذلك يتصدى له بالنقد، وكان سعد الله يتقبل نقده بصدر رحــب.

     ولما كان ذوو الفقيد يتذاكرون فيمن يدعونه للمشاركة في حفل التأبين اقترح فاخر الجابري وهو شقيق الفقيد أن يدعى عمر أبو ريشة، فذهل بعض القوم لأنهم يعرفون رأي الشاعر في الفقيد ورعيله، ومع ذلك أصر فاخر الجابري قائلاً: إن هذا أدعى إلى ضرورة تكليف أبي ريشة لنرى ما يقول. وأقيم الحفل وشارك فيه أبو ريشة، وأنصف الفقيد أيما إنصاف، في قصيدته «بلادي» التي مطلعها:

هيكل الخلد لا عـدتك الغــوادي     أنت إرث الأمجـــاد للأمجــــاد

     وهي قصيدة طويلة تقع في صميم الشعر الوطني، وفيها ملامح بينة من صنعة عمر التي بدأت تتميز وتظهر.

     في العام التالي 1948م يتم اختيار عمر عضواً مراسلاً في المجمع العلمي العربي بدمشق اعترافاً بمكانته في عالم الأدب وشهرته المتزايدة، وفي العام نفسه يطلع علينا الشاعر بقصيدتين وطنيتين، الأولى «حماة الضيم» ومطلعها:

عاتبته ونسيت طــيب نجــــاره     وأبيت أن تصغي إلى أعـــذاره

     وفيها يتحدث عن هموم الأمة، وعن نكبة فلسطين بشكل خاص، وينهي القصيدة ببث الأمل الذي سيحققه حماة الضيم مع مطلع الفجر المأمول.

     أما القصيدة الثانية فهي «بعد النكبة» والنكبة المقصودة هي نكبة فلسطين الأولى، ومطلعها:

أمتي هـــــل لك بــــين الأمـم     منـــبر للسيــــف أو للقـــــــلم

     وهي قصيدة ذائعة مدوية، ربما كانت أشهر شعره الوطني على الإطلاق، وقد ألقاها في حفل كبير في حلب حضره ساسة سورية وقادتها فهاجمهم هجوماً عنيفاً، وكان نصيب رئيس الوزراء جميل مردم من هذا الهجوم وافراً، وقد اتصلت بهذه القصيدة مبالغات من الناس ومن الشاعر، وسيأتي الحديث عنها في مكانه، ومن هذه القصيدة بيتان ذهبا مثلاً يتداوله الناس:

رب وامعتصمـــاه انطلـقت     ملء أفــــواه البنـــات اليتـم
لامست أسمــــــاعهم لكنهـا     لم تلامـــس نخوة المعتصم

     وجاء عام 1949م بكارثة على سورية، إذ وقع فيها أول انقلاب عسكري قاده الزعيم حسني الزعيم، وقد قال عمر في الساسة الذين أطاح بهم الانقلاب قصيدة رائية هاجمهم فيها وشمت بهم، وقد كره له الناس عامة ومحبوه خاصة هذا الموقف وعدوه منه سقطة لا تليق به؛ تعرض بسببها لكثير من النقد القاسي، وقد عينه قائد الانقلاب في السلك الدبلوماسي السوري في إسبانيا لكنه أبى ففصل من وظيفته، لكن ذلك لم يطل إذ سقط حكم الزعيم حسني الزعيم بعد شهور قلائل، فعاد الشاعر إلى عمله بدار الكتب الوطنية في حلب، وفي أواخر عام 1949م عين ملحقاً ثقافياً لسورية في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في القاهرة، وقد ظل في هذا المنصب فترة قصيرة من الزمن.

     في 12/ 1/ 1950م بدأت رحلة الدبلوماسية والغربة في حياة عمر التي دامت عشرين عاماً بدأها سفيراً لبلده في البرازيل التي ظل فيها حتى عام 1953م حيث نقل إلى الأرجنتين والشيلي، فبقي فيهما حتى عام 1954م، حيث نقل سفيراً لسورية أولاً، ثم للجمهورية العربية المتحدة التي ضمت سورية ومصر معاً في دولة واحدة إلى الهند، فظل فيها حتى عام 1959م، ومن الهند نقل سفيراً للجمهورية العربية المتحدة في النمسا حتى عام 1961م، حيث نقل منها سفيراً لسوريا التي كانت قد انفصلت عن مصر لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وظل هناك حتى عام 1964م حيث أعيد مجدداً سفيراً لسوريا في الهند، فظل فيها حتى عام 1970م، وهي السنة التي أحيل فيها إلى التقاعد.

     وفي الأرجنتين توثقت الصلة بين عمر وبين الشاعر المهجري زكي قنصل، وبعد وفاة عمر كتب الأستاذ زكي قنصل إلى صديقه الأستـــاذ عبد العزيز الرفـاعي رسـالة شخصـيــة عنـوانها «ذكريات عن عمر». وفي هذه الرسالة ما يستحق أن يقتبس وإن طال لأنه يلقي الضوء على حياة عمر وشعره وثقافته وشخصيته وصداقاته وذوقه وأثره في الجالية المهاجرة، وأسلوب عمله الدبلوماسي أيضاً.

     يقول الأستاذ زكي قنصل: ما أصعب الحديث عن الأصدقاء، وبخاصة إذا كانوا قد انتقلوا إلى دار البقـاء!. إن الذكريات يزحم بعضها بعضاً، فلا يعلم المرء من أيها يبدأ. الحديث الآن عن عمر أبو ريشة، وهل أستطيع أن أخـوض فيه دون أن أودع غصــة وأستقبل غصة!؟.

     كان عمر من أصدقائي الأثيرين، تعرفت إليه سفيراً لسوريا في الأرجنتين، وسرعان ما امتد بيننا حبل المودة والتقدير. كنت أزوره في دار السفارة لماماً، فإذا ما رآني قادماً أتعثر بخطاي مخافة أن أقطع عليه عمله، هب من كرسيه وهرع لاستقبالي زاعماً أنه لم يكن مشغولاً، وإنما كان «يخربش» شيئاً ما لإزجـاء الوقـت.

     وأجلس بادئ ذي بدء وقد بدا علي الارتباك، فيتناول مجلة أو كتاباً ويقول لي: هل قرأت هذه القصيدة أو هذا الكتاب؟ فأتشاغل بتقليب الصفحات، ثم أقول له: أسمعني شيئاً من جديدك.

     وفي ذات يوم قال لي صديق تاجر من أبناء الجالية: حبذا لو عرفتني إلى عمر، فاصطحبته إلى دار السفار،ة وجلسنا كعادتنا نتحدث في الشعر والأدب. وكان الصديق التاجر يصغي إلينا دون أن ينبس بكلمة، ولما احتوانا الشارع قال لي: هذا السفير لكـــم «يعني الأدباء» وليس لنا.

     وبعد أيام دعا عمر إلى اجتماع في دار السفارة للبحث في شأن وطني يهم الجالية، فذهب صديقي التاجر فيمن ذهب للمشاركة في الموضوع، ولما انصرفنا قال لي: أسحب كلامي؛ هذا السفير للجالية كلها ولكل المواضيع.

     كان عمر أبو ريشة شاعراً من الطراز الرفيع، يتمتع بثقافة واسعة لا تقتصر على العربية، بل كان ملماً بالكثير من ثقافات العالم وآدابها، ومن هنا كان هذا الطابع الفريد في شعره الذي يكاد يكون وقفاً عليه دون سائر الشعراء.

     عندما وصل عمر إلى الأرجنتين زحفت الجالية رجالاً ونساءً لاستقباله، وعجت دار السفارة وما حولها بالوافدين للسلام عليه حتى اضطرت شرطة المرور إلى قطع الشوارع المؤدية إلى السفارة حتى لا تسمح إلا بمرور المشاة. وكان ذلك اليوم عيداً قومياً للجالية العربية لم يتخلف عن المشاركة فيه أحد، سواء كان سورياً أو غير سوري، واضطر عمر إلى الخروج إلى شرفة الدار للرد على هتافات الجماهير، وبصوته الموسيقي البديع وطلعته المهيبة ألقى مقاطع من قصيدته الرائعة:

وطن عليه من الزمـــان وقـــار     النــور ملء شعــابــــــه والنـار

     وألحت الجماهير في سماع المزيد من شعره فرفع يده علامة الشكر وهتف:

ياعروس المجد تيهي واسحبي     في مغـانينــــا ذيـــول الشهــب

     ثم أردفها بميميته المشهورة:

أمتي هـــل لك بـــــين الأمــــم     منــــبر للسيـــــــــف أو للقـــلم

     في اليوم التالي لوصوله انعقدت بيننا عرى المودة والصداقة، فقد حييته ساعة الاستقبال بقصيدة عنوانها «الشام في عينيك» قلت فيها:

أكـرمت فيـك الخـلق والأدبـا     إن كان غيـــري يـكرم اللقبـا
قــالوا السفــارة قـلت أكرهها     إلا لـكـل فضيـــــــلة سـببــــا
فتــــح الكـريم لـنــــا سحـائبه     هـلا اقتسمنا بيـننــا السحبــــا
الشـــاعر الصــــداح حصتنا     وخذوا السفير الحاذق الأربـا
تـأبى عـلـــــى مثلـي كرامته     أن يستحيل لحــــاكم ذنبــــــا
أدنى مرامي المجــــد مرتبة     لا تقتضـي كــــداً ولا تعبـــــا

     وكان عمر يصفق لكثير من أبياتها، ولما فرغت من إلقائها ضمني إلى صدره وقال: أحسنت والله:

تأبى على مثلي كرامتــــــــه     أن يستحيل لحــــــاكم ذنبـــــا
أدنى مرامي المجـــد مرتبــة     لا تقتضي كــــداً ولا تعبـــــا

     وفي اليوم التالي اتصل بي هاتفياً، وقال لي: أريـــد القصيدة كاملـــة، وأريدك للحديث و«الدردشة» كلما سنحت لك فرصة.

     ومن ذلك الحين أصبح عندي الصديق الأحب، لا أزور العاصمة وكان مقامي على مسافة منها؛ إلا زرته في عرينه، وجلست إليه ساعات وساعات.

     لست أقصد في هذه الذكريات دراسة عمر أبو ريشة، فهذه مهمة فوق طاقتي يقتضي لها نقاد ذوو باع طويل في علم النقد والأدب يتفرغون له ويتدارسونه من مختلف نواحيه، فقد كان عمر شاعراً متعدد المناحي طرق جميع أبواب الشعر، وأبدع فيها جميعاً.

     الغرض من هذا الفصل إذن هو استعادة بعض ذكرياتي معه، وسردها بدون ترتيب. وفي هـــذه المناسبة لا بــد من ذكر الحفلــــة الملوكيـــة التي أقامهــــا للرئيس اللبناني كميل شمعون عام 1954م.

     في ذلك الحين زار شمعون الأرجنتين، فأقامت له الجالية السورية اللبنانية حفلات تكريم رائعة لأن المغتربين جميعاً اعتبروه رمزاً للأمة العربية بدون تفريق بين قطر وقطر.

     وأقام له عمر حفلة في دار السفارة السورية دعا إليها الجالية فضلاً عن عدد من رجال السلطة وحملة الأقلام وعِلْية القوم. فلما دخل الرئيس اللبناني هاله ما رأى من مظاهر الأناقة والفخامة، وكرم النفس واليد، فوقف كالمشدوه وصاح بأعلى صوته: هذا أروع استقبال لقيته في حياتي!. كان لابد من وجود عمر ليكون لي مثل هذه الحفاوة.

     وفي أثناء الحفلة رأيت شمعون يتحدث إلى مدير الجريدة التي كانت تنطق بلسان الرئيس الأرجنتيني الجنرال بيرون، ولاح لي أن التفاهم بينهما غير وارد، فالرئيس اللبناني يجهل الإسبانية، والصحافي لا يعرف من اللغات إلا هي. واستنجد بي شمعون فجلست بينهما مترجماً. قلت: ماذا يريد صاحب الفخامة؟ قال: قل له: إني بعد هذا التكريم الذي لم أشهد مثلـــه سأطلب الجنسية السورية. قلت: يا سيدي لا حاجة إلى الطلــب، فقد منحناك إياها بلا أجر ولا شكور، فضحك وقال: ترجم ترجم، فترجمــت.

     فسأل الصحافـــي: كيف وصلتم إلــى الرئاسة؟ فقال الرئيس ممازحاً: مشياً على الأقــدام. وكان عمر على مقربة منا فقال: لا تصدق. لقد سعى إليها عدواً فوصل قبل غيره لأنه من عدائي العرب كسليك بن السلكة وشيبوب،. فتضاحكنا جميعاً، واضطررت إلى تخصيص نصف ساعة لأشـرح للصحافي حكايــة العدائين. وفي تقديري أنه لم يفهمها وإن كان يهز رأسه علامة الفهــم.

     كان عمر يتلذذ بإلقاء شعره، وكان يغضب في ذات نفسه لأقل هفوة يرتكبها أحد رواته. وكان يكظم غيظه، وعندما يخلو بي يقول: والله يا زكي وددت لو لم يكن فلان من المعجبين بي، لقد صدق المثل القائل: الصديق المخسر شر من العدو.

     كان عمر دودة مطالعة، وقد حاول أن يتعلم الإسبانية، ولكن إقامته في الأرجنتين كانت من القصر بحيث لم يتسع له الوقت ليحيط بها إحاطة واسعة كاملة... بالإضافة إلى ذلك كان عليه أن يتتبع حركة الأدب في الوطن العربي.

     كان عمر قوي الحافظة، شديد الإلمام بأشعار القدامى والمحدثين، وكان يروي معظم قصائده لا يعثر بكلمة ولا يتلجلج ببيت، فكأنه يقـــرأ من كتاب مفتـــوح. قال لي: إنه نظم قصيدته «أندلسية» في الطائرة التي أقلته إلى البرازيــل، وليس فيها حرف أو صورة خارج حدود الواقــع. قلت: هل تذكرها ؟ قال: اسمع.

     ولاحظ إعجابي، وداخله أني قد أظن أنه لا يحفظ غيرها، فشـرع يلقي القصيدة تلو القصيدة حتى دنا وقت الغداء، فقال: هيا بنا إلى المائدة، ثم نتابع الجلسة بعد الطعام.

     ولما أتينا على اللقمة الأخيرة قال لي: لقد جاء دورك فهات ما عندك، فقلت: من سيئاتي يا عمر أني لا أحفظ شعري، فأجاب ممازحاً: هذه من حسناتك، فضحكنا وأصر أن أقرأ شيئاً من شعري فأسمعته بعض الأبيات المتفرقة، ثم قلت له متغابياً: إني أحفظ قصيدة من رائع الشعر لا أعرف من هو صاحبها. فقال: هاتها. فقرأت سينيته «طلل»، وتعمدت أن أغير بعض كلماتها فصححها لي، وأضاف: إذا قرأت من شعري علــــى هـــذا النحو فأرجوك ثم أرجوك ألا تعود إلى مثلها.

     كان عمر شديد الإيمان بوحدة الوطن العربي، سريع الانفعال بما يقع فيه أو يطرأ عليه من أحداث، وقد بدا ذلك جلياً في آثاره الشعرية، ونستطيع أن نقول بغير مغالاة: إن شعره يكاد يكون تاريخاً لحركة التحرير العربية منذ أوائل القرن، وبخاصة لأحداث القطر السوري. ولايزال الكثيرون حتى الآن يرددون شعره في مقارعة الانتداب الفرنسي في سوريا، وفي الدعوة إلى خلع نير الاستعمار واستعادة المجد العربي الداثر.

     وبعد انتقاله من الأرجنتين ظل حبل المودة والمراسلة موصولاً بيننا فترة من الزمن إلى أن تلاقينا ثانية عام 1984م في مجلس الأديبة المعروفة السيدة مهاة فرح الخوري صاحبة مكتبة العائلة بدمشق، وكان لقاء سعيداً تعاونا فيه على نبش الماضي واستعادة ذكرياته. وقد ضم المجلس رهطاً محترماً من أهل الأدب والثقافة في سوريا التفوا حول عمر يستنشدونه شيئاً من شعره في طليعتهم الكاتبة الذائعة الصيت كوليت خوري، والسيدة صاحبة المكتبة، وكان ذلك آخر عهدي بشاعر الجمال والبطولة عمر أبو ريشة».

     وإذا كان للفترة الأرجنتينية في حياة عمر آثارها التي روى طرفاً منها الأستاذ زكي قنصل،؛ فإن للفترة الهندية آثارها أيضاً خاصة أن الهند استأثرت بالمدى الأطول من حياة عمر الدبلوماسية. فقد بلغ مجموع إقامته فيها أحد عشر عاماً، وأهم هذه الآثار قصيدته المطــــولة «كاجوراو» التي يصف فيها معبداً وثنياً في الهند. ويروى أن الزعيم الهندي نهرو قال للشاعر في حفل استقباله: وصلتنا عنك معلومات كثيرة تفيد بأنك صاحب رسالة قبل أن تكون سفيراً، تأكد بأن الهند لن تبخل عليك بشيء مما تأمل. كما يروى أنه قال له في حفل توديعه: إننا اليوم لا نودع سفيراً، فكثيرون هم السفراء الذين يأتون ويذهبون، لكننا نودع اليوم في هذا الرجل القيم العظيمة للإنسان.

     وحين ذهب الأستاذ عبدالله الخاني سفيراً لسوريا في الهند بعد عمر لمس محبة الناس له وسؤالهم عنه، فكتب إليه في إحدى رسائله: إن كل زاوية في الهند تحمل وردة تقول: عمر أبو ريشة مر من هنا وأسمعني قصيدة.

     ومن طرائف الفترة الهندية ما يرويه الأستاذ الشاعر عبدالله بلخير وهو صـــديق قديم لعــمر، حين ذهب إلى الهند مع الملك سعود بن عبدالعزيز، فالتقى الصديقان الشاعران في حفلات حكومية، وفي حفلة أقامها عمر للملك الزائر، ويصف الأستاذ بلخير ذلك وصفاً شائقاً يستحق أن يروى لما فيه من متعة وطرافة، ولأنه يكشف جوانب من شخصية عمر الدبلوماسي الأنيق المثقف الكريم، القادر على بناء العلاقات والصلات، وهذه الحفلة تذكرنا بأختها التي وصفها الأستاذ زكي قنصل من قبل.

     يقول الأستاذ عبد الله بلخير: تلك كانت بعض ذكرياتنا مع عمر أبي ريشة في بيروت، على أن لي ذكريات أخرى معه يوم عين سفيراً لسورية في عاصمة الهند «دلهي الجديدة»، وقدر لي أن أكون في معية الملك سعود بعد استقلال الهند يوم زارها زيارة رسمية، فكنت ألتقي الأستاذ عمر في كل الحفلات التي يقيمها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء جواهر لال نهرو والوزراء والحكام.

     ورأيت عمر في كل تلك الحفلات الحكومية الرائعة في طلعته الأخاذة وقامته الممدودة، ورفعة مكانته بين رجال الدولة الهندية وسفراء الدول ووزرائها، رأيت رئيس الجمهورية الهندية يحف بعمر وبعقيلته، ويفسح لهما المجال بجواره في الحفلات المختلطة، ورأيت السيد جواهر لال نهرو وزوجته وابنته أنديرا يفعلون مع عمر مثل ما كان يفعل رئيس الجمهورية.

     كان عمر يجول في تلك الحفلات يتكلم مع السيدات والسادة كل منهم بلغته، يتكلم بالعربية والإنجليزية والفرنسية وبعض لغات الهند بما فيها لغة الأوردو وباللغة الفارسية أيضاً، وينتقل من جماعة إلى جماعة يستحوذ على إعجاب من عرفهم أو تعرف بهم، كعادته في أحاديثه يفيض بمعارفه وثقافته العميقة وشغفه بالأدب والشعر فيكون قطب رحى المتحلقين حوله.

     وفي تلك الأيام أقام أبو ريشة كسفير لسورية في الهند بين عامي «1954 - 1958م» حفلة تكريم لجلالة الملك سعود، يوم زار الهند بعد استقلالها. ضرب لذلك الحفل سرادقاً فخماً في حديقة السفارة السورية بدلهي الجديدة، وكان السرادق مترامي الأطراف مبطناً بالحرير الهندي والجوخ الصيني يتعالى على صفوف من الأعمدة العالية، ثم تتوزع فيه المقاعد في الأركان والحلقات، وقد أدهشت جميع المدعوين، وأقيم في الحفلة خوان شرقي وغربي فيه من المآكل ما بهر المدعوين إلى الحفلـة.

     وكان عمر أبو ريشة الداعي والسفير يجول ويستقبل الوافدين والمدعوين، ويقدمهم إلى الملك سعود، ويقف بجانبه يترجم له أقوال الضيوف حتى إذا انتظم عقد الجميع حول المائدة الطويلة التي أشرفت عليها زوجته أم وريف، وقف هو يلقي كلمة ترحيب رائعة، ثم تكلم إلى الحاضرين بالإنجليزية، فذكر أمجاد العرب وعلاقاتهم بأقطار العالم بما فيها بلاد الهند، واستمرت الحفلة ساعات متوالية يضطرب فيها الوزراء والحكام بأزيائهم الرسمية، والسيدات بقبعاتهن الفواحة بالعطر لتضفي على الحفل رونقاً عابقاً، وظهر لي في ذلك المساء وفي غيره من أمسيات الحفلات الأخرى التي استمرت أسبوعين وأنا لا تغيب عيناي عن عمر، مدى صداقته لكبار القوم وحبه للناس وحب الناس له، رأيت نهرو يضمه إلى صدره، ثم يتقدم به إلى أصدقائه في مرح ومزاح ومساواة متكافئة، ورأيت عمر يتجلى على الجميع بدماثة أخلاقه وعلو مكانته بينهم، فترمقه العيون، ويتساءل عنه من لم يعرفه، وكنا نجلس ونختلس جلسات طارئة نتبادل فيها أطراف الحديث والذكريات السابقة.

     وفي عام 1955م يشارك عمر في الحفل الذي أقيم في الملعب البلدي في دمشق لتأبين العقيد عدنان المالكي الذي ذهب ضحية اغتيال سياسي، والغريب أنه لم ينس أن يمجد نفسه ويهزأ من حاسديه مع نبو ذلك عن طبيعة المناسبة:

شاعر في مراده تعــب الصـبر     وما انفـــك ممعنــاً في مــراده
وقفت في دروبــه الأعبـــد الــ     أقزام وافــتن لؤمهـم في انتقاده
ربما يطمعون في أن يمــــروا     بين شــــقي يراعـــه ومــــداده

     ثم يشارك في العام الثاني 1956م في المؤتمر الأول للأدباء العرب الذي انعقد في بيت مري في لبنان أيام رئاسة كميل شمعون، وينشد فيه قصيدة تنال إعجاب الحضور.

     وفي عام 1961م يشارك أيام عمله سفيراً في النمسا في المهرجان الذي بويع فيــه الأخطل الصغير «بشارة الخوري» في بيروت أمــيراً للشعـر بقصيدة من غـــرر شعــره اسمهـا «حكاية سمار» ومطلعها:

هل في لقائك للخيــال الزائـــر    إغضاء ســالٍ أم تلفــت ذاكــر

     وفي عام 1962م ينقل الشاعر من النمسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليظل فيها سفيراً حتى عام 1964م، حيث ينقل منها إلى الهند التي يبقى فيها حتى عام 1970م، وهو العام الذي أحيل فيه إلى التقاعد.

     وفي عام 1962م ينظم في ابن أخته علي الشهابي مرثية رائعة اسمها «لوعة»، وللقصيدة تميز خاص جداً بين مراثي الشاعر، بل بين مراثي الشعر العربي كله، وسيأتي الحديث عنها مفصلاً في مكانه.

     وفي عام 1969م يشارك في المهرجان الذي أقيم في لبنان لتأبين صديقه الأخطل الصغير بقصيدة من غرر شعره هي «بنات الشاعر» ومطلعها:

نديك السمح لــم يخنق لــه وتر     ولم يغب عن حواشي ليله سمر

     وقد أثارت هذه القصيدة ضجة كبيرة، وتداولها الناس وتناقلتها المجالس، ونشرتها جريدة الحياة في صفحتها الأولى، وسبب ذلك أنه هاجم القادة الذين كانوا مسؤولين عن هزيمة 1967م، وكان جرحها لايزال غضاً طرياً، وكانت الأمة في حالة غيظ ونقمة وإحباط، فعبر عن مشاعرها، وأشهر ما في هذه القصيدة ثلاثة أبيات قالها في الذين صنعوا الهزيمة، فطارت بين الناس أي مطار:

إن خوطبوا كذبــوا أو طـولبـوا غضبوا     أو حوربوا هـربوا أو صوحبوا غـدروا
خافوا على العـــار أن يمحى فكان لهـم     على الرباط لـــدعم العـــار مؤتمـــــــر
على أرائكهــــم سبحـــــــان خالقهـــــم     عاشـــوا وما شعـروا ماتــوا وما قبروا

     وقد رأى أنصار جمال عبد الناصر أن الشاعر كان يعني زعيمهم قبل أي زعيم آخر، فكانت نقمتهم عليه مضاعفة.

     وكان عمر في هذا المهرجان ألمع نجومه، وقد بلغ من تجاوب الحاضرين معه وإعجابهم به أن وقفت القاعة برمتها وعلى رأسها الأستاذ شارل الحلو رئيس جمهورية لبنان يومذاك تصفق للشاعر أكثر من عشر دقائق. لذلك كان يوم هذا المهرجان من أهم أيام عمر الشعرية وأسعدها، وكان ينظر للحاضرين نظرة سعادة وشكر، وهو يطل عليهم من المنصة بقامته الشامخة وأناقته المعهودة.

     وحين أحيل عمر إلى التقاعد عام 1970م بدأت المرحلة الأخيرة من حياته التي دامت عشرين عاماً، وفي هذه المرحلة اتخذ من بيروت سكناً له، وكان محباً للبنان وعاشقاً له، وله فيه صداقات وعلاقات واسعة، وكان يسافر منه ليعود إليه، وقد تخللت هذه المرحلة رحلات كثيرة تطول أو تقصر إلى المملكة العربية السعودية وســورية.

     وقد توثقت صلته في هذه الفــــترة بالأســــرة السعــودية عامة وبالملك فيصل بن عبدالعزيز خاصة، لذلك شارك في عدد من الاحتفالات التي جرت العادة على إقامتها في موسم الحج من كل عام، وهي احتفالات لها أهمية خاصة إذ يحضرها قادة المملكة وكبار ضيوفها من ساسة وعلماء ودعاة وأدباء وشعراء وإعلاميين ووجهاء وأعيان وممثلي بعثات الحج؛ فتصبح مهرجانات دينية أدبية سياسية إعلامية، يتبارى فيها المتكلمون، وكان لعمر حين يشارك فيها بشعره حضوره المتميز.

     وفي واحد من هذه الاحتفالات أقيم عام 1972م وقف عمر لينشد واحدة من أغلى درره بين يدي الملك فيصل، وهي قصيدته «من ناداني» ومطلعها:

رد لي ما استرد مني زمـانــي      فأراني ما الحــــلم كان أراني

     وفي احتفال آخر يقـف عمر بين يدي فيصل لينشده درته الأخرى «أنا في مكة» ومطلعهـــا:

لم تــزالي على ممــــر الليــالي     موئل الحــق يا عروس الرمـال

     فلما استشهد الملك فيصل وقف عمر بين يدي الملك خالد لينشده في احتفال موسم الحج عام 1395هـ - 1975م، قصيدته في رثاء أخيه الشهيد «أمرك يا رب»، وهي قصيدة مطولة حاول أن يستبطن فيها ما دار في خلد الشهيد، وهو ينتقل من دار الفناء إلى دار البقاء. والحقيقة أن صلة عمر بفيصل تشبه من بعض الوجوه صلة المتنبي بسيف الدولة.

     وتجرى للشاعر عملية في القلب في أمريكا عام 1891م، فيناول زوجته منيرة محمد مراد ظرفاً مختوماً فيه وصيته، وكانت الوصية هي:

رفيقـــتي لا تخـــبري إخــــوتي     كيف الردى كيـف علي اعتــدى
إن يســــألوا عني وقد راعهــــم     أن أبصــروا هيكـــلي الموصـدا
لا تجفـــلي لا تطـــــرقي خشعة     لا تسمــــحي للحــــزن أن يولدا
قــولي لهـم: ســافر، قـولي لهم:     إن لــــه في كوكـــــب موعـــدا

     ومن أواخر قصائد الشاعر وأجملها قصيدة مطولة عنوانها «عودة المغترب»، وهي قصيدة تجمع بين الذاتي والموضوعي، يصور فيها وحشته وغربته حين عاد إلى سورية، ورأى ما حل بها من تغير، ورأى ما حل بنفسه هو الآخر من تغير، ورأى ما حل بالعرب من عجز وهوان، فكانت غربته مضاعفة، غربة شخصية وغربة عامة، وفي القصيدة جرأة ووطنية ودين، وفيها حزن مرير يمتزج بما عهد فيه من عزة وإباء وكبرياء، ومطلع القصيدة:

ألفيت منزلها ببابـــــــي موصـدا     ما كان أقربـــــه إلـــــي وأبعـــدا

     بعدها يلاحظ أن شعر عمر أخذ يقل كثيراً، وتستبد به الأحزان الخاصة والعامة، وتطول إقامته في بيروت، وتمرض زوجته منيرة محمد مراد فيشعر بالحاجة إلى سكن عائلي جديد يتحقق له بتعرفه إلى السيدة سعاد مكربل في عام ٨٧٩١م، وهي لبنانية بيروتية، وقد تزوجها عام ٠٨٩١م، وطلب منها أن يظل زواجهما سراً مراعاة لظروفه الأسرية، فترضى بذلك سعيدة مسرورة، بل تترك المسيحية وتعتنق الإسلام من أجله كما روت في بعض المقابلات الصحفية التي أجريت معها، وفي زوجته سعاد يقول عمر:

إنهـــــا بــدعــــــــة المــــــنى    والصبـا السمـــــح والـــــودادْ
صــــاغهــــــــا الله مثــــــلمـا     شـاء وحيـــــــاً إلـــــى العبـادْ
إنهـــــــا فجــــــــر نعمـــــتي     إنهـــــا أنــــــــــت يا سعــــادْ

     وفي مطالع عام 1990م تتردى صحة الشاعر، فيدخل المستشفى التخصصي في الرياض، ويلبث فيه عدة شهور تزداد فيها حالته سوءاً حتى إذا كان يوم السبت 22/ 12/ 1410هـ - 14/ 7/ 1990م؛ انتقــل إلــى رحمة الله عز وجل، ثم حملته طائرة خاصة إلى حلب حيث دفن فيها.

     مات بعد أن حاز على أوسمة كثيرة مختلفة من سورية والبرازيل والأرجنتين وإيطاليا والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية، وكان آخر ما حازه وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الأولى الذي منحه إياه الرئيس اللبناني إلياس الهراوي عام 1990م.
❊❊❊

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة