السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - في رحاب فيصل

في رحاب فيصل

كان في رحـاب فيصـــل أمرح
وأنشط وأزهى منه في أي بلد


     تستحق صلة عمر بالملك فيصل وقفة فيها شيء من الأناة، فهي صلة فيها شيء من التميز والخصوصية، يزيد من قيمتها أن كلاً من طرفيها كانت له مكانته وحضوره.

     بدأت الصلة في الستينيات حين كان عمر سفيراً لبلده في واشنطن، فالتقى بالملك فيصل، الذي كان ولياً للعهد في بلاده ووزيراً للخارجية فيها، يوم جاء واشنطن رئيساً لوفد بلاده لدى الأمم المتحدة، وأتيح لهما هناك أن يتلاقيا ويتحدثا ويتناولا هموم الأمة، وتطورت الصلة فبلغت حد الإعجاب والتقدير المتبادلين.

     وبعد سنوات أحيل عمر إلى التقاعد فاستقر في بيروت، فعلم بذلك فيصل الذي كان قد صار ملكاً على بلاده فاستدعاه وأكرمه، وفي هذه «الفترة الفيصلية» من حياة الشاعر إذا جاز التعبير التي دامت خمس سنوات «1970- 1975م» تألق وأبدع، وازدادت شهرته واتسعت، وظفر الشعر منه بقصائد غالية، ولقي من أنواع التقدير المادي والأدبي الكثير، ففاض به السرور، وأحس بمزيد من النشاط والمرح، لذلك قالت زوجته منيرة محمد مراد عنه: إنه كان في جدة وفي رحاب فيصل أمرح وأنشط وأزهى منه في أي بلد.

     وقد أحبَّ عمر المملكة العربية السعودية وملوكها وأمراءها، وكثيراً ما كان يشيد بهم وبخاصة في وفائهم لأصدقائهم، وكان كثير الثناء على الملك عبدالعزيز موحد المملكة ومؤسسها.

     تولى الملك فيصل الحكم في فترة شاقة من حياة الأمة، فبذل جهوداً كبيرة داخل بلاده عادت عليها بأفضل النتائج، ثم اتسع باهتمامه فاتجه صوب العالمين العربي والإسلامي، فبذل فيهما جهوداً كبيرة لإطفاء الفتن ورأب الصدع وتأكيد أواصر الأخوة والمحبة، والعمل على نشر الإسلام والدفاع عنه، والوقوف بقوة في وجه التيارات الفكرية والسياسية الضالة التي نكبت البلاد والعباد، ورفع شعار «التضامن الإسلامي» وعمل من أجله، ووقف ضد المطامع الصهيونية التي استشرت بعد انتصارها على العرب عام 1967م، وشجع الدول الإسلامية على قطع علاقاتها مع إسرائيل فكانت الاستجابة رائعة، وعمل بصمت وإصرار حتى استطاع العرب أن يشنوا على إسرائيل حرب رمضان 1973م ويهزموها، وبذلك تحول إلى بطل ديني قومي معاً فأحبه العرب والمسلمون، إذ مثل لهم أملهم في إعزاز دينهم وجمع كلمتهم وتحرير أرضهم واستعادة مكانتهم، وصار شخصية عالمية يقصدها قادة العالم من مسلمين وغير مسلمين، وغدت الرياض عاصمة ملكه مدينة لا تكف عن استقبال هؤلاء القادة وتوديعهم.

     وقد أصر كثيراً على أن تعود القدس بالذات إلى أهلها، وطالما صرح بأنه يريد أن يؤدي في مسجدها الأقصى ركعتين قبل موته، ولذلك بكاه العرب والمسلمون في كل مكان حين استشهد عام 1395هـ 1975م أيما بكاء، وأشاد به حتى غير العرب وغير المسلمين.

     فإذا أحبه الناس هذا الحب فلابد أن يكون حب عمر له أكبر لخصوصية الصلة بينهما، ولإعجاب الشاعر الفطري بالبطولة التي رآها في الملك الشهيد. لذلك لا غرابة أن نجده يقول عنه عقب استشهاده: لم أعرف في حياتي ــ وللإنصاف والتاريخ ــ رجلاً شهماً متسامحاً حتى مع أعدائه كهذا الرجل الكبير. وأن يقول عنه في مناسبة أخرى: لقد رأيت في الملك فيصل الأول ملك العراق وفي الملك فيصل بن عبدالعزيز كتاباً مليئاً بأناشيد الحماسة، وثورة تؤجج البطولة في القلوب.

     والصلة بين الملك والشاعر تذكر الإنسان بالصلة التي كانت بين المتنبي وسيف والدولة؛ إذ إن كلاً منهما كان عارفاً لقدر الآخر ومكانته، وعمر الذي خلا ديوانه من المدح لإبائه وكبريائه وعزة نفسه ورفضه التكسب بشعره لا يمكن أن تعد قصائده في فيصل قصائد مدح وتكسب، بل قصائد إعجاب وحب.

     وخصوصية العلاقة بينهما كانت تسمح بجلسات سهر وسمر ينشد الشاعر الملك بعض شعره أو يستنشده إياه. وفي واحـدة من هذه الجلسات أنشده قصيدة عنوانها «الطاغية» وهي:

رائــع في كل ما يـبــــدع رائـــــعْ     ما له في كل ما يهـــوى منــــازعْ
يــقـــف الـتـــــاريـخ من آلائــــــه     مطرقـاً ما بين مفتــــون وخـــاشع
عبقــــــري أخـرسـت أصـــــواتـه     كل صوت من فــم الإيمان طــالع
فـــارس ما أســـــرج المهــــر إذا      لم يجد في النجم ميـدانـــاً لطــامع
شـــــاعر ما حــــن للحــــرف إذا     لم يصغه نعـش أشتــــات شــرائع
سيـــــــد في أمــــــة خامــــــــــلة     قبَّـــلـت من ذيـــــله وهي تبــــايع
إن بــدا نـشــــــوان هبــت حولــه     وزراء الحــكم للرقص تســــارع
أو بـدا غضبـــان مالــت وارتمت     جثث الأطفال في شتى الشــوارع

     يقول عمر: لما أسمعته إياها أطرق صامتاً، ثم رفع رأسه وقال بهدوء: لا تذكر اسمه ربما يهديه الله فتندم. وهذا الطاغية كان من ألد أعدائه، وما أراد الفيصل أن أذكر اسمه حتى لا أهينه، وبعد أن طلب مني حذف ما يشير إلى شخصية هذا الرجل اجتمعت إليه في مساء اليوم التالي وأسمعته هذه القطعـة التي أزلت منها فعلاً ما يشير إلى اسمه وشخصه، وكان كما ذكـرت العدو اللدود للفيصل. ومن الواضح أن الطاغية الذي كان يقصده الشاعر هو الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي دخل مع الملك فيصل في عداء طويل شرس لم يتوقف إلا بعد هزيمة عام 1967م. وإذا دلت القصيدة على كراهية الشاعر للطغاة والظلمة؛ فإن نصيحة الملك للشاعر تدل على عفته ونظره البعيد.

     وكان عمر أبو ريشة يكره الرئيس جمال عبد الناصر كراهية شديدة، ويطلق لسانه فيه كثيراً، وقد هم عبد الناصر بإعفائه من عمله الدبلوماسي إبان رئاسته لمصر وسورية أيام وحدتهما «1958- 1961م»، لكن بعض مستشاريه نصحوه ألا يفعل، لأن ذلك قد يدفع عمر أبو ريشة إلى هجائه بقصيدة يتناقلها الناس ويحشره بها مع من ذمهم الشعر العربي كما فعل المتنبي مع كافور، فأحجم. وهذا الخبر لم أقرأه مكتوباً، ولكن سمعته مشافهة من أناس لهم احترامهم ووزنهم، فالعهدة فيه عليهم.

     وخصوصية العلاقة بين الشاعر والملك تحمله على أن يقول له:

يا فيصلاً للحق بين يديك سفر من ولائي
هو للوفاء جمعته ونشــــرته لا للرجـــاء

     فيبرىء نفسه من المطامع، ويجعل دافعه لما يقول الوفاء والإعجاب.

     ويلقي عمر بين يدي الملك فيصل عام 1972م في الحفلة التي أقامها لضيوف الرحمن القادمين للحج قصيدته الرائعة «من ناداني»، وهي قصيدة طويلة يختمها بسبعة أبيات يوجهها إلى الملك:

يا ابن عبد العـزيز وانتفـض العز وأصغى وقال: من نـــــاداني
قلت ذاك الجريح في القـدس في سيناء في الضفتين في الجولان
قلت ذاك السجيـــن يقبع في السجن، فراراً من خسة السجـــــان
قلت ذاك الأبي يشـــهـق بالصمت، وترمى أقـــلامه بامتـــــهان
يــا ابن عبد العزيـــز تلك صحـــابي لك منها تحيـــة الرحـــمن
عرفــت فيـــك طلعة من مروءاتٍ، كبـــار وأمنيــــات حســـان
كن لهـــا بســمة العــــزاء فقــــد طال عليها تجـــهم الأحـــزان

     ويتضح من الأبيات إعجاب الشاعر بالملك، فهو العز متمثلاً في إنسان ينتفض مستجيباً حين يناديه أحد. كما يتضح أن المنادين الذين يؤملون في نجدة الملك لهم كثيرون بين جريح بيد اليهود، وسجين بيد الطغيانن وصاحب بيان حر يضطهده باغ متسلط، وهؤلاء جميعاً يحبون الملك الذي عرفوا فيه المروءة والنجدة، فهو جدير بأن يكون لهم بسمة العزاء والنصرة. وهذا كله يدل على مكانة الملك في قلب الشاعر بحيث يراه جديراً بأن يتحمل هموم هؤلاء وأمثالهم.

     وفي مناسبة مماثلة تالية يلقي الشاعر بين يدي الملك فيصل قصيدته «أنا في مكة»، وكما فعل في القصيدة السابقة يختمها بأبيات يتجه بها إليه قائلاً:

يا ابن عبـد العــزيز يا لنــــــداء في مداه ناديـت كل الرجــــــال
طال حلــــم الحـــليم طــال علــى كيـــد العوادي تمـرد الأنــذال
عشت فـي صمتك المدل علـى الحرف؛ غريباً عن كل قيل وقال
لست تسطيع كـتم ما تغــرق الأحــــداث فيه من عــزك الهطـال
شـئت أم لم تشــــأ فأنـت مـــع التـاريخ في موعد يتــيـم المثـــال
الفجاءات في مجالك في الســاح وفي راحتيـك ســر المجــــــال
أنت رنحـت بالعبــاءة عطفيـــــه وعصـــبت رأســـــــه بعقــال
وتركت الأقوام ما بين شـــاك من صدود أو طامع فـي وصــال
لم تهـــادن ولم تـزل تتحــــــدى كل بــاغ أو غـــادر ختـــــــال
قـل لمن شاء راحـة في ضـفــاف النيل من بعد وثبة استبســـال
ليس عاراً إن في النضال عثرنا إنما العار في اجتناب النضـال
ربع حطيـن موحش يا صلاح الدين إلا من ذكريــــات غـــوال
سر بنا صـوبه وصل بنا في القـدس واضرب حرامه بالحــلال

     والأبيات ملأى بالصفات التي يطلبها شاعر محب للبطولة والنبل، غيور على دينه وأمته، متطلع إلى من يدفع عنهما ظلم العدو الغاصب، في ملك يحبه ويرجوه منه أن يحقق تلك الآمال الغالية الكبيرة.

     ففيصل رجل يجمع كل الرجال؛ لذلك يناديهم الشاعر كلهم إذ يناديه، وهو رجل حليم ذو أناة، يؤثر الصمت ويترفع عن اللغو، لكن هذا كله لا يمكن أن يخفي عزه الكبير الذي يعلن عن نفسه وإن أبى صاحبه، لذلك تنتدبه مواهبه كما ينتدبه أمل الناس فيه إلى موعد نادر مع التاريخ لابد أن يؤديه شاء أم لم يشأ؛ يحقق فيه لأمته ما تريد في واحدة من فجاءاته الظافرة.

     وينظر الشاعر إلى الملك فيصل في عباءته الفضفاضة وعقاله المقصب، فيرى صورة آسرة توحي بالقدرة التي تدني، والهيبة التي تقصي، فيطمع من يطمع، ويحذر من يحذر، وصاحبها الصامت يواجه الصعاب، ويصر على تحقيق أمل الأمة في إنقاذ القدس من غاصبيها، وفي أن يصنع لها نصراً كريماً يذكر بنصر صلاح الدين في حطين، لذلك يطالبه الشاعر أن يصلي في القدس بمن معه من المؤمنين،. والشاعر يوفق كل التوفيق في البيت الأخير من هذا المقطع، وهو البيت الأخير من القصيدة أيضاً، إذ يضرب على الوتر الحساس في قلب الملك الذي أعلن مراراً أن أمله قبل موته أن يصلي ركعتين في القدس المحررة.

     وشاء الله عز وجـل أن يختم للملك فيصل بالشهادة، فلما جاء الحج وأقيم الاحتفال السنوي المعتاد وقف عمر لينشد بين يدي الملك خالد قصيدة رائعة في رثائه سماها «أمرك يــا رب»، وهي الجملة الوحيدة التي يروى أنه قالها لحظة إطلاق النار عليه.

     ولعل من المناسب أن نورد ما قاله الشاعر في بعض مقابلاته عن هذه القصيدة، ففيها ما يعين على فهم المناسبة، وما كان بين الراثي والمرثي: من الشخصيات العربية المهمة التي عرفتها عن كثب وصادقتها العاهل السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، فقد كان أعز صديق لدي. عرفته طويلاً من خلال الاجتماعات الكثيرة التي تمت بيننا أيام كنت رئيساً للوفد السوري في الأمم المتحدة وكان هو رئيساً للوزارة. وأيام كان أيضاً مندوباً لبلاده في الأمم المتحدة. كنا نسهر كل ليلة ونتجاذب أطراف الحديث، وعندما أصبح ملكاً استدعاني إلى السعودية لأقول كلمتي في مكة في مناسبة الحج. كانت العلاقة ودية، وليست علاقة سفير بملك، لم تكن علاقة رسمية بل هي علاقة رجل برجل.

     ولما اغتيل ذلك الاغتيال الفاجع، ترك فــي نفسي أثراً بليغاً من الألم، فكتبت ما كتبت عنــه، والشيء الذي لم أستغربه، ولم يستغربه العالم بأسره، أنه لما أطلق الرصاص عليه لم يقل كما هو مألوف أن يقال في مثل هذا الموقف: من أنت؟ يا الله. أمسكوه... أو غير ذلك. بل قال: «أمرك يارب»، واستشهد. هذه الكلمة تدل على عمق إيمانه بمبدع الكون الأعظم، وعلى مدى صدق ذلك الإيمان.

     لقد كتبت قصيدتي «أمرك يارب» على لسانه، وهذا أمر أعتدُّ به، لأنه فتح جديد في عالم الأدب: الميت يتكلم!. ألقيت تلك القصيدة في مكة المكرمة بحضور الملك الراحل خالد بن عبد العزيز رحمه الله، وذلك في الحفلة السنوية التي تقام في مناسبة عيد الأضحى المبارك. والعادة في مثل هـــذه الحفلة أن يلقي شاعر واحد شعره، وكان ذلك الشاعر أنا يومذاك. وقد ألقيت لثلاث سنوات متتالية شعراً عن الإسلام، وعن السيد الأعظم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.

     ألقيت هذه القصيدة في مكة، وافتتحتها مخاطباً الملك خالد: دعيت الآن لألقي كلمتي، ولكن الكلمة التي ألقيها ليست لي، إنها لأخيك، لحبيبك الراحل المقــيم، إنها لفيصل، لقد سمعها العالم بأسره في قوله: «أمرك يارب» في تلك اللحظة التي انتقل بها من عرض الوجود إلى جوهر الخلود. إنها كلمة قوة الإيمان، وإيمان القوة. ما أقل حروفها!.. وما أكثر معانيها وأبعد آفاقهــــا!. إن الإنســـان كما تعـلـــــم، عندما يفاجــأ بحادث رهيـــب، يجفل، يرتعد، يمتقع لونــــه، يصيح. كل ذلك بدافع من طبيعة إنسانيته المتمسكة بالحياة. أما أن يفاجأ بأفجع ما يفاجأ به، ويقول بكل هدوء واطمئنان: «أمرك يا رب»، فهذا حادث وحيد من نوعه في تاريخ الإنسانية. ماذا جال في خاطر الفيصل في تلك الثواني التي عاشها؟ ماذا رأى؟ ماذا شعر حتى قال: أمرك يارب؟ إني الآن أنقل تلك المعاناة بالشعر، لا بالنثر، بالشعر الذي كان رحمه الله كثيراً ما ينصحني بأن أخفف من حدته. وكيف أقوى على ذلك وأنا لا أملك شيئاً من حلمه ورقته، وصبره وحكمته.

     لم أمدح في حياتي أحداً، أما إذا كان رجلاً كبيراً ومات... عندئذ للوفاء وليس للرجاء كنت أقول كلمتي فيه، أما وهو حي، فأبداً لا.. لم يقرأ أحد لي، ولن يقرأ أبداً، قصيدة مديح في شخص حي. هذا الشعر هو الشعر الحـق، والقصيدة هذه شعر أتحــدى به الأدب العالمي.

     من حديث الشاعر ندرك أن بينه وبين الملك فيصل صلة خاصة، وهي صلة تؤيدها شواهد كثيرة، وندرك أن الشاعر لم يمدح أحداً وهو ما يشهد به ديوانه، وهي نقطة مضيئة يحق له أن يعتز بها كثيراً.

     أما رثاؤه للملك فيصل فهو رثاء دافعه الحب والإعجاب والإكبار، وقد تشكل هذا الدافع عبر سنوات طويلة شهد فيها الشاعر من مواقف الملك ما حمله على ذلك. يضاف إلى ذلك أن الملك مات ميتة «تراجيدية» مثيرة كما يموت الفارس فوق صهوة حصانه في ساحة الوغى. مات واقفاً كشجرة السنديان، مدافعاً عن أنبل قضايا دينه وأمته وبلاده، وزاد من عظمة هذه الميتة كرامة الشهادة، وأنه هتف بجملة واحدة فقط هي «أمرك يارب» لحظة الاستشهاد على الرغم من هول الموقف ورهبته. وهذا كله حمل الشاعر ــ وهو العاشق للبطولة والفروسية ــ على مزيد من حبه للملك الراحل.

     تقع القصيدة في اثنين وخمسين بيتاً تدور كلها على لسان الملك الراحل، في استبطان عميـــق ــ وفق فيه الشاعر ــ لنفسيته وحيـــاته وإيمانه وتسليمه وآماله التي حققها، وأمله الذي لم يحققه، وهو الصلاة في القدس المحررة.

     تبدأ القصيدة بالاستسلام التام لأمر الله عزوجل:

يا رب أمـــرك هــــذا لا أطيـــق له     رداً فأمـــــــــــرك يا ربـي تـولاني

     ويلي هذا الاستسلام تساؤل عما جرى، فهو أمر جلل، ترى أهو الموت الذي طالما كان قريباً منه!؟.. وهو يخوض غمرات الجهاد تحت راية أبيه أيام توحيده للمملكة لكنه كان ينأى عنه كأنما كان يخشاه:

من أين أي دوي عاصــــــف عشـيـت     عيناي من وقعــــه واهــتـز بنيـانــــي
كم فضت الحرب في سمـعي نظائــره     وعفـــــرت بغبــــار البــيد أردانـــــي
وكم مشى الموت في دربي وأوسع لي     مجـال خطوي أكان الموت يخشانـــي

     ومن كوى الغيب الذي يطل عليه الشهيد يرى طيوف شهداء عظام ترحب به وتتلقاه بالبشر وكأنها تربط على قلبه وتطمئنه إلى ما هو قادم عليه:

أرى طيوفاً أراها حــولي انتشــرت     أرى التفــــاتتها بالبـــــشر تلقــــاني
هذا عـليٌّ أبو الأبطال ذا عمــــر الـ     ـفـــــاروق ذلك عثمـــان بن عفـــان
هل طالعوني عزاء لي وهل شعروا     أن شأنهم عند أعراس الردى شـأني

     وكما تطالعه طيوف هؤلاء الشهداء يطالعه طيف أبيه يشير إليه على عجلن ويرمقه بشوق وحنان وكأنه يدعوه إلى اللحاق به:

وذاك طـــيـف أبي عبد العزيز وفي     عينيه ومضـــان من شــوق وتحنان
أشـار لي ومضى عجــــلان أحسبـه     رأى على القرب مني نعش جثماني

     ويا طيبها ميتة رائعة يحف صاحبها البشر والرضوان، وطيوف شهداء عظام، وطيف أب بطل، ميتة تتحول إلى عرس بهيج!

     ويتساءل الراحل عما أصابه وهو في بلد آمن بين أهله وإخوانه، عم فيه الخير والفضل، فلا قتال ولا أشواك ولا أحقاد، بل حب وسلام وبذل للمعروف وسعي في قضاء حوائج الناس؟ إن يكن هو القضاء المحتوم الذي ينقل الناس جميعاً إلى الدار الآخرة فمرحباً به، وإن تبق حسرة في هذه الدنيا فلأن أمنية نبيلة هي الصلاة في القدس المحررة لم تتحقق:

لي بعد يا رب من دنـيـــــاي أمنيــــــة     تقتـــات بالوعــــد منـهـا كل أشجــاني
جرعــت ما بي لنعمى يوم موعـدهـــا     ويــوم موعدهـــا استـــأنى وجافـــاني
أردت أختــم فيها العمـــــر مقـتحــــماً     أحقــاد حطين في مضمارها الـثـــاني
وأن أصــلي وكف القدس تحــــمل لي     رضاك في المسجد الأقصى وترعاني
ما كـــان أكرمهـا في العمــــر أمنيــة!     ما كنـت أحســـــبها تمضي وتنســاني

     وينظر الراحل إلى ساسة الأمة فيرى أحلامهم تافهة، وعزائمهم خائرة، قادتها إلى الهوان والذل، مع أنهم ينتمون إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يهادن الظلمة والطغاة.

     على أن ثقته بأصالة أمته يرد إليه اليقين بأن عهد القدس لن يضيع، وأنها سوف تسترجعها محررة من الصهاينة الغاصبين، وأنه يكاد يلمح الأبطال الذين سيكون لهم شرف التحرير، ومن بينهم خالد بن الوليد:

يا رب ما ضـاع عهد القدس إن له     قومي الأبــاة أعـــادي كل عـدوان
أمــــانة لك لن يرمـــــوا بحرمتها     ولن يجــروا عليهــا ذيــل نسيــان
أكاد ألمحهـــم في ظــل مسجـدهـا     وخـــالد مـــن سنــا محـــرابه دان

     ويعود الراحل لمناجاة ربه مناجاة تفيض بالإيمان والتقوى، والتسليم التام له تسليماً راضياً مليئاً بالسكينة والطاعة، ويضع بين يديه الكريمتين ما قام به من جهود لإعلاء كلمته وإعزاز دينه. وينهي القصيدة بهذين البيتين الرائعين يصور فيهما سفينة عمره، وهي تطوي شراعها، وتنتهي رحلتها:

يا رب ما حل بي جرحي يسيل على     شراعها رعشــة الإعيــــاء تغشانـي
يا رب حسبي وأنت الآن مغــــرقهـا     إن قيــــل أغرقــــت فيها خير ربـان

     لقد حققت القصيدة الوحدة الموضوعية، كما حققت الوحدة العضوية. فجاءت نسيجاً محكماً في دقة وانسجام وتناغم، واستبطن فيها الشاعر أعماق المرثي وتاريخه، وجهاده في توحيد المملكة، وجهاده في الدعوة للإسلام، وحرقته على الأمة، ويقينه بأصالتها وقدرتها على الثأر، وأمنيته الكبرى في الصلاة في القدس المحـــــررة، وإيمانه العميق بالله عز وجل ورضاه بمايصنع لــــه ويختار، وأجرى ذلك كله على لسانه وأنطقه به، فكانت قصيدته قصيدة رثاء متفــرد، مما يجعلنـــا لا نستغرب دعـــواه فيها إذ يقول عنهـــا: والقصيدة هـــذه شعر أتحدى بــــه الأدب العالمي.
❊❊❊

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة