إبــاء وكـبريــاء
كان قامة شامخة شكلاً ومضمونـاً. حرص الأستاذ عباس محمود العقاد -رحمه الله- كثيراً على أن يعثر على ما سماه «مفتاح الشخصية» التي كان يدرسها، لأنه كان يرى في هذا المفتاح الصفة المتفردة لها من ناحية، والمفسرة لبقية خصائصها من ناحية أخرى.
ومهما واجه هذا المصطلح من اعتراضات يظل مصطلحاً جديراً بالاحترام، ويمكن للدارس أن يطبقه على عدد من الشخصيات، فينتفع به انتفاعاً كبيراً في تحليل دوافعها وفهم سلوكها.
وإذا أردنا أن نطبق هذا المصطلح على الشاعر الكبير «عمر أبو ريشة» صح لنا أن نصفه بأنه «شاعر الإباء والكبرياء»، فالإباء هو الصفة المتفردة فيه والبارزة بشكل حاد لتكون أوضح من سواها ومفسرة له.
كان أبو ريشة شديد الإباء، وكان الإباء مفتاح شخصيته العاشقة للبطولة، المتطلعة للشموخ، المعجبة بالرجولة والفروسية، النزاعة للمعالي والأمجاد، المتمردة على الذل والهوان والقيود.
وقد تولد فيه هذا الإباء المحمود من اعتزازه بأسرته التي ينتمي إليها، وهي أسرة ذات مكانة دينية واجتماعية، ومن أمته التي كان شديد الغيرة عليها كثير الفخار بها، ومن موهبته الشعرية التي كان يعرف قدرها حق المعرفة، ومن ولعه الشديد بالحرية، وقبل ذلك كله وبعده من إسلامه الذي كان يعتز به أيما اعتزاز، والذي مجده أيما تمجيــد.
من أجل ذلك عاش أبو ريشة وهو شاعر الإباء، حياة تليق في الغالب بهذا الإباء، لم ينافق أحداً، ولم ينحن لطاغية، ولم يمدح أحداً، بل على العكس فقد هاجم بعض الحكام وهم في صولجانهم، وهاجم الاستعمار وهو في عسفه، وكانت له مواقف في غاية الجرأة صارت حديث الناس.
❊❊❊
كان عمر أبو ريشة قامة مرتفعة شكلاً ومضموناً، كانت قامته الجسدية طويلة طولاً بائنـاً، وكانت قامته المعنوية كذلك طويلة طولاً بائناً، لقد رد للشعر قيمته، ورد للشاعر احترامه، ترفع به عن مكانة النديم، فضلاً عن مكانة البوق والتابع والأجيـر، واستشرف به ــ مشكوراً محموداً ــ آفاق الريادة التي تجعل حيزاً مهماً منه يبدو بقوة وكأنه رسالة إصلاح ديني ووطني.
انظر إليه في تطلعه الحار إلى المجد:
آليت ألا أنـثني عـــــــن مدى يجــــأر فيه كـــبري الأوحــد
ما أرخص المجــد إذا زارني ولم يكن لي معــــــه موعــد!
واسمع منه هذه الأبيات التي تكاد تنتمي إلى عالم المتنبي وشعره المعتز المتمرد الشامخ:
معاذ خلال الكبر ما كنــــت حاقــداً ولا غاضباً إن عاب مسراي عائب
فكم جبل يغفـــو على النجـم خــــده وأذيـــــاله للسائمــــــات ملاعـــب
نظرت إلى الدنيـا فلم ألف عندهــــا كبيراً أداري أو صغــــيراً أعاتــب
وما هان لي في موقف العز موقف ولا لان لي في جانب الحق جانــب
فيا غربة الأحرار ما أطول السرى وملء غيابــــات الدروب غـياهب!
ولعمر أبو ريشة قصيدة مشهورة اسمها «نسر» كان حفياً بها، كثير الإنشاد لها، وهي تحكي قصة نسر اضطر لمغادرة وكره في قنة الجبل ليعيش مع بغاث الطير في السفح تعابثه وتدافعه، وتنازعه حتى لقمة عيشه، فنقم على هذا المصير الذي آل إليه، وفضل أن يموت في وكره عزيزاً جائعاً، فاستجمع بقايا قوته الغاربة وطار إلى الأعالي حيث سقط جثة هامدة في وكره المهجور.
وبعد أن يروي لنا أبو ريشة هذه القصة كاملة، يسأل النسر في البيت الأخير قائلاً له:
أيها النسر هــل أعود كما عـــــدْ تَ أم السفح قد أمات شعـوري!؟
إنه رأى في النسر صورة نفسـه، وتمنى أن تكون له روحـه العزيزة المتطلعة، حتى تنأى به عن كل هوان أو ذل أو نقيصة، ولقد حرص دائماً أن يظل نسراً، وقد كانت حياته ومواقفه في جملتها محاولة للتشبث بمكانة النسر، وهي محاولة أصاب فيها حظاً طيباً من النجاح.
وإباء الشاعر يجعله يتعالى على الجراح، ويهزأ بالصعاب، ويظل مبتسماً وإن كثرت الخطوب:
رب ضاقت ملاعبي في الدروب المقيدة
أنا عمر مخضب وأمـــان مشــــــــــردة
ونشيــد خنــقت فـي كبريــــائي تنهــــده
رب مازلت ضارباً من زماني تمــــرده
صغر اليـأس لن يرى بين جفني مقصده
بســـماتي سخيـــة وجــراحي مضـــمدة
❊❊❊
وتجمعه الأقدار ذات مرة بإسبانية حسناء تكون رفيقته في طائرة مسافرة إلى تشيلي، فيتجاذب معها أطراف الحديث، ويُسَر بذكائها وثقافتها فيسألها عن قومها، فتمضي تعتز بأجدادها العرب ومروءتهم، وحضارتهم المشرقة في الأندلس، ثم تسأله بتحد وثقة أن يخبرها عن قومه إذا كانوا أكرم من قومها!؟، فلا يجد إلا الصمت الذي يصوره البيت الأخير من القصيدة أحسن تصوير:
أطـــرق القلــب وغامــت أعيني برؤاها وتجــــــاهلت الســـــؤالا
لقد حمله إباؤه على الصمت إذ لم يجد ما يقوله، وحاضر قومه المظلم يناقض ماضيهم المشرق الذي اعتزت به الحسناء. والقصة حقيقية على ما سمعه الأستاذ الشاعر زكي قنصل من عمر أبو ريشة نفسه، في سياق حديثه عن ذكرياته معه التي مر بنا طرف منها من قبل.
❊❊❊
وحين تستقل سورية عن فرنسا ينظم واحدة من أشهر قصائده، وهي «عرس المجد» يختمها بهذه الأبيات التي تدل على إبائه وعنفوانه من ناحية، وتدل على معرفته لقيمة شعره في دفع حركة الجهاد الوطني ضد العدو من ناحية أخرى:
يا عروس المجـــد حسبي عــزة أن أرى المجـــد انثنى يعتز بــي
أنا لولاه لمـــــــا طـــــوفت فــي كل قفـــــــــر مــترام مجـــــدب
رب لحــــن ثار عــــن قيثـارتي هـــز أعطاف الجهــــاد الأشيب
لبـــــلادي ولــــــــرواد السنــــا كــل مـــــا ألهمــــــتني من أدب
وحين يخرج من السجن يلقي قصيدته الوطنية «هذه أمتي»، فنرى فيها معرفته لقدر نفسه واعتزازه بمكانته، فالخلود يصغي إليه إذ يلقي شعره، والحياء يمنع دمعة عينه من أن تسيل لما يرى في أمته وبلاده من أرزاء:
يا بلادي ناجاك من وقف الخلــ ـد، وأصغى إلى صـدى تحنـانهْ
كاد أن يرخص المدامع في الأر زاء، لولا الحيـــــاء من إيمــانه
وتعظم نفس الشاعر في عينه، فتحمله على المبالغة التي تجعل الملوك من ندمائه لو أنه رضي بالشكوى، وكيف له أن يشكو وبينه وبين المجد عهد أن يمر على الأرض وإباؤه يمنع شكواه ويحبسها خلف لسانه؟ ومهما اشتدت الصعاب فلن تقدر على العبث أو النيل منه، وإذا مات وهو ظمآن فإن شعره سيظل للأجيال نوراً ونبراساً:
شاعـــــر لو شكا الحيـــاة لكانـت ســـروات الملــــوك من ندمــانه
أقســـم المجـد أن يمـــر على الأر ض، ونجوى الإباء خلف لســـانه
فالعبي يا عواصف الدهـر ما شئـ ـت، فــلن تجرحيه فـــي وجـدانه
رب شاد علـى الظمـا أســلم الـرو ح، وروى الأجيــــال نبع بيــانه
وفي قصيدته الطويلة «خالد» يطالعنا إحساسه بمهمته الريادية التي تجعله يأبى كل الإباء أن يسكت حيث ينبغي أن يقول:
يا مـسجى في قبــة الخـــلد يا خـا لد هـــــــل مـــن تلفــــت لبيـانـي
لا رعاني الصبا إذا عصف البغـ ـي، وألــفى فمي ضـريـح لسـاني
أقسـم المجـــــــد أن أقطــــع أوتا ري عليــه بأكــــرم الألحـــــــان
وحين تقام حفلة في ذكرى الزعيم إبراهيم هنانو، ينظم قصيدة باسم «قيود» يختمها بهذين البيتين اللذين يشهدان بعزته وإبائه وريادته:
أنا عند عهـــدك لا تلــين شكيمتي كلا ولا يعــــزى إلــي عـــــــثار
لا عشت في زهـو الشبـاب منعماً إن نال من زهـــو الشبــاب العار
ومن أبياته الرائعة هذا البيت الذي يفيض بكل معاني النبل والإباء والفروسية:
تقضي البطولة أن نمد جسومنــــا جسراً فقـــل لرفاقنــــا أن يعـبروا
وفي قصيدته «عنفوان» يتحدى الصعاب والخطوب، إذ يرى نفسه صخرة صماء تظل راسية ثابتة مهما واجهت من مخاطر:
لم ترتشـــف دمعي شفـاه الهوان
ولم ينــاد المجــــد هذا جبــــــان
فاعصف فإني صخـرة يا زمـان
❊❊❊
وإذا عثر عمر أبو ريشة لسبب أو لآخر فإنه يظل دائماً قادراً على النهوض وتجاوز المحنة، فلا يستطيع الخور أن يشمت به، وإذا أضر به الحرمان ابتلع مرارته في صمت يستر ما وراءه من غصة:
فكم عــــثرنا ولـم تعـــــثر إبـــاءتنــــا وكم نهضنــــــــا ولم يشمت بنا خــور
وكم لدى صلف الحرمان من غصص نمنــا عليهــــــا ولم تكشف لنـــا ستــر
وحنجرته تغص بالشكوى لأنه يكتمها مع جراحه التي تنز، وإباؤه يحمله على اقتحام المخاطر تحدياً للموت وإغضاباً له:
لأنت تعلم كم نــــزت جوانحنا إذا حناجـرنــا غصت بشكوانا
تلك الغياهب لم نهتك ستائرها إلا لنترك فيها الموت غضبانا
وهو ومن معه من أبطال الجهاد يواجهون الموت، ويتحدونه ليكونوا شعلة المواجهة الدامية:
مشوا للموت فارتجفـــت يــداه حياء من إبــــاءتهــم وحقـــــدا
فكانوا الصرخة الأولى وكنـــا على أصدائها الحمــراء وقــدا
❊❊❊
وربما حمل الشاعرَ إباؤه على الإخلال بأعراف لابد من مراعاتها كقوله فيما رواه يخاطب الأمير عبدالله بن الحسين:
إن عقداً أصوغــــه من سجا ياك ترف العلياء في تذكاره
لك منـه ما تنتقي ولجيــد النَّـ ـجم؛ ما تستحق من أحجاره
فقد تحول إلى مادح لنفسه في موقف لا يسمح بذلك، وهو أمر لم يكن ليفوت الأميرن فقد كان شاعراً وراوية وذواقة، فقال لمن حوله مستنكراً: إن عمر أبو ريشة إنما يمدح نفسه.
بل ربما حمل الشاعرَ إباؤه على اعتزاز فيه شطط ومبالغة، كهذا الذي نراه في هذه القطعة البديعة التي يفضل فيها أن يكون سيداً في الجحيم على أن يكون عبداً في موئل الحق، والتي كان كثيراً ما يقول: إنها تمثله أحسن تمثيل:
سفر عمري هذا فما من جديـد أتمنى عليــه محــــــو القـــديم
هكذا شئت أن أمر بدنيـــــــاي ولا من يرى ضمــــاد كلومي
أنا ذاك العملاق ما عبث الحـــزن بدمعي ولا الأسى بهمومي
اهـدئي إهدئي فإنيَ راض عن مصيري في الغيهب المحموم
لن تريني في موئل الحــــق عبـداً في نعيم بل سيداً في جحيم
وإباؤه يحمله على شطط آخـر في هذه الأبيات التي تفيض اعتزازاً وفخاراً وتوقد عزيمة:
ورأوني ألمُّ شعـــث جنــاحيَّ وقد جرَّحا صدور السحـاب
فمضوا يسألون هل لان عودي وخبت عزتي وذل شبابي
خسئ العيــش لن أقـــابل وجه الله إلا وفي يميني كتـــابي
❊❊❊
ولما رثى عمر أبو ريشة صديقه الأخطل الصغير، أشاد بصبره على الآلام وكتمانه لها أمام زائريه ليموت واقفاً كما تموت الشجر:
وأنت تكتم عنهـــم ما تكابـــــــده تموت وهي علـى أقدامهـا الشجر
إن هذه الميتة العزيزة أسقطت نفسية عمر أبو ريشة على الأخطل، فهو الجدير بأن يموت عزيزاً كالشجر، ولعله نال ذلك فمات ــ رحمه الله ــ عالي القامة، شامــخ الهامة، موفور الكرامة، وكأنه يغني وهو يحتضر، مثله مثل طير الإوز الذي زعموا أنه لا يغني إلا ساعة موته، والذي قال فيه قطعة جميلة ختامها:
لا تســـأليني ما ترجــــوه أغنيتي بعض الطيور تغني وهي تحتضر
لعل الشاعر الأبي كان شجرة تموت واقفة، وطير إوز يموت مغنياً، ولا غرابة فهو الذي قال عن نفسه في قصيدته «كبرياء»:
لنا كبرنا كم طال في التيه دربنــا وكم نفضت أقدامنـــــا من غباره
وقوفاً يرانا الموت نخفي جراحنا وليس يرانا ركعاً فـي انتظــــاره
❊❊❊
وكان عمر أبو ريشة محباً للملك فيصل بن عبدالعزيز كثير الثناء عليه والإشادة به، وكان الملك فيصل يدني الشاعر ويقربه ويعلي من مكانته، لذلك كان عمر أبو ريشة أنشط ما يكون وأزهى ما يكون في فترة اتصاله به كما قالت زوجته منيرة محمد مراد، وكان يزداد نشاطاً وزهواً إبان مواسم الحج حيث يقام الاحتفال السنوي المعتاد لتكريم وفود الحج، وتلقى الكلمات، وتنشد القصائد، فإذا جاء عمر أبو ريشة كان سيد الموقف بسبب شعره الرائع، وبسبب إلقائه البــديع المتفــرد.
ومع ذلك كله، ومع الفارق الكبير بين موقع الملك وموقع الشاعر، كان عمر أبو ريشة يخاطب المليك الذي أحبه بطريقة تذكر المرء بخطاب المتنبي لسيف الدولة، وهي طريقة يعرف فيها المتنبي مكانة سيف الدولة ومكانته هو، وكذلك كان عمر أبو ريشة. انظر إليه وهو يقول لفيصــل:
يا فيصلاً للحـــــــق يــــــــا علـــم الكــــرامة والإبــــاء
أنا من عرفت مـــن الرجــا ل المؤمنـين الأوفيــــــــــاء
أو ما حمــــــــــلـت إلي من دنيـــاك نعمــاء الســـــمــاء
وسكبت في روحي من الـــ إيمان ما أبـــلى شقــــــــائي
وتركتني وحــــــــــدي ورا ء خطــــــاك مرفوع اللواء
يا فيصــــلاً للحـــــــق بــيـ ـن، يديـــك سفر من ولائي
هـو للوفــــــــاء جمعتــــــه ونشرتـــــــه لا للرجــــــاء
❊❊❊
لقد ظل أبو ريشة والإباء، صنوين مقترنين طيلة حياته العريضة، لم يفترقا لا في أيام الشباب ولا في أيام الشيخوخة إلا نادراً نرى مصداق ذلك في نموذجين من شعره يمثل كل منهما مرحلة من حياته.
الأول: نجده في أبياته التي قالها في المتنبي عام 1935م، أي عندما كان في حدود الخامسة والعشرين من عمره، ووصف فيها نفسه من خلال وصفه للمتنبي:
غمر العرب سحره الفاتن الـبـكـ ــر، وناداهـــــــم بخــير نـــــداء
فيه من غضبة الإباء على الضيـ م؛ وفيـــــه من بسمــــة العـليــاء
يحبس الدمعــــــة التي سكبــتهـا في سخــــاء محـــاجــر البؤسـاء
صقـلتــــــه أنامــــل المتـنـــــبي فــإذا الشعــــــر مستـفــز الأداء
بدوي ليـــن الحضـارة في بــــرْ دَيْـه؛ نـــاجى خشـونة البيـــــداء
حضنتـــه العلياء طفلاً وكهــــلاً وغـذتـــه بأكـــرم الأثـــــــــــداء
فتهـادى يختــــال في ظلـمة الأرْ ض؛ وعينـاه في ذرى الجـوزاء
عــــزة تدفع الجبـان إلى الـثــــأ ر؛ فيمضي للغـــــارة الشعـــواء
وطموح مجنـــح يــتـــرك النسْـ ــر، كـسيحــاً في زحمة الأنـواء
عرفـت روحــه السـراب ولكـن خادعت روحه بـروق الرجـــاء
يطــأ الشــوك في دروب أمانيــ ــه، ضحوكاً من غائــل الأرزاء
إنمــا ضــــلَّلت خطــاه الليـــالي والليـــالي عــــداوة العظمـــــاء
إن هذه الأبيات هي صورة عمر بريشة عمر نفسه، فقد نظر إلى المرآة كما ينظر الفنانون إلى أنفسهم، ورسم نفسيته وروحه كما يقول الدكتور سامي الدهان. وإذن فإن ما في الأبيات من إباء وطموح وخشونة واختيال وعزة وصبر على المكاره إنما هي صورة المتنبي وصورة عمر في آن واحد.
أما الثاني: فنجده في أبياته التي قالها في أواخر عمره، والتي نجده فيها مع السن والتشرد والغربة والإحباط لايزال أبياً ومقاتلاً وعنيداً وصاحب فخار عريض وعزة لا تنتهي:
جئــت الحياة فما رأتني زاهداً في خوض غمرتها ولا متـرددا
إني فرضت على الليـــالي ملعبي وأبيت أن أمشي عليه مقيـدا
يــا غربتي كم ليلة قطعـــتها نضو الهموم على يديك مســـهدا
أطمعتني في كل حلم مترف وضربت لي في كل أفق موعــدا
فوقفت أقتبل الرياح وما درت من كان منا العاصف المتـمردا
ومضيـــت أنتعل الغمـــام وربما أشفقت خدَّ النجم أن يتجعــدا
وأطلت في التيــه المشت تنقلي وحملت ما أبلاه فيَّ وجـــــددا
ورجعت أستسقي السراب لسروة نسيت لياليها حكايات الندى
فكـــأنما المجد الذي خلـــــدته لم يكـفهـا فأردت مجداً أخــــلدا
ما أكرم الوتـــر الذي أمسكته! لأجر أنفـــــاسي عليه تنهــــدا
وللأبيات قيمة فنية عالية، وقيمة معنوية أعلى، وهي دليل على ارتقاء صنعة صاحبها مع الزمن، ودليل على احتفاظه بإبائه وعنفوانه، هذا الاحتفاظ الذي ظل هاجساً ملحاً من هواجس الشاعر والذي يمكن أن تجد آثاره في مراحل حياته جميعاً، قبل النموذجين المذكورين، وما بينهما، وما بعدهما.
❊❊❊
وكما شهد شعر عمر أبو ريشة بإبائه وكبريائه، يشهد له دارسوه وعارفوه وتلامذته وأصدقاؤه بذلك، والشهادات هنا كثيرة جداً نختار بعضها.
يقول الأستاذ عبدالله يوركي حلاق، وهو أديب من حلب مدينة الشاعر، وتلميذ له، وصديق له أيضاً: أحببت عمر أبا ريشة حباً صادقاً، وأمضيت بصحبته أطيب أيام الشباب تحت سماء حلب، التي نشـأ فيها، وأحبها كما أحبته، وألقى من على منابرها أشهر قصائده الوطنية والاجتماعية والغزلية، فما رأيت أعف منه نفساً، ولا أصدق منه عاطفة، ولا أرق منه قلباً، ولا غرو؛ فالشعر مرآة روح الشاعر، وصوت فؤاده، وهمس وجدانه، وشعر عمر حافل بكل ما يمتاز به من نبوغ وجرأة ومروءة وشمم وإباء. إنه شاعر مثالي شجاع، لم يخف قوياً، ولم يتملق ثرياً، ولم يمجد غير البطولات والمروءات. ولو أراد لمشى إليه النضار، ولتدفقت تحت قدميه ينابيع الـغنى، ولكنه خلق عزيزاً أبياً، فيه من الإنسانية أكرم هباتها، وأمتن مقوماتها، وهاهو يصف الشاعر، وكأنما يصف نفسه:
غمزته عرائس العيش إغرا ءً؛ فلم تستبح حمى عنفـوانه
شاعر لو شكا الحيــاة لكانت سـروات الملـوك من ندمانه
أما الأستاذ محمد مصطفى درويش فيقرر أن كبرياء عمر أبو ريشة غدت مضرب المثل في زمن التصاغر وإراقة ماء الوجوه، وأن عمر أبو ريشة في شعره ومواقفه رد الاعتبار لكلمة شاعر في دنيا العرب.
أما الأستاذ ياسين رفاعية فيقول عنه: كنا نشعر ونحن نلتف حوله أننا أمام أمير وفارس من نبلاء القرون الوسطى.
وأما الأستاذ نجدة فتحي صفوة فيقرر أن عمر أبو ريشة كانت شخصيته تجسيداً حقيقياً لشعره، وأنه من الشخصيات النادرة التي تطابقت لديها الصورة مع الحقيقة، وأنه كان شامخاً في أبياته مثل شموخه في أدبه وثقافته، وأنه كان متواضعاً دون تكلف معتزاً بنفسه في غير تعال.
ولقد كان عمر في العقد الأخير من عمره محزوناً ضيق الصدر، قل شعره، وضعفت صحته، ومات الكثيرون من أترابه، وأخذت الأضواء تنصرف عنه، لكنه مع ذلك ظل أبياً يكتم ما يجد حتى عن أقرب الناس إليه كزوجته مثلاً.
يروي الأستاذ أكرم زعيتر وهو من أصدقاء الشاعر القدامى هذه الحكاية ذات الدلالة البالغة، على إباء عمر وحساسيته المفرطة في بعض الأحيان. فيقول: وذات يوم اعتمرت دار الشاعر فلم أجده، ولكن عقيلته السيدة «المنيرة» بالغت في الترحيب بي. وآثرنا انتظاره في مكتبه الذي كان متحفاً يزدان بالأوسمة التقديرية من رؤساء الدول التي كان سفيراً فيها، وبالرسائل بخط كبار الساسة، وأعاظم الأدباء، وأعربت عن افتخاري بما شاهدت وتنويهي بعبقرية شاعرنا الأكبر، ولكن السيدة «المنيرة» همست في أذني: ولكن عمر يا أخي أكرم «مهموم» هذه الأيام، ولا تغرنك هذه الابتسامة التي لا تفارق محياه، ولست أرى مسوغاً لهمومه، فحاله جيدة، ومنزلته رفيعة، وقد زوج ابنته وولديه، إنه لا يبثني شكواه، وأنا لا أسـأله لأنه شديد الحساسية ويكتم آلامه، ويتضاءل إنتاجه. وقد يتعصى عليه القول، وقد شرع بنظم قصيدة منذ شهر ونصف الشهر ولما يكملها.
وجاء عمر فأضفى على المجلس من بشاشته ما أضفى. والتمع في خاطري أن نقيم أمسية شعرية في المركز الثقافي الإسلامي أشبه ما تكون بالمهرجان التكريمي، لعمر فحبذت السيدة المنيرة الأمر حرصاً على «معنويات» زوجها.
وكان لنا ما نريد، فقد احتشد المركز بالأدباء، وكان حسبنا أن نعلن أن الأمسية الشعرية لعمر أبي ريشة حتى يؤمها الجم العديد من أهل الأدب والفكر والعلم والسياسة.
وقدمت للأمسية مرحباً بالحضور، منوهاً بعبقرية الشاعر، وتعمدت أن أفصل القول في عبقرية الشاعر، وأن أتحدث عن شعره، ثم نددت بمحنة الشعر وما أطلق عليه زوراً بالشعر الحديث المطلسم الذي تشنؤه القرآنية وتلعنه العربية، وقد عصم الله منه فارس البيان شاعرنا الأكبر شاعر العربية عمر أبو ريشة، ورددت قول شوقي:
والشعر صنفـــان فباق على قـــائله أو ذاهب يـوم قيـــل
ما فيه عصري ولا دارس الدهر عمر للقريض الأصيل
وها هـــو ذا عمـــر:
بشاشته لذة في العــــــيون ونغمتــه لــــذة فــي الأذن
ووقف أبو ريشة يرد التحية بأبلغ منها، ويقول: وعاد صديق العمر ليقدمني إليكم كما فعل في الماضي بوحي من نبله وكرمه، ولكنني أعود لأؤكد أنني عند قولي بعد أن تخليت وتخلت عني جميع المناصب التي كنت أشغلها:
راض بمطافي مجــروح الــ ــقدمـين أســـير بكل إبـــــاء
لا تسمــع لي شكوى ضجــر لا يبــصر لي وجه استحياء
أقســى أعبـــــــائك يا دنيـــا عبء الإفــلات من الإعيـاء
وأنا على هذا الحال كما ترون من التمرد والضياع يصر صديق العمر علي ويقذف بي إلى هذا المنبر لأتكلم!
أتكلم؟ ماذا أتكلم!؟
أقلامي جـــف عليهــــا الـــدم ولهاتي سالــــت في المــــــأتم
وبقايا أحــــــلامي انتشــــرت وعلــــى أجفـــــــاني تتحطــم
أتكلم ماذا أتكلم؟
هل أحمل في صدري أسراراً أخشــــى أن تفشى أو تـكـتـــم
إني لا أحمل غـــــــير العـــار في الــدرب الموحش والمبهم
إني رجـــــــــل صحبـته الآلا مُ؛ فكيـــــــف عليهـــــا يتـألم
وحكاية الأستاذ أكرم زعيتر بالغة الدلالة على إباء الشاعر بحيث لا يبث شكواه حتى لزوجته، وبحيث يختار حين يقف للإنشاد شيئاً من شعره الذي يحمل أعظم معاني العزة والترفع واحتمال المكاره دون شكوى أو ضجر، وأنى له ذلك وهو الذي صحبته الآلام، فيكف يتألم عليها؟
ونجد عمر أبو ريشة ــ محمولاً بإبائه وكبريائه وبإحساسه أنه شاعر ذو رسالة لا بد أن يؤديها ــ يأسى أسى شديداً لأن الظروف لم تعد تسمح له بالقيام بمهمته الريادية الوطنية، فيقول محزوناً مقهوراً: كنا في الماضي البعيد نجرؤ على البــوح حاملين الكلمة الحق إلى جانب الحديد والنار وفي مواجهتهماز أما اليوم فلا أجــد مكاناً للكلمة بعد أن احتل الحديد والنار مساحة الوطن ومساحة الزمن.
بل إنه ليحزن حزناً أشد لأنه لم يعد يملك مجالاً للقتال، ولم يعد هناك من يحاربه مع أنه خنجر مرهف، فكأنه مقاتل معطل، فيقول: أنا خنجر ليس لي مجال للمشاغبة، ولا مجال للقتال، ولا مجال للنقد، ولا يوجد من يحاربني.
❊❊❊
وبعــد: فلا يستطيع أحد أن يدعي أن عمر أبو ريشة ظل دائماً حيث يدعوه إباؤه وكبرياؤه، فقد كان بشراً فيه ضعف البشر، وفيه عجز البشر، ولذلك كانت له هفوات لا تليق بـــه، لكن الإنصاف يقتضينا أن نقول: إنـه عاش معظم حيــــاته ــ شعــراً ومواقـف ــ حيث يدعوه إباؤه وكبرياؤه، وإن صورة الفارس العربي النبيل استولت عليه، وحاول أن يكون نموذجاً من نماذجها، وأدرك من هذه المحاولة حظاً بعيداً من النجاح، وحسبه أنه لم يمدح أحداً قط، وحسبه أن احتل بمواقفه الوطنية حيزاً مذكوراً في سجل الشعر العربي، وحسبه أنه كان قامة شامخة مادة ومعنى.
❊❊❊
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق