مواقــف جريئـــة
كان أجرأ الشعراء في جيله. معرفة الدارس لنفسية الشاعر تعينه على فهم مواقفه، لأن هذه النفسية ستترك آثارها على هذه المواقف فيما يحمد وفيما يعاب، فالشاعر الجبان ستظهر آثار جبنه، والشاعر الشجاع ستظهر آثار شجاعته، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
وحين نطبق هذه القاعدة على عمر سنجد الكثير من مواقفه الجريئة النابعة من نفسية جريئة، فقد كان كما تبين لنا لدى الحديث عن إبائه وكبريائه شاعراً عزيز النفس ميالاً إلى التمرد مولعاً بالحرية، لا يرضى لا لنفسه ولا لأمته الذل والقيود والهوان، ويظل يستشرف لهما آفاق المجد والحرية والحياة الكريمة العزيزة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وقد أدت جرأته ــ فيما أدت إليه ــ إلى بروزه شاعراً وطنياً جهير الصوت ينأى بنفسه أن يعيش حبيس اهتماماته وتطلعاته الخاصة فحسب، فغنى للوطن، بكى لأحزانه، وطرب لأفراحه، ورثى شهداءه، ومجد أبطاله، ونظم في تاريخه المجيد روائع شعره، وأشاد بالبطولة والرجولة والفروسية والمروءة والكرم والنجدة، وبكل ما أثر عن أمته من هذه الصفات النبيلة، أشاد بها لإعجابه بها، وهو من بعض جوانبه يمثل شخصية الفارس، وأشاد بها أيضاً لأنه يريد من شباب أمته اليوم أن يتحلوا بهذه الصفات التي تمثل أكرم ما في الإنسان من معان.
لذلك كان عمر شاعر منابر من الدرجة الأولى لجرأته واهتماماته العامة وشعــره الرائع وإلقائه المتفرد، يروي الأستاذ عبدالله يوركي حلاق، وهو من حلب مدينة الشاعر وأحد تلاميذه ومحبيه شيئاً عن ذلك فيقول: وراح عمر ينشد خرائده البكر، في الحفلات القومية، فيهز المنابر، ويخلب الألباب، ويقيم الحفل ويقعـده، وكان يؤثر تأثيراً سحرياً عجيباً في سامعيه وعشاق أدبه، فبنبرة من صوته الجهـوري، أو بنظرة من وراء نظارتيه، كان يدفع الأيدي إلى التصفيق، والحناجر إلى الهتاف. وكثيراً ما دفع مستمعيه إلى التظاهر ضد الانتداب والمنتدبـين. كان يقول الحق، ويدافع عن الحق، دون أن يخشى لومة لائم، أو يخاف سطوة ظالم. فالشجاعة النفسية فيه تحدوه إلى الصراحة، وتجعله ينتقد المفسدين، ويثور كالبركان على المستبدين الغاصبين.
هذه الشجاعة التي تحدث عنها الأستاذ عبدالله يوركي حلاق جعلت من عمر شاعراً جريئاً وسياسياً مقاتلاً، وجعلت له في كل ميدان قنبلةً، وفي كل معركة غنيمةً وانتصاراً، على ما قاله صديقه الأستاذ أحمد الجندي.
وفيما يلي نمرُّ على طائفة من مواقف عمر في هذا المجال.
❊ ❊ ❊
يأتي عام 1938م فتقام في حلب حفلة لتأبين المجاهد الوطني الشهير إبراهيم هنانو، ويقوم أبو ريشة فيتخذ من هذه المناسبة فرصة لانتقاد ما لا يروق له من أحوال الوطن، ويهاجم المسؤولين، وهم على سدة الحكم. بل وهم يشاركون في الحفل، ويسمعون من الشاعر هجومه عليهم. يقول الأستاذ عبد الله يوركي حلاق عن هذه الواقعة: وفي عام 1938م أقيمت للزعيم السوري إبراهيم هنانو حفلة تأبينية حضرها سعد الله الجابري رفيق هنانو في الجهاد والنضال، وكان يومئذ وزيراً للداخلية ونائباً لرئيس الوزراء. فوقف عمر، وطفق يصب جام غضبه على أساليب الحكم بجرأة نادرة. وفي نهاية الحفلة تقدم سعد الله الجابري -رحمه الله- من الشاعر الثائر عمر، وقبله قبلة الرضا والإعجاب، وقال له: إن شعرك يقوم اعوجاجنا شئنا أم أبينا.
وإذا كان عمر أبو ريشة جريئاً في هجومه؛ فإن الجابري كان نبيلاً في موقفه منه، لم يعنفه ولم يعاقبه، بل قدره أحسن تقدير وشكره وأثنى عليه، ويبدو أن عمر أبو ريشة قد أدرك في الجابري هذا الخلق الرفيع، فرثاه بقصيدة بديعة يوم توفي عام 1947م؛ مطلعها:
هيكل الخلد لا عــدتك الغـوادي أنت إرث الأمجــــــاد للأمجـاد
وقدم لها بقول يفيض وفاء وثناء على المرثي، وهو: ألقاها الشاعر في حفلة تأبين السياسي النبيل الزعيم سعدالله الجابري، وكان الشاعر على الرغم من احترامه له يتصدى له وينتقده.
❊ ❊ ❊
ويروي عمر أبو ريشة أنه ذهب إلى الأردن في أواخر الثلاثينات أو أوائل الأربعينات بدعوة من الملك عبدالله ملك الأردن حملها إليه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر. وفي قصر رغدان في عمان قابل الملك الذي كان متجهماً، والذي بادر الشاعر بقوله:
ما الذي دفع بك إلى القول:
وسلوا المليك أحـركته نخــوة أو غضبة قرشية الإعصار!؟
ما ضره لو قام في وجه العدا متهادياً بالجحفـــل الجـــــرار
فأجاب عمر أبو ريشة: هذه القصيدة لم تنشر، وقد ألقيتها في دمشق، وهاجمت فيها كل الزعماء العرب، والملوك العرب، ورؤساء الحكومات العرب، ولكن الدكتور أبو غنيمة أخذ مني بعض الأبيات التي هاجمت فيها الأردن، وأرسلها إلى عمان لأنه على خلاف مع الحكم الأردني.
ويروي عمر أبو ريشة أنه قال للملك عبدالله: إن الذي حمل إليك هذه الأبيات ليس وفياً لجلالتك، ولو كان وفياً لحمل لك كل ما قلت، فظن أني أحاول تعديل الموقف، فسألني: وماذا قلت؟ قلت:
عقد الصبية حول ناصع عنقها لأجـل من تـــاج بغـــير قــرار
أيخـاف فقد إمــارة يجتازها الـ ـهــرم الكسـيـح بليلــة ونهـــار
لا تفرحن فلست أول نعجـــــة رقصـت على سِكِّيـنة الجـــزار
ولما سمع هذا القول انتفض، وكان شاعراً كبيراً، وصاح بي: ما دفعك إلى هذا القول أيها العتل الزنيم!؟ ثم أخذ يتحدث عن بني هاشم، وما حل بهم من خطوب حتى سالت مني الدموع.
وانتهى الأمر بمصالحة ومسامحة وعناق، وقال الملك للشاعر: إنها صفحة وطويت يا عمر، ونريد أن نسمع منك شيئاً غداً في الاجتماع الكبير.
وفي الاجتماع ألقى عمر أبو ريشة قصيدته الشهيرة «خالد»، فلما أنشد هذه الأبيات:
كم على الترب من جراح جياع في قلوب بدرية الخفقان
إن شعبــــاً قــد قـدتــــه لم يكن أكرم منا ولا أشد تفــاني
إنما جرت القطيـــــع إلى الهلك؛ رعاة ذبيحة الوجـــدان
تأزم الموقف، وطرب الجمهور، وبكى الملك، فأراد عمر أبو ريشة تعديل الموقف فقال:
أتــرى يغســـل الكآبة عبد الله عن قلبهــا العليـــل الواني
إنهـــا سمرت عليك لحـاظاً مثقــــلات بطيبـــات الأماني
وازداد الجمهور انفعالاً، ونهض الملك عبد الله ليقول عن عمر أبو ريشة: أبكيته بالأمس سراً، وأبكاني اليوم علناً.
وبعد مدة يسأل الملك عمر أبو ريشة عن القصيدة التي وعده بها، فينشده بحضور فارس الخوري:
ما جفاني بيـاني الــــــــــثر لمـــا أنت أطلعــــــتني علــى أبكـــاره
خانني الحـــظ مرتـين فلـــــم أحـ ـمل إلــى سيــدي ظلال فخـــاره
إن عقداً أصــوغـــه من سجـــايا ك تـرف العليــاء في تذكــــــاره
لك منــــــه ما تنتقي ولجيــد الـنـ ـنجـم ما تستحق مـــــن أحجـاره
يا لذكرى طافت بنا حـــــــرم الـ ــمجد وشقت ما طال من أستاره
وأعـادت لنــا خيـــــــــــــال نبي سروات الملوك من سمــــــــاره
وغضب الملك عبدالله، وطلب من الشاعر أن يتوقف، ثم التفت إلى فارس الخوري قائلاً: أتدري ماذا يعني بقوله هذا؟ إنه لا يقصد هذا التاج أو هذا الملك؛ إنه يقصد أنه يحمل إلي القصيدة التي وعد بأن يسمعني إياها وينشرها، ويقول بأنني أوصيت على القصيدة، وهـذا هو الشرف الوحيد الذي أراد أن يخلعه علي. هذا الملك وهذا الصولجان لا شيء عنده!.. أهذا مــدح!؟ إنه يمدح نفسه، لكنه كان معجباً بالقصيدة، ثم ارتجل:
شاعر جــــاد بالمتين من الشعــــ ــر هو الشهد كيف لــي بامتيـاره
دم أبا ريشة مليـــــك المعـــــانـي أنت حســان هاشم في جـــــواره
ثم غلبته دموعه فبكى؛ إذ تذكر أمجاد الإسلام الأولى، وكان -رحمه الله- شاعراً وذواقــة.
❊ ❊ ❊
أما قصيدة عمر أبو ريشة «بعد النكبة» التي مطلعها:
أمتي هــــــل لك بـــــين الأمـــــم منبر للسيــــــــــــف أو للقلـــــــم
فلعلها أشهر شعره على الإطلاق، ولعل أشهر ما فيها بيتاه الذائعان اللذان سارا مسير الأمثال الشاردة:
رب وامعتصمـــاه انطلقــــــــــت ملء أفواه البنـــــــات الـــــــــيتم
لامست أسماعهم لكنهــــــــــــــــا لم تلامس نخـــوة المعتصــــــــم
ولعل موقفه فيها أكثر مواقف شعره جرأة وشجاعة، ولعل هذه القصيدة من أكبر عوامل شهرته وأهمها.
تعود القصيدة إلى عام 1948م، وأنظار العرب كلهم تتطلع صوب فلسطين، وتنادي بالجهاد والتحرير والثأر. وينظر عمر أبو ريشة إلى حكام سورية يومذاك فيتهمهم بالتقصير والتخلي عن شرف المسؤولية، ويهاجمهم هجوماً نارياً شديداً، ويكون حظ رئيس الوزراء جميل مردم من الهجوم حظاً كبيراً؛ إذ صب عليه الشاعر جام غضبه، ويتناقل الناس بيتاً قاله أبو ريشة في حق مردم لم يرد في القصيدة كما جاءت في الديوان، واستبعد بعض عارفي شخصية الشاعر أن يصدر عنه لأنهم كانوا يصفونه بالأدب والذوق مع جرأته المعهودة، وهذا البيت هو قوله في رواية:
إن أرحام البغــــــــايا لم تلــــــد مجرماً في شكل هذا المجــــرم
أو قوله في رواية ثانية:
إن أرحام البغــــــــايا لم تلــــــد مجـرمًا مثـــل جمــــيل المـردم
على أن عمر أبو ريشة يبالغ في أثر هذه القصيدة، ويرى أنها مهدت للانقلاب العسكري الأول الذي قام به حسني الزعيم في سورية عام 1949م، كما يرى أنها أدت إلى إخراجه من سورية ربع قرن من الزمن، يقول عمر أبو ريشة عن هذه القصيدة في إحدى المقابلات الصحفية معه: هذه القصيدة ألقيتها في حلب بوجود أعضاء المجلس النيابي والحكومة السورية في حدائق "اللونابارك"، وكان الجمع يتجاوز عشرة آلاف نسمة. وكانت الغاية من هذه الزيارة أن يصبح رئيس الوزراء آنذاك رئيساً للجمهورية في العام 1948م.
بعد انتهائي من إلقاء القصيدة أوقفت الحفلة، وبعد أيام قليلة وقـــع الانقلاب على الحكومة، ثم أخرجت من سورية وزيراً مفوضاً إلى البرازيل على أساس أن أبقى هناك ثلاثة أشهر فقط، لكن فترة سفارتي خارج سورية امتدت ٦٢ سنة من دون أن أعـــود إلى الإدارة المركزية، وهذا شيء نادر وليس له مثيل. وقد تنقلت سفيراً من بلد إلى آخر خلال هذه الفترة. وفي القصيدة أبيات مرتجلة هاجمت فيها الشخصيات السياسية وعلى رأسها رئيس الوزراء، ولقد تجاوزت في القصيدة حدوداً لم أكن أحب أن أتجاوزها.
ويروي الأستاذ عبدالله يوركي حلاق أن عمر أبو ريشة ألقى القصيدة في جمع حاشد فيه فئة من كبار رجال العهد، ويؤكد أن فيها ما لا يسمح الأدب بنشره، وأنها كادت تكلفه حياته، وأنها كانت إنذاراً بقرب تغيير حكومي وسياسي جذري في سورية.
أما القصيدة كما جاءت في الديوان فهي:
أمتي هــــــل لك بـــين الأمــم منبر للسيـــــــف أو للقـــــــــلم
أتلقـاك وطــــــــرفي مطـــرق خجلاً مــــن أمسـك المنصــرم
ويكاد الدمع يهمي عابثـــــــــاً ببقـايا كبريــــــــــــــاء الألـــــم
أين دنيـــــاك التي أوحـت إلى وتــــري كـــل يتيــــــم النغـــم
كم تخطيت على أصـــدائـــــه ملعــــب العـــز ومغنى الشـمم
وتهــــــاديت كأني ساحــــــب مئزري فـــوق جبــــاه الأنجـم
أمتي كـم غصـــــة داميـــــــة خنقت نجـــوى عــلاك في فمي
أي جـــرح في إبـائي راعــف فـــاته الآســــــــي فـــلم يلتئــم
ألإسرائيـــــل تعـــــــــلو راية في حمى المهد وظـــل الحــرم
كيف أغضيت على الــذل ولم تنفضي عنــــــــــك غبار التهم
أوما كنت إذا البغي اعـــــتدى موجــة من لهـــب أو مـــن دم
فيم أقدمت وأحجــــــمت ولــم يشتف الثـــــــأر ولـــم تنتقمـي
اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دمع اليتامى وابسـمي
ودعي القـــــــادة في أهوائهــا تتفانى فـــــي خسيس المغنــــم
رب «وامعتصماه» انطلقـــت ملء أفـــــــواه البنـــــات اليتم
لامست أسمـــــاعهــــم لكنهــا لم تلامـــس نخـــــوة المعتصم
أمتي كــــــــم صنم مجــــــدته لم يكن يحمـــــــل طهر الصنم
لا يــلام الـــــذئب في عـدوانه إن يـك الـراعي عــدو الغـــنـم
فاحبسي الشكوى فـــلولاك لما كان في الحـكم عبيــد الـدرهـم
أيهــا الجنــــدي يا كبش الفــدا يا شـــعــاع الأمل المبتســــــم
ما عرفت الـبخـــل بالروح إذا طلبتها غصص المجـد الظمي
بورك الجــرح الذي تحمـــــله شرفـاً تحــــت ظــــــلال العلم
وإذا كانت القصيدة نموذجاً لجرأة الشاعر النادرة؛ فإنها أيضاً نمـوذج من أرفع نماذج شعره الوطني، فهي قصيدة وطنية تفيض غيرة وحمية وإخلاصاً للوطن.
هذا؛ ولابد من الإشارة هنا إلى أنه يحمد لعمر أبو ريشة أنه حذف من القصيدة الأبيات القاسية التي ارتجلها في الحفل، والتي هاجم فيهــا جميل مردم، كما يحمد له أنه ــ كما يروي الأستاذ أكرم زعيتر في ذكرياته عن عمر أبو ريشة التي نشرها بعد وفاته ــ ندم على حملته على جميل مردم، وأشاد بوطنيته وكفايته، وقارن بينه وبين الذين خلفوه، وأكد أنه جدير بالتكريم والاحترام، وقرر أنه تجنى عليه وظلمه في قصيدته.
وحين أجرت مجلة الحوادث اللبنانية مقابلة مع الدكتور عبد السلام العجيلي وهو طبيب أديب من الرقــة، ومن أصدقاء عمر أبو ريشة سألته عن هذه القصيدة فقــال: حملت أكثر مما ينبغي أن تحمل، وأنا سألني أحد أصدقاء عمر: هل صحيح أنه قال هذا البيت المشهور:
إن أرحــــام البغايــا لم تلد مجرماً مثل جمـيل المردم
فقلت له: أنا لم أحضر، لكني أعرف أن عمر من سمو الأخلاق بحيث يمكنني أن أقول: إن هذا البيت مقحم على قصيدته، عمر يعارض بقسوة في شعره لكن عمر لا يمكن أن يقول هذا الكلام، إن معرفتي به وبأخلاقه السامية تجعلني أقول: إن هذه القصيدة قد تعرضت لتدخلات خارجية.
وفي كلام الدكتور العجيلي دقة وإنصاف، ومنه ومن أشياء أخرى مماثلة يمكن القول: إن صاحب القصيدة حملها أكثر من الحقيقة فيما أدت إليه من أحداث خاصة على مستواه الشخصي، وعامة على مستوى الوطن السوري، وإن هناك من زاد عليها ما زاد لسبب أو لآخر.
وعلى كل حال تبقى القصيدة علامة غير عادية في حياة صاحبها، وفي الشعر الوطني الحديث، وقد كتب عنها من كتب، وعارضها من عارض حتى إن الأستاذ مصطفى عكرمة، وهو كاتب وشاعر يقرر أن الذي لديه مما يتصل بها أكثر من مئتي صفحة.
❊ ❊ ❊
وفي عام 1969م يقام في بيروت مهرجان كبير لتأبين الشاعر اللبناني الأخطل الصغير، ويشارك أبو ريشة فيه بقصيدته الشهيرة «بنات الشاعر».
كان العالم العربي يومها لا يزال يعاني من هزيمة 1967م، وكانت النقمة على الحكام الذين تسببوا بها عارمة جداً، أولاً لفداحـــة الهزيمة، وثانياً لأنهم ظلوا حيث هم مع كل جناياتهــم. ولم يفت عمر أبو ريشة أن يهاجمهم وهو يرثي الأخطل الصغير، يحمله على ذلك غضبه وجرأته ووطنيته، وفداحة الخطب، والمناسبة الحاشدة التي تهيىء له أن يجهر بما يود أن يقول. ويقف عمر أبو ريشة منشداً ليقول عن صانعي الهزيمة في سخرية مريرة موجعة:
إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبــــوا أو حوربوا هربوا أو صوحبـوا غدروا
خافوا على العار أن يمحى فـكـــان لهم على الربــاط لــدعم العـــــار مؤتمـــر
على أرائكــهـم سبحــــان خـــــالـقهـــم عـاشوا وما شعروا ماتــوا وما قــبروا
كان المهرجان عرساً من أعراس الشعر العربي شارك فيه كمال ناصر، ومحمد الفيتوري، وعبدالمنعم الرفاعي، وعزيز أباظة، ولميعة عمارة، وصقر القاسمي، وحسن عبدالله القرشي، وكان في الوقت نفسه عرساً شخصياً لعمر أبو ريشة فقد كان في الستين من عمره في قمة نضجه واكتماله فوقف على المنبر يطل على الناس بوسامته وأناقته وإلقائه البديع وبجرأته التي حولت المناسبة إلى عرس قومي يرفض الهزيمة، ويلعن صانعيها الطغاة.
لقد اتسمت قصيدته «بجرأة بالغة» على حد تعبير صديقه الأستاذ الشاعر حسن عبدالله القرشي في حديثه عن ذكرياته مع عمر بعد وفاته، لذلك لا غرابة أن وجدنا الأستاذ شارل الحلو رئيس جمهورية لبنان آنـذاك وهو صديق للشاعر ومحب له ــ وكان راعياً للمهرجان ــ يقف وتقف القاعة معه تصفق لعمر تصفيقاً حاراً أكـثر من عشر دقـائق، وكأنها تجـد في إبائه إباء ها، وفي غضبه غضبها، وفي رفضه للهزيمة وصانعيها رفضها، وهكذا تلاقت الأعراس الثلاثة في مناسبة واحدة، عرس الشعر والشعراء، وعرس الشاعر الهادر، وعرس القومية الجريحة. وقد كان للقصيدة دوي كبير فقد تناقلتها الصحف والمجلات والمجالس والأيدي والشفاه، ووقعت على أنصار جمال عبدالناصر خاصة وقعاً موجعاً، فقد علموا وعلم الجميع أن الشاعر كان يقصده بهجومه قبل أي حاكم آخر لأنه رآه المسؤول الأكبر عن الكارثة. رحم الله عمر، كان أجرأ شعـراء جيــله.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق