السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - مبالغات وادعاءات

مبالغات وادعاءات

     إذا كان عمر أبو ريشة شاعر الإباء والكبرياء، وإذا كان ذلك شرفاً له وفضيلة، فإن من يتتبع أخباره يجد أن هذه الخاصية المحمودة، تقابلها نقيصة مذمومة وهي أن هذا الشاعر الشهير الجهير كان مولعاً بالمبالغات والادعاءات والأحكام الجزافية، وكان يحرص على حشد الغرائب والطرائف والروايات التي لا يمكن قبولها ويظهر ذلك بوضوح من المقابلات الكثيرة التي أجريت معه والتي تجعل قارئها حين يتمعن فيها ويستوعبها أسير دوامة من الدهشة والاستغراب والاستنكار والتناقض والتشويش.

     وربما كان مرد ذلك إلى أنه كان يود أن يكون ذا مجد عريض في كل شيء لا في الشعر وحده، خاصة بعد أن شاخ وأصبحت شهرته التي تنامت أوسع من شاعريته التي تناقصت فخاف أن تنسحب عنه الأضواء، وربما كان مرده إلى خياله الواسع الذي يجعله يتعامل مع بعض رؤاه وأحلامه كما لو كانت حقائق، وربما كان مرده شعوره الحاد بالتميز والتفرد ورغبته في أن يكون طريفاً ومثيراً ومدهشاً، وربما كان مرده ذلك كله وأشياء أخرى، والنفس الإنسانية عالم عجيب ربما جمع بين المتناقضات ولله في خلقه شؤون.

     رحم الله عمر لقد كان في شعره أصدق منه في أخباره، وكان له من مجده الشعري الذي ناله عن جدارة واستحقاق ما يغنيه عن ذلك كله، وهو مجد يشهد له به عدد من أعلام الأدباء والشعراء والنقاد والدارسين، مثل: شوقي ضيف، وشكري عياد، وعبد القادر القط، وجميل علوش، وحسن ظاظا، وزكي قنصل، وحسن عبد الله القرشي، وعبد القدوس أبو صالح، وحلمي محمد القاعود، وأحمد الجندي، وسامي الدهان، وسامي الكيالي، وعمر الدقاق. وقبل هؤلاء وغيرهم يشهد له به شعره الذائع الرائع.

     كان عمر أبو ريشة مدركاً لمكانته عارفاً بإعجاب الناس به، لكنه غفر الله له كان يبالغ في هذه المكانة، وكان يتسع بمداها في الشعر والأدب والثقافة والسياسة والثراء والنفود العائلي والعلاقات والصداقات كثيراً. ولذلك يجب ألا يأخذ الدارس كل ما يجيء في مقابلاته وتصريحاته مأخذ التسليم والثقة، فقد كان فيها حقائق ووقائع، وكان فيها ادعاءات ومبالغات، وكان يتحدث أحياناً عن بعض أموره كما يتمناها ويتخيلها ويريدها أن تكون، وما أصدق ما قاله عنه في هذا المجال الأستاذ حسني فريز.. وهو أحد زملاء دراسته في الجامعة الأمريكية: إنه يقص القصص عن الناس كما يريدها لا كما وقعت!

     في حواره مع نازك باسيلا نجده يروي لها الحكاية التالية:

     أذكر من أيامي في إنجلترا حادثةً كان لها الأثر البعيد فيما تعاقب من حقب عمري. كنا أربعة رفاق، وأربع رفيقات، في نزهة نتسلق الجبال في أحد الأرياف البيعدة. فجأة ــ عبر رؤيا مرت بسرعة البرق ــ لاح لي في الوادي، وراء التل المنتصب أمامنا، جسر روماني قديم وإلى جانبه خان كبير... زالت الرؤيا وأنا ما زلت أشعر بنشوة روحية عميقة... فقمت أعدو مسرعاً باتجاه المكان.

     لحق بي الرفاق، وهم غافلون بالطبع عما حدا بي إلى الاندفاع، على هذا النحو، في المسلك الوعر. لكني ظللت أعدو بمنتهى الحماسة، وهم يلهثون ورائي، حتى بلغت أعلى التل ولم تكن قدماي قد وطئتاه من قبل. وسرني أنني أدركــت ما ركضت من أجله. كالمجنون ركضـت، لقد تأكد لي، ملء عيني، أن في الوادي جسراً رومانياً هو الجسر نفسه الذي أبصرته في الرؤيا العابرة. عندئد أخبرت الرفاق بما جرى، وقد أيقنت، بما لا يقبل الشك، أن التل والوادي ليسا بغريبين علي إطلاقاً.

     كان لتلك الحادثة أثرها العميق في نفسي... ظلت بصماتها مطبوعة في أعماقي أحملها حيثما اتجهت... يوماً بعد يوم كان معناها يزداد وضوحاً في فكري، خاصة بعدما تيسر لي أن أعايش الهنود في تعاليمهم الروحية. فالروح قوة خارقة أنى لها أن تتحطم، أو أن يدركها الفناء. صورتها الخارجية وحدها تتغير وتتبدل. والكون قائم على انسجام يتواصل بين النقيضين: بين الروح والجسد.

     أما الأستاذ ياسين رفاعية فينقل عنه الحكاية التالية، وبين الحكايتين تماثل كبير مع ما بينهما من اختلاف المكان وامتداد الزمان.

     روى لنا ذات يوم ما يشبه حالة تقمص أو رؤيا. إذ دُعي مع مجموعة من سفراء العالم ومن بينهم سفراء عرب إلى زيارة أحد المعابد الهندية يقع على قمة هضبة لا يصل المرء إليها إلا على قدميه، وكان برفقته السفير المصري وقتذاك. وما أن اقترب عمر من سفح تلك القمة حتى قال لمرافقه: أظن أنني رأيت هذا المعبد قبلاً، فسأله السفير إن كان قد زاره قبل ذلك. أجابه عمــر:... هذه أول مرة أصعد فيها هذه القمة... لكنني أحس أنني أعرف كل زاية من زوايا هذا المعبد وكل قطعة فيه. فاستغرب السفير المصري هذا الكلام وقال لعمر: حدثني إذن عنه قبل أن نصعد إليه. وبدأ عمر يروي للسفير المصري ما يراه من خلال قلبه واصفاً أركان المعبد كأنه يتنقل فيه من حجرة إلى حجرة. وما أن وصل الجمع إلى المعبد حتى اكتشف المصري وعمر نفسه أن كل ما قاله في أسفل الهضبة كان صحيحاً مئة في المئة. وكما كانت دهشة عمر كبيرة أكبر من دهشة السفير المصري ــ الذي يبدو أنه لم يصدق أن عمر لم يزر المعبد من قبل ــ لأن الوصف كان مطابقاً للحقيقة... لكن الدهشـة التي عقدت لسان عمر جعلته يتساءل بينه وبــين نفسه: كيف استطاع أن يرى مــا لم يره!؟

     ويروي الدكتور جميل علوش عنه أنه ذكر في تقديمه لقصيدته «كوبا كبانا» أنه دخل غابة في البرازيل لم تطأها قدم إنسان، فوقعت عينه على حفرة، فدخل الحفرة، فشاهد قصوراً سحرية مضاءة بالثريات الرائعة، وأفاض في وصف هذه القصور، ومن وحي هذه المشاهد السحرية نظم قصيدته المذكورة مع أن التقديم الذي أثبته للقصيدة في الديوان يختلف في قليل أو كثير عن ذلك، فهل يقبل عقل أن يكون عمر هو الوحيد الذي دخل تلك الغابات، وشهد تلك القصور!؟ بل أين هي تلك الغابات والقصور!؟.

     ومن المعروف أن عمر عمل سفيراً لبلده في الولايات المتحدة الأمريكية أيام رئاسة الرئيس الأمريكي جون كيندي لها، وقد قابل بطبيعة الحال الرئيس الأمريكي، وأخذت لهما الصور التذكارية، لكن هذه المقابلة التقليدية المعتادة يرويها الشاعر كما يريد، وكما يحب ويتمنى، ولما كانت الروايات تتعدد فلا مانع أن تختلف وقائعها وتفاصيلها.

     ففي روايته للأستاذ عصام الحلبي يقول عن الرئيس الأمريكي: إنه كان محباً للأدب والأدباء، وكثيراً ما كانا يجلسان في حدائق البيت الأبيض بين الساعة الرابعة والخامسة بعد الظهر، ويتحدثان في شتى مواضيع الأدب والفلسفة، حتى إن الشاعر عرف البطريرك المعوشي إلى الرئيس كيندي الذي أعجب به أشد الإعجاب، وقال عنه: لم أتعرف إلى رجل دين مثل هذا الرجل من قبل.

     وفي روايته لنازك باسيلا نجده يقول: قابلت الرئيس الراحل جون كيندي الذي ترك في نفسي أعمق الأثر، ما إن دخلت مكتبه حتى طلب من سكرتيره الخروج ليتسنى لنا الحديث بحرية وصراحة كاملتين، وخلافاً لأصول البروتوكول المتبعة في كل الدول، استغرقت تلك المقابلة التي قدمت فيها أوراق اعتمادي أربعين دقيقة فطلعت الصحف الأمريكية في اليوم التالي تتصدر صفحاتها الأولى عناوين ضخمة تقول: السفير السوري يجعل الرئيس كنيدي يرقص الروك أندرول.

     أما رواية الأستاذ عبد الله يوركي حلاق وهو محب لعمر ومعجب بـه وهو أيضاً من مدينته حلب، ولابد أنه استقاها منه فتقول: كان البروتوكول يقضي بأن يجري الاحتفال خلال ربع ساعة، وكان من مقتضيات هذا البروتوكول أن يقرأ الرئيس سؤالاً في ورقة مكتوبة، ويرد عليه السفير بورقة مكتوبة، ولما وصل الرئيس في سؤاله إلى موضوع دقيق وحساس طرح عمر أبو ريشة الورقة التي تحمل الأجوبة، وقال للرئيس آية من الإنجيل تنطوي على هذا المعنى: في المذبح لا يذكر إلا اسم الله، فذهل كيندي وهو كما عرف عنه كاثوليكي المذهب يمارس طقوس مذهبه بدقة، وألقى الورقة التي تحمل الأسئلة، وقال لعمر: بلغني أنك شاعر فهل يمكنك أن تقرأ لي بعض شعرك؟ وبدأ الشاعر يتدفق كالسيل وهو يلقي بعض قصائده باللغة الإنجليزية، فطرب كيندي وسأل المزيد، ومضت المدة البروتوكولية ففتح المرافق العسكري الباب ليصحب السفير في أثناء خروجه من غرفة الرئيس، فقال له كيندي: دعنا في خلوتنا، فنظر إليه المرافق وكان برتبة لواء وهو يهمس بكلمة «البروتوكول» فعاد كيندي يقول: قلت لك: دعنا، واستطاب الجلوس للاستماع إلى شعر عمر، وكان الجنرال يفتح الباب بين فترة وأخرى مما حدا كيندي إلى أن يقول: ألغوا جميع المواعيد، لن أستقبل أحداً حتى إشعار آخر، وهكذا أمضى الرئيس كيندي ثلاث ساعات وهو يصغي إلــى العبقرية الفذة التي جعلته يصم أذنيه عن صوت البروتوكــول، والتقطت كبريات الصحف الأمريكية لعمر أبو ريشة صوراً نشرت في الصفحات الأولى، وتحتها هذا النص: السفير العربي الذي جعل الرئيس كيندي يرقص الروك أندرول على رجل واحدة.

     ومن الواضح أن هذه القصص والروايات لا أصل لها، أو أن لها أصلاً معقولاً، عمل خيال عمر على الإضافة إليه كما يشاء، وقصة الجسر الروماني الذي إلى جانبه خان كبير في الريف البريطاني، وقصة المعبد الهندي الذي وصفه للسفير المصري في هضبة عالية في الهند، توحيان إلى السامع بأن لدى عمر قدرة روحية غير عادية تجعله يرى ما لا يراه الآخرون، ولعل هذا هو ما كان يرمي إليه.

     وقصة الحفرة التي دخلها في غابة في البرازيل لم تطأها قدم إنسان كما يقول عمر، قصة متداعية ترد نفسها بنفسها، وربما كانت نوعاً من الوهم الذي لا يلبث صاحبه أن يصدقه.

     أما قصة عمر مع الرئيس الأمريكي فلها أصل بطبيعة الحال ذلك أن السفير يقدم أوراق اعتماده إلى الرئيس، ويجلس معه قليلاً، وربما دار حوار يدخل في باب من أبواب السياسة أو المجاملة، لكن عمر أضاف إلى هذا الأصل ما شاء من خيالات في الوقت والتفاصيل والنتائج، رغبة منه في إعلاء قيمته سياسياً وشاعراً ومحاوراً.

     وتحمل المبالغة عمر على الادعاء بأن عمله الوطني كاد يودي بحياته مرتين، فيخبرنا أن الفرنسيين حكموا عليه بالإعدام لكنه نجا من ذلك بفضل وساطة سعيد حيدر الذي استعمل شعبية عمر الواسعة وحب الجماهير له ورقة رابحة في هذه الوساطة. وإذا كان عمر يرد سبب نجاته من الإعدام إلى وساطة سعيد حيدر في هذه المرة، فإنه يردها في المرة الأخرى إلى شعره حيث يخبرنا أن الفرنسيين سجنوه، وأن الحارس قال له: نحن نبحث عن مكان مناسب نعلق فيه مشنقتك، ليتك بأكثر من روح واحدة كي نشنقك أكثر من مرة واحدة!. وحين يعيد الحارس إلى عمر حريته فيما بعد يقول له: يطيب لي أن أطلعك على سر يخفى إلا على عدد من المقربين، لا أبالغ إذا قلت لك: إن شعرك أنقذك من الإعدام، رئيسي ممن يهوون الشعر إلى حد الهوس، وقد قرأ بعض قصائدك مترجمة إلى الفرنسية، وخلص إلى أن شاباً في مثل مواهبك لابد له من العــودة إلى الصواب عاجلاً أم آجلاً، ثم فتح الجندي حقيبته وقدم لــه نسخة من ديـــوان بودلير «أزاهير الشر» هدية من رئيسه.

     وإذا أمكـن قبول الرواية الأولى فإن الثانية ترد نفسها بنفسها، فحكم الإعدام ينقله الحـارس، والعفـو ينقله الحارس نفسه، والأمــر يدور بين الشاعر والحارس وحدهما، وسبب العفو أن قصائد مترجمة إلـى الفرنسيـة وقعت في يد مهووس بحـب الشعر فعفا عـن عمـر!!.

     وعلى ما يرويه لنا عمر نعرف أنه لم يكن الوحيد من أسرته الذي حكم عليه بالإعدام، ذلك أنه من أسرة عريقة في الوطنية والسياسة وتحدي الظلم والاستعمار، لذلك حكم بالإعدام على جده لأبيه، وعلى جده لأمه، وعلى أبيه شافع أيضاً كما حكم عليه هو أيضاً، ويلاحظ الدكتور جميل علوش أن هذه الأحكام كلها ألغيت أو استبدلت أو خففت بقدرة قادر، وهي ملاحظة ذكية تجمع بين السخرية والتشكيك.

     وكما كان عمر يبالغ في كل ما يتصل به، كان يبالغ فيما يتصل بنسبه أماً وأباً وعمومة وخؤولة وعشيرة، وكان مولعاً بالحديث عن عراقة نسبه، وقد أشار إلى ذلك في مطلع إحدى قصائده فقال مفتخراً بنسبه:

عاتبتَه ونسيـــتَ طيب نجاره     وأبيتَ أن تصغي إلى أعذاره

        وأحاديث عمر في هذا الجانب تترك انطباعاً لدى الإنسان بأن التمرد على العثمانيين من قبل، وعلى الفرنسيين والحكم الوطني من بعد؛ إرث أصيل في هذا النسب امتد عدة قرون، وأن هذا التمرد مرده إلى ما في هذا النسب من عزة ووطنية وبطولة، لذلك فعمر في تمرده وعزته ووطنيته وبطولته إنما هو امتداد طبيعي لمن سبقه، وهو فرع من دوحة غير عادية يصون فضائلها، ويرعى حرمتها، ويكمل مسيرتها.

     وطالما تحدث عمر وأفاض، عن العشيرة، وعن الأب والأم والإخوة، وعن جديه لأمه وأبيــه، وعن صوفية هذا، وفروسية ذاك، بحيث يفهم الإنسان أنه النتاج الكريم لهذا المزيج المتفوق من الفرسان والزهاد والعلماء والأعيان. والكلام في هذا الأمر واسع متشعب حسبك منه وصفه لوالدته بأنها مكتبة ثمينة تمشي على قدمين، وأحكام الإعدام الكثيرة التي لم ينفذ واحد منها، والأراضي الشاسعة التي تمتلكها أسرته، وأنه عاش عمره منفياً مشرداً عن سورية.

     وبالفعل كانت لعمر أبو ريشة مكانة مقررة، لكنه كان يبالغ في ذلك كثيراً، وكانت تملكه رغبة حادة للتهويل والتزيد في كل ما يتصل به، ولذلك قرر الدكتور جميل علوش أن حديث الشاعر عن أجداده ومآثرهم صار سبباً للتندر والسخرية.

     وهنا نعود إلى صديقه وزميله حسني فريز من جديد لننقل عنه قوله: إن عمر شديد النهم إلى تضخيم شخصيته عن أي طريق.

     وحكاية عمر مع اللغات غير العربية تستحق وقفة فيها أناة، فهو يقرر مرة أنه حرص على معرفتها لأنها تمكنه من سبر نفسيات الشعوب الأخرى، ويقرر مرة أخرى أنه تعلمها لأنه يرفض قراءة الشعر مترجماً ويصر على قراءته بلغته الأصلية، ويقرر مرة ثالثة بأنه اطلع على أعمال الشعراء والأدباء الأمريكيين والأوربيين وبلغاتهــم الأصلية، فجمع الأدب والشعر وأوروبا وأمريكا فــي جعبته دفعة واحدة، وسنرى أن هذه الجعبة سوف تتسع لمزيد من اللغات والآداب والثقافــات.

     ومن الطريف اللافت للنظر أن عدد اللغات التي استوعبتها جعبته كان يختلف من رواية إلى أخرى.

     يقول عمر في واحدة من المقابلات التي أجريت معه أواخر عمره: تعرفت على أناس كثيرين وأدباء كثيرين، وكل بلد أكون فيه أتعلم لغته، لأنني كنت مرة أقرأ «فاوست» باللغة الإنجليزية، وفاجأتني الدراسة عنه لدرجة أني تساءلت: ليس من المعقول أن يكون كاتب كبير كـ«غوته» سخيفاً كما بدا من الترجمة التي بدت لي فضيحة، فقررت أن أتعلم اللغة الألمانية لأقرأ غوته وغيره من الأدباء والمفكرين باللغة الأم، ووجدت فرقاً كبيراً بين الترجمة والكتب الأصليـــة.

     وقال في المقابلة نفسها: تعلمت الإسبانية لأقرأ فيدير كو جارسيا لوركا، وألبرتو لا أورفيرا، ولا فودي لاغـــو، وذكر أنه كان في الثلاثينيات من عمره حين تعلم هاتين اللغتين.

     وفي مقابلة أخرى نجده يقول: أنا مولع باللغات لأنها تمكنني من سبر أغوار نفسيات الشعوب الأخرى، لذا أتقن ثماني لغات هي: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والتركية والألمانية والإيطالية والعربية والروسية، أحاضر بأربع منها، وأكتب الشعر باثنتين، لي دواوين شعرية باللغة الإنجليزية، وكتاب نثري من جزأين تحت عنوان «السفير الجوال».

     ويضيف أحياناً إلى اللغات الثماني كلاً من البرتغالية والأوردية والهندية، بل إنه يذكر أنه خلال مقامه في الهند تعلم معظم لهجات شبه القارة الهندية.

     إن ما يقوله عمر من أنه تعلم هذه اللغات الكثيرة حتى يستطيع أن يسبر نفوس الشعوب التي تتكلمها، ويقــرأ الشعر بلغاتـه الأصلية لأن الترجمة ربما شوهت النص، أمر لا يمكن قبولــه، ذلك أن الإنسان ربما يسهل عليه تعلم لغة ما ولكن يصعب عليه أن يتقنها، وأصعب من الإتقان أن يحيط بأسرار اللغة ويتذوقها بحيث يستطيع معرفة الخصائص النفسية للشعوب من خلال لغاتها ومعرفة المزايا الفنية للشعراء من خلال لغاتهم. ثم من أين يأتي عمر بالوقت والجهد اللازمين لإتقان هذه اللغات الكثيرة!؟ وكيف تأتى له أن يتعلم معظم لهجات شبه القارة الهندية وهي كثيرة جداً!؟ ولو قمنا بعملية حسابية يسيرة نجمع فيها عدد اللغات التي يدعي أنه أتقنها واللهجات التي يزعم أنه تعلمها لوجدنا أنفسنا أمام عدد هائل من اللغات واللهجات لا يمكن للعقل إلا أن يحكم إزاءه بالاستحالة.

     ولعل اللغة الوحيدة التي أتقنها عمر هي اللغة الإنجليزية لأنه تعلمها في طفولته في عكا، ثم في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم خلال مقامه في مانشستر، تليها بدرجة أقل اللغة الفرنسية، أما باقي اللغات واللهجات فحظه منها يسير أو ضئيل، وربما كان يعرف شيئاً من لغة الحديث أو بعض المفردات الشائعة لا أكثر ولا أقل، مثله مثل بعض المطوفين.

     والمطوفون أناس من أهل مكة المكرمة، عملهم هو تلقي الحجاج وإسكانهم وتيسير أمر حجهم وتسفيرهم وما إلى ذلك، ومع الزمن يتعلم هؤلاء المطوفون شيئاً يسيراً جداً من لغات هؤلاء الحجاج يتعلق بحدود التعامل معهم، فترى المطوف من هؤلاء يتكلم مع حاج إندونيسي أو هندي أو إيراني أو تركي، كل بلغته، بحيث يحصل التفاهم المطلوب، ترى هل لأحد منهم أن يزعم أنه عرف أو سبر أو أتقن هذه اللغات!؟ الجواب بالطبع: لا، إنما هي كلمات وجمل قليلة، ولعلها عامية من كل لغة يتفاهم بها مع الحاج في أمور ضيقة محدودة لا صلة لها بالثقافة قط.

     ويروي لنا عمر فيما يرويه أنه كان يحاضر هنا وهناك، وليته ترك نصوص هذه المحاضرات لتطمئن قلوبنا من ناحية، ولنستفيد منها من ناحية. ولكنه كان يتحدث كما يود، وربما كان لموضوع حديثه أصل صغير أو كبير، وربما لم يكن له شيء.

     يروي لنا عمر أنه دعي مرة ليتحدث في تكريم الشاعر روبرت واسنرز، وهو من أبرز الشعراء الأمريكيين فيقول: ألقيت محاضرة مهمة كان لها صدى واسع في شيكاجو، واستشهدت بمقاطع من شعره، وقارنت بمقاطع من شعري، وقد أدهشني أن بعض الجمهور وخلال تكريم الشاعر الكبير كان يصفر كثيراً، فبدا لي ذلك نوعاً من الوقاحة في حفلة تكريم، ثم عرفت أنهم جماعة من المناوئين للعرب والمؤيدين للصهيونية، وهدفهم تشويه الحفل والإساءة إلي، وقد كلفتني هذه العملية معاش ثلاثة أشهر، ولم يمنعني هذا ولا غيره عن متابعة اطلاعي واهتمامي بشعراء أوروبا وأمريكا وأدبائهما، وكان يسعدني دائماً ما أسمعه من هؤلاء حين نلتقي ويقولون: هذا شاعر من الشرق يأتي وفي جعبته الشعرية كل سحر الشرق.

     كما يروي أنه ألقى ثماني محاضرات عن شواعر العرب في الجاهلية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وذكر واحدة منهن هي عشرقة المحاربية وقال عنها: أتحدى شواعر الغرب أمامها، هي من العصر الجاهلي، صار عمرها ثمانين عاماً عندما شاهدت صبايا الحي فقالت:

لقد ركب[1] العشاق في حلبة الهوى     وجزتـــهم سبقاً وكنت علــى مهـــلي
فمـــا لبس العشاق من حلل الهــــوى     وما خـلعــــوا إلا الثيــاب التي أبـلـي
ولا شربوا كـأسـاً من الحـب حلــــوة     ولا مـــرة إلا وشـــــــربهـم فضــلي

     ائت لي بمدام دي ستايل أو سواها لتقول ما قالته عشرقة المحاربية هذه.

     وعلى ذكر عشرقة المحاربية هذه وسواها من شواعر العرب يروي لنا عمر أن عنده معلومات عن ثلاث وستين شاعرة عربية استقاها من المخطوطات العربية التي رآها في الهند، وأن هؤلاء الشواعر لم يسمع بهن أحد من العرب، لأنهم يسمعون عن الخنساء وغيرها ممن كانت لهن صلات مع الخلفاء والملوك.

     كما يروي أنه ألقى محاضرة عن المعاول الهدامة التي تحطم في قيمنا الجمالية حتى تتركنا في ضياع، ثم يتساءل: ما الغاية من هذا الشعر السخيف التافه الحقير؟ ويجيب: هي أن يتركوا الفرد العربي في حالة ضياع، وكله تخطيط صهيوني.

     بل إنه يروي لنا أنه كان يلقي المحاضرات في مختلف بقاع العالم وبلغات تلك البقاع حول الحضارة العربية والشعر العربي وظاهرة الشعر الحديث!

     ولما كان مجد عمر الشعري أكبر ما حصل عليه في حياته، كان حظ هذا الشعر وما يتصل به بشكل أو بآخــر من المبالغة أكبر من حظوظ سواه، من حيث المكانة، ومن حيث الإنتاج، ومن حيث سعة الاطلاع، ومن حيث رأيه في الآخرين، ومن حيث الجوائز التي حصل عليها، وما إلى ذلك.

     كان عمر يرى أنه شاعر العرب الأول قديماً وحديثاً، تحدث عنه الأستاذ نجدة فتحي صفوة، وكان محباً له، فقال: وكان رضي الطبع، ولكنه كان مدركاً تماماً مكانته في العالم الأدبي يتحدث عنها إذا جدت مناسبة كأمر مفروغ منه وحقيقة معروفة للجميع، ولا يتحرج عن أن يروي لك أن فلاناً وصفه خلال حديث معه بأنه شاعر العرب الأكبر أو خاطبه بهذا اللقب، وكان يروي ذلك دون أن يبدو عليه أي مظهر من مظاهر الحرج أو الكبرياء لأنه كان مؤمناً بــه.

     كما تحدث عنه الأستاذ أكرم زعيتر، وهو صديق قديم له، حديثاً يؤيد في مؤداه الرواية السابقة، مع إضافة نجده فيها ينتقص كلاً من البحتري والمتنبي، فقال: في بيروت، أيام كانت سماء في ديار العرب، زرنا معاً الأديبة النابغة سلمى الحفار الكزبري، وحدث أن أقبل علينا الأستاذ ناظم القدسي، رئيس الجمهورية السابق، وهو أديب ذواقة، فكان لقاؤنا مناسبة أدبية موفقة. وفي أثناء الحديث أعرب عن إعجابه بالبحتري، ولوحظ أن عمر قد استخف بسيرته وأنكر عليه عبقريته، فسأله الرئيس القدسي: وما تقول في المتنبي؟ وهو في اجتهادنا أشعر شعراء العربية. فبدا من عمر ما يشبه الاستخفاف بأبي الطيب، فسأله القدسي: ومن هو الشاعر إذن؟ فأجابه عمر: أنا هو! وعددنا هذا الجواب طرفة مرتجلة تنم على اعتداد عمر اعتداداً بالغاً بنفسه وشعره. ورحنا نستنشد عمر بعض شعره مترنحين، وقد شام دهشتنا أن يكون في الدنيا شاعر عربي ينتقص المتنبي، على أن عمر قال: ألا يكفي المتنبي شدوه في إحدى قصائده:

نحن أدرى وقد سألنا بنجد     أطويل طريقنا أم يطول!؟
وكثير من السؤال اشتـياق     وكثـــير مـــــن رده تعليل

     ومبالغة عمر في مكانته الشعرية تحمله على الادعاء بأن عنده من الشعر الغنائي والملحمي والمسرحي، الشيء الكثير، وربما تحدث عن ذلك إذا سئل عن موعد نشره بطريقة توحي بأن الظروف لا تسمح بهذا النشر، وأن أحفاده أو أحفاد أحفاده سيتولون أمرها ذات يوم.

     وأول ما ينبغي التنبيه عليه في ذلك ملحمته الموعودة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي بدأ يعد بها منذ عام 1941م، أي قبل وفاته بنصف قرن، وطالما تحدث عنها، وعن آلاف الأبيات التي أنجزها منها، والآلاف الأخرى التي سينجزها قبل طبعها. وفي حفل الأستاذ محمد عبد المقصود خوجه الذي أقامه لتكريمه قبل وفاته بسنوات قلائل في جدة، سئل عن هذه الملحمة وعما إذا كان هناك أمل في طباعتها!؟ فقرر أنها جاهزة للطبع، ثم عقب على ذلك بأن هناك ملاحم أخرى أشار إليها، سيتركها لأولاده ليطبعوها في المستقبل!

     وكان عمر على علاقة طيبة بالملك عبد الله بن الحسين، وقد زاره في عمان مرات عديدة، وذات مرة أخبره أنه نظم ملحمة في الثورة العربية الكبرى، فسر الملك عبد الله كثيراً لأنه كان شاعراً من ناحية، ولأن الملحمة تتحدث عن الثورة التي قام بها أبوه الشريف حسين وأولاده ضد العثمانيين في الحرب العالمية الأولى من ناحية، وأخذ يطالب عمر بإحضارها، وكان عمر يكرر الوعد ويكرر الاعتذار، حتى بدت على الملك علامات الضيق والكراهية، فاعتذر عمر بأبيات ارتجلها أنقذته من المأزق الذي أوقع نفسه فيه:

سيد العرب ما جفاني خيـــــال     أنــــت أطلعتني علـــى أبكاره
خانني الحظ مرتــــين فلـم أحـ     ـمل إلى سيدي ظــلال فخـاره
إن عقداً نظمته مــن سجايـــــا     ك ترف العليـــــاء في تذكاره
لك منه ما تنتقي ولجيـــــد النـ     ـنجم ما تستحــق من أحجــاره

     وفي واحد من ادعاءاته يقول عمر: أعطيت مرسوماً لم يتمتع به في الشرق أحد، أعطيت أكبر شهادة عالمية في الشعر، لم تعط إلا لكبار رجال الفكر وأعطيت لي، لجنة مؤسسة من زمان، عالمية، لا دخل لها في السياسة، لا تفكر إلا في القيم الفكرية، الهيئة المستديرة للجامعات العالمية مقرها فـــي أمريكا، ولها فـــروع عـــدة، وهي مكونـــة من كبار العلمــاء في العالـــم، وهذه الجائزة لا تعطى إلا للأدباء المبدعين الذين يبتكرون أشياء جديدة، ولم تعط في الشرق إلا لي، هذه الجائزة غيرت لي فكرين وجعلتني أعود إلى الكتابة. وبعد أن ينتشي الشاعر بهذا الادعاء، ويتوهم أننا انتشينا مثله انتشاء يحملنا على تصديقه، يخبرنا أن هذا التقدير المتميز حمله على العمل في جمع أشعاره التي كان قد قرر ألا ينشرها أبداً، لأن أحفاد أحفاده قد يهتمون بها في المستقبل، وأنه اجتمع لديه منها خمسة مجلدات تقريباً وباللغتين الإنجليزية والعربية.

     وتخبرنا أحاديث عمر أن الأكاديمية العالمية أصدرت دراسة عن شعره الذي تضمنه ديوانه «السفير الجوال» وهو باللغة الإنجيلزية، وأن لهذه الأكاديمية ودراساتها قيمة خاصة تكمن في أن القائمين عليها انفصلوا عن منظمي جائزة نوبل بعد أن أصبحت تتدخل في منح جوائزها الأهواء السياسية، وصارت تعطى للأميين حسب رأيهم، وأنهم أنشؤوا جائزة عالمية كبرى خصصوها للأدب والفكر فقط، وأن هذه الجائزة منحت له.

     وإذا كان هناك فرق واضح بين الروايتين السابقتين عن الجائزة العالمية الممنوحة له؛ فإن هناك فرقاً آخر مع رواية أخرى له تقول: إن المستشرقين التفتوا إلى شعره وكتبوا عنه وأعطوه تلك الجائزة الكبرى التي لم تعط لأي عربي من قبل، وأنها أعطيت فقط لطاغور سنة 1905م، وله سنة 1985م.

     كما تخبرنا هذه الأحاديث أنه منح سبع عشرة درجة دكتوراه، وأن هناك عدداً مماثلاً من الرسائل العلمية كتب عنه باللغات الأجنبية.

     وأغرب من هذا وأبعد ما رواه الدكتور جميل علوش عنه من أنه قال ذات مرة: إنه عضو في جمعية أدبية ليس فيها سواه، فلما سئل عن ذلك قال: كان يشاركني في هذه العضوية طاغور شاعر الهند، وقد توفي فبقيت وحدي. ويعقب الدكتور علوش على ذلك قائلاً: ولو كان عمر جاداً لذكر اسم هذه الجمعية ومكانها وتاريخ تأسيسها وأهدافها، ولكنه لم يذكر شيئاً من هذا القبيـــل.

     أما في المسرحيات فطالما أعلن عمر عن مسرحية له بعنوان «سمير أميس» وقال: إنه بدأ بها عام 1943م، وانتهى منها عام 1958م، وأكد أنها تتكون من ألف وأربع مئة بيت صب فيها كل قدراته الفنية، وأنه نظمها ست مرات ومزقها خمس مرات قبل أن تستقر على السادسة، وبذلك جاءت أسلوباً جديداً في العرض، وتفكيراً جديداً، وأجواء جديدة في دنيا المسرحيات،. وهنا يفرض السؤال نفسه: لماذا لم ينشر الشاعر هذه المسرحية مع اعتزازه بها وإنجازها قبل اثنتين وثلاثين سنة من وفاته؟ ويبدو أن الفصل الذي نشره الشاعر من هذه المسرحية عام 1944م في مجلة الحديث الحلبية هو ما أنجزه منها بالفعل. وإذا كان لهذه المسرحية أصل يزيد عليه خيال الشاعر ما يشاء فإن ثمة أسمـاء لمسرحيات أعلن عنها وعاود الإعلان ولم ينشر منها شيء، وهــي «تاج محل» و«علي» و«الحسين».

     وكان عمر يبالغ في مكانته الشعرية مبالغة كبيرة بحيث يبدو شاعراً متفرداً لا يشبه الناس ولا يشبهه الناس قط، أما تفرده فهو حقيقة مقررة شهد بها كما مر بنا من قبل أعلام النقاد والشعراء المعاصرين فضلاً عن شعره، أما المبالغة فإنها تحمله على أن يقرر أن له مذهباً خاصاً في الشعر مختلفاً عن مذاهـب شعراء الشرق والغرب، وأنه يختلف عن كافة شعراء العالــم، وأن شعره يختلف عن كافة المدارس والمذاهب القديمة والحديثة. وحين تحدث عن الأخطل الصغير -وكان صديقاً له- نفى أن يكون من مذهبه الشعري، وقال بشيء من التواضع: إن لكل شاعر مذهبه الخاص، لكنه لم يلبث أن فاجأنا بعد ذلك بهذه الدعوى العريضة يقولها لمن يحاوره: أنا أعطيك فكرة لم يقلها أحد قبلي، وكل شعري هكذا.

     وهذا الشعور الحاد بالرغبة في التفرد تحمل عمر على دعوى عريضة أخرى يقول فيها: وكانت فلسفتي في الشعر الذي ولد معي مبكراً ونما وشب، انعكاساً لعشقي للغة العربية التي أتعامل معها بأسلوب يختلف عن أساليب كل شعراء عصري، وربما شعراء العصور الأخرى.

     ومبالغة عمر في مكانته الشعرية تؤدي به إلى انتقاص الآخرين أيضاً، وتقوده إلى أحكام جزافية جائرة، فيقول لك مثلاً: إن للبحتري بيتاً واحداً فقط هو:

يغتلي فيهـــم ارتيابي حتى     تتقراهــم يــــــــداي بلمس

وإن لشوقي بيتاً واحداً فقط هو:

انحسار الشفاه عــــــن سن جذلا     ن وراء الكرى إلى سن نـــــادم

     ويحمله هذا الانتقاص على أن يقلل من قيمة كبار شعراء العربية، فيتهم البحتري بأنه شاعر متسول، ويصف أبا تمام بأنه شاعر تركيبات، ويقرر أن المتنبي له أبيات، أما شوقي فيصفه بأنه قد مات، ولا يتردد في انتقاص بدوي الجبل ونزار قباني. ومثل هذا الموقف من عمر إزاء شعراء أعلام لا يمكن قبوله بحال لا نقدياً ولا فنياً ولا أخلاقياً في قليل أو كثير، وهو أمر ترده أيسر المسلمات الأدبية التي يحيط بها شداة الأدب فضلاً عن علمائه وأعلامه، واللافت للنظر أن عمر مجد في شعره عدداً من الشعراء الذين انتقدهم كالمتنبي وشوقي، وآخرين ممن لم ينتقدهم كحافظ إبراهيم والصافي النجفي والأخطل الصغير.

     ويبدو أن غيظ عمر من أعلام الشعراء حمله على أن يخبرنا أن عنده معلومات عن حوالي مئة وخمسين أو مئة وستين شاعراً عربياً لم يسمع بهم أحد، لأن الناس يسمعون بالمتنبي والبحتري وأبي تمام الذين عرفوا لأنهم تقربوا من الأمراء والوزراء فكتب عنهم وفرض شعرهم خلافاً لأولئك المجهولين الذين أبوا أن يمسحوا جباههم على أعتاب الملوك والأمراء، ثم تتسع أبعاد المبالغة عند عمر فتجعله يقول: الشيء الذي عندي عن التراث العربي قوي جداً وغير موجود عند أحد.

     ليت عمر وضع ما لديه من معلومات عن هؤلاء الشعراء المجهولين والشواعر المجهولات اللواتي تحدث عنهن أيضاً، بين يدي الباحثين لتتحقق الثقة بقوله من ناحية، وليكسب الأدب العربي ثروة جديدة مجهولة من ناحية أخرى، خاصة أن العدد الإجمالي لهم ولهن يزيد على مئتين وثلاثة عشر شاعراً وشاعرة.

     ولعل دافع عمر ــ من حيث يدري أو لا يدري ــ إلى مثل هذا القول هو الرغبة في أن يؤكد تفوقه على أعـلام الشعراء بحجـة اطلاعه على مواد شعرية ثمينة لم يتح لهم أن يطلعوا عليها.

     ولقد كانت صلة عمر باللغة العربية موضع جدل بين النقاد والدارسين، بين منتقد لها ومشيد بها، وليس هذا مجال مناقشة هذا الموضوع، حيث الحديث هنا عن الغرائب والعجائب والادعاءات. لقد عرف عمر بالتمرد على المقررات الدراسية في اللغة العربية نحواً وبلاغة منذ صغره، لكنه حين يتحدث عن حبه للعربية يورد لنا أخباراً غريبة هو بطلها وهو الشاهد فيها، ومنها حكايته مع الشيخ عبد الغفار أيام دراسته في بريطانيا التي يقول فيها: إنني ما درست الأدب واللغة العربية، ولم أتعلم عظمتها وقيمتها إلا في الخارج مع الأسف، وتستغرب كيف؟ كان هناك من كتب مقالاً وأنا كنت تلميذاً بعد، ورددت عليه، فأتاني من إمام جامع ووكنج في لندن الشيخ عبد الغفار مندوب يطلب التعرف علي، فذهبت إليه، وعندما دخل الإمام وأنا جالس في الصالون ــ وكان هناك اثنان آخران ــ لاحظت أنه فوجىء بي، إذ ربما تصور أن يرى أمامه رجلاً كبيراً في السن، ثم إذا بــه أمام شاب في مقتبل العمر، سألني عن المقال، ورأيي في الكتابة، وفي اللغة العربية، وكنت أرد على أسئلته بأسلوبي الخاص، وبما أملكه من اللغة، وبأفكاري المقتنع بها، وطال الحديث وتشعب، وبدا لي يتحدث عن اللغة العربية بدهشة ومحبة وكان أسلوبه رائعاً، واستبنت من الحديث أن الشيخ عبد الغفار قد أعجبه ما أقول، وفهمت أنه يحضني على الاستزادة من العلم والمعرفة، والتعمق في اللغة العربية، والنهل من معينها الثر، والإبحار في مداها اللانهائي. وفعلاً كان ذلك ما فعلت، وجعلت همي أن أتعلم وأتعلم وأستزيد من هذا البحر وأنا في الخارج حيث اكتشفت عظمة اللغة العربية.

     ومنها أنه يشيد بكتاب للمستشرق نيكلسون يسميه «اللغة العربية أم اللغات»، ويقرر أنه أجدر المستشرقين بالتحدث عن اللغة العربية، وأنه يذهب في كتابه هذا إلى أقوال تدعونا إلى الاعتزاز من جهة، وتضعنا أمام مسؤوليات جسام في التعامل مع لغتنا الأم من جهة أخرى. ومنها أنه يشيد بكتاب يصفه بأنه «دراسة نادرة» قد تكون الأولى من نوعها تتحدث عن تأثير لغة الضاد على سائر اللغات الأجنبية، من تأليف أبي الغوش.

     ومنها أنه اطلع على مخطوطات عربية كثيرة في أثناء سفارته في الهند، وكشف فيها عن ثلاث وستين شاعرة، ومئة وخمسين أو مئة وستين شاعراً، لم يسمع بهم أحد لأنهم لم يتقربوا إلى الأمراء والوزراء، وأن هذه المخطوطات تعد بعشرات الألوف. ويروي عمر أنه تحدث مع الزعيم الهندي نهرو بذلك فأمر بحفظ هذه المخطوطات. واطلاع عمر على هذه المخطوطات واصطفاؤه هذا العدد الكبير من كبار الشعراء والشواعر منها يؤدي بلغته العربية ــ لو حدث فعلاً ــ إلى زيادة سيطرته على أدواته اللغوية.

     إن ما رواه عمر عن هذه المصادر اللغوية التي لم يعرفها سواه، من شأنه أن يحمل سامعه على الاعتقاد بأن لديه معرفة لغوية خاصة حصل عليها من مصادر لم يصل إليها الآخرون، مما جعله متفرداً بينهم ومتفوقاً عليهم، وهو ما يريد أن يلقيه في روع سامعه. أما الشيخ عبد الغفار والسيد أبو الغوش وكتاب نيكلسون والشعر المبثوث في المخطوطات الكثيرة في الهند فحقيقة أمرها عند عمر، وعند عمر وحده.

     ويسترسل عمر كما يحلو له وهو يتحدث عن ثقافته الواسعة في الميادين المختلفة لا في الشعر وحده، وهو حين يتحدث عن ذلك يلقي أحكاماً جزافية، ويقع في التعميمات غير المسؤولة، ويضعنا أمام مبالغات لا يمكن قبولها. يروي لنا أنه عرف فلاسفة غربيين كباراً لكنه لم يلبث أن وجدهم سطحيين أمام فلاسفة الهند. يقول: عاصرت نقاداً أجانب كثراً وأغلبهم التقيتهم في الهند التي أعتبرها نقطة الضعف الجمالية عندي، فكم رأيت وزرت بلاداً وعرفت أماكن، لكن الهند تبقى الأجمل والأعظم، وكم عرفت فلاسفة غربيين كباراً، وعندما اطلعت على الثقافة والفكر في الهند وجدت هؤلاء سطحيين أمام العمالقة من فلاسفة الهند، واكتشفت أنهم أخذوا أو سرقوا من الفلسفة الهندية، ووضعوا مدارسهم التي اعتبرت أساس الثقافة العالمية مثل ويدي، وديكارت، وغيرهما.

     ولنأخذ مثلاً نهرو، فقد فرضت السياسة عليه فرضاً لأنه فيلسوف عملاق، وكريشنا أيضاً من عباقرة زماننا وفلاسفتهم، أما طاغور فيعتبر ثانوياً بالنسبة لهؤلاء وغيرهم من عمالقة الفكر الفلسفي العالمي، وقد توسعت كثيراً في دراسة الفكر والفلسفة في الهند، وأنا أحافظ على زيارتها فــي كل عام لأن ما يربطني بها عميق جداً، وإعجابي بطبيعتها كبير وخاصة جبال الهملايــا.

     هكذا استبان لنا عمر أبو ريشة.

     إنه لا يجد حرجاً في أن يقول لنا: إنه كثيراً ما كان يجلس في حدائق البيت الأبيض بين الساعة الرابعة والخامسة بعد الظهر مع الرئيس الأمريكي كيندي وهما يتحدثان في شتى موضوعات الأدب والفلسفة! كما لا يجد حرجاً في أن يقرر أنه اطلع على أعمال الشعراء والأدباء وبلغاتهم الأصلية! ولما كانت اللغة مفتاح الثقافة فإن عمر يقرر بدون حرج أو تحفظ أنه كان يتعلم لغة كل بلد يحل فيه خاصة أن لغة الناس تساعده على سبر أغوار نفسياتهم! ولما كان عمر محباً لأمته وحضارتها وشعرها فإنه كان يلقي المحاضرات عن ذلك كله في مختلف بقاع العالم! وبلغات تلك البقاع! كما أن حبه للتراث العربي يجعله يقرر أن عنده عن هذا التراث ما لا يوجد عند أحد آخر! ولما كان عمر علماً في الشعر والثقافة والفلسفة فإنه منح سبع عشرة درجة دكتوراه فخرية! وكتب عنه باللغات الأجنبية عدد مماثل من الرسائل العلمية! كما أنه الشرقي الوحيد الذي منح أكبر جائزة عالمية في الشعر!.

     إن هذه المبالغات والادعاءات والأحكام غير المسؤولة من شأنها أن تضفي على صاحبها هالة ثقافية كبيرة تتجاوز الحقيقة بكثير، خاصة إذا عرفنا أن عمر تنقل كثيراً خلال عمله في السلك الدبلوماسي، وأن فترة تفرغه للدراسة النظامية كانت قصيرة لا تفي ببعض ما يقول، فضلاً عن أعماله واهتماماته وعلاقاته التي كانت تستنزف كثيراً من الوقت والجهد.

     أما دراسة عمر في بريطانيا التي استمرت ثلاث سنوات ما بين عامي «1929ــ1932م» فهي بمنزلة المجهول المعلوم المتناقض لكثرة ما نجد حولها من المعلومات المتضاربة، يرويها عمر أو يرويها عنه من كتبوا عنه كالدكتور سامي الدهان وسامي الكيالي وأحمد الجندي وعبد الله يوركي حلاق.

     فمرة نسمع أن والده أرسله إلى مانشستر ليدرس صناعة النسيج، ونسمع أخرى أنه أرسله لدراسة الهندسة، كما نسمع أن أباه اختار له النسيج والصباغة في رواية، والكيمياء العضوية في رواية أخرى. أما عمر فيخبرنا أنه حصل على الدكتوراه في الكيمياء العضوية، كما يخبرنا أنه درس طريقة صنع آنية المطبخ الصغيرة مثل الصحون والطناجر الملونة التي لا تتعرض للصدأ.

     والتناقض في هذا الكلام يرده من أساسه، خاصة إذا انتبهنا إلى عنصر الزمن، حيث أقام عمر ثلاث سنوات، وهذا الوقت القصير لا يكفي للحصول على درجة البكالوريوس وحدها؛ فكيف بالدكتوراه!؟ وهــب أن الوقت اتسع لذلــك، فهل يمكن أن يتسع لهذه التخصصات المختلفة؟

     ويروي لنا عمر أبو ريشة أن مقامه في إنجلترا أتاح له الفرصة الثمينة لقراءة عدد من الشعراء الكبار الذين شغف بهم، وأن أحب الشعراء إليه اثنان هما: بو وبودلير اللذان أنفق الساعات الطوال في مطالعة آثارهما. كما أنه يروي لنا أن مقامه في بريطانيا أتاح له التعمق في دراسة الشعر الإنجليزي بصورة خاصة، والشعر العالمي بصورة عامة!.

     ترى هل كانت هذه السنوات الثلاث من البركة بحيث تمنح عمر القدرة على معرفة هؤلاء الشعراء، فضلاً عن درجة الدكتوراه ومقدماتها من بكالوريوس وماجستير، فضلاً عن التخصصات الكثيرة المزعومة؟

     ولعل الصحيح أن عمر أقام في بريطانيا هذه السنوات حراً طليقاً لم يعكف على دراسة جادة منتظمة، ولا تخصص بعينه، وأنه اطلع على الشعراء الذين ذكرهم بدرجات متفاوتة، بعضها عابر سريع، وبعضها عميق ذو أناة، ولابد أنه استفاد من صور هؤلاء وأخيلتهم، لذلك لم يحصل على شهادة، بل حصل على خبرة حيوية وشعرية.

     وثمة رواية للأستاذ عبد الله يوركي حلاق تزكي ذلك تمام التزكية، مفادها أن الزعيم حسني الزعيم الذي حكم سورية فترة قصيرة إثر انقلاب عسكري قام به عام 1949م، والأستاذين الصقال والكوراني، كانوا على إعجاب كبير بعمر الذي كان يومها مديراً لدار الكتب الوطنية في حلب، وكانت الحكومة في حاجة إلى سفراء ووزراء مفوضين فاقترح الأستاذ فتح الله الصقال أن يعين سفيراً في البرازيل، فاعترض حسن جبارة بدعوى أن تعيينه مخالف للقانون لأنه لا يحمل شهادة جامعية تخوله هذا الحق، فرد عليه الأستاذ الصقال بأن عمر أكبر من الشهادات.

     لقد كان عمر شاعراً كبيراً جهيراً متفرداً، وكان له في ذلك ما يغنيه عن الشهادات والتخصصات المزعومة، ولقد سبق بمكانته الشعرية كثيراً ممن حملوا أعلى الدرجات العلمية، ولعل مجده أخلد من أمجاد أكثرهم. ولقد كان له في أمثال الرافعي، والعقاد، وحافظ، أسوة حسنة حيث بلغوا ذروة عالية في تاريخ الأدب العربي دون أن يحصلوا على شهادات علمية، ولم يحملهم ذلك على أية مزاعم، كما أنه لم ينتقص من مكانتهم شيئاً.

     وبعد:

     فإن عمر -غفر الله له- قد أتعب نفسه وأتعب قراءه ومحبيه فيما كان يرويه من قصص وطرائف وغرائب ومبالغات وادعاءات مررنا على بعضها في هذا الفصل، على أن ذلك ليس من شأنه أن ينتقص من مكانته الشعرية المقررة التي نالها عن جدارة، واحتل بها مكاناً مميزاً، بل إنه ليس من شأنه أن يهدم حقيقته النفسية، وهي أنه رجل إباء وكبرياء، وصاحب مواقف جريئة.

     وقد يبدو هذا الأمر مردوداً؛ إذ كيف يسمح صاحب الإباء والكبرياء والجرأة لنفسه بما يقدح في ذلك بل بما يناقضه!؟ والسؤال منطقي، ولعل الجواب الصحيح عليه أن النفس الإنسانية ربما جمعت بين المتناقضات، ولا يخلو أحدنا من تجارب شخصية وجد فيها لدى بعض كرام الإخوة والأصدقاء الموصوفين بفضائل عالية، نقائص مذمومة لا تتفق مع سمتهم العام النبيل في قليل أو كثير. وإذا صح هذا الأمر في الناس عامة، فهو في الشعراء أصح. ولله في خلقه شؤون!.

     وإذا صح أن المتنبي ادعى النبوة فإن هذا الادعاء الشنيع لم يسقط شعره قط، فقد ظل من أعظم شعراء العربية إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق؛ وإن غضب عمر أبو ريشة وسخط، الذي سوف يبقى هو الآخر شاعراً عظيماً له خصوصيته وتفرده، لا يسقط شعره بسبب مبالغاته وادعاءاته، مثله مثل المتنبي الذي مجده في شعره، وسخر منه في مقابلاته.
❊❊❊

------------------------
[1] لعل الصواب (ركض) لا (ركب)، فالسياق يستدعي ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة