السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - صورة كلية

صــورة كليــة

إدراك الصورة الكلية عون على فهم جزئياتها.

     عمر أبو ريشة شاعر عربي شهير من سورية، ولد في منبج على رواية، وفي عكا على رواية أخرى، ترجع أصوله إلى قرية القرعون في لبنان، عاش ثمانين عاماً أو أقل بسنة واحدة، أو أكثر ببضع سنوات، فلدينا ثلاث روايات عن ميلاده هي: «1908 - 1910 - 1911م». أما وفاته فقد كانت في الرياض في «21/ 22/ 1410هـ = 7/ 14/ 1990م».

     تلقى تعليمه المبكر في عكا، والابتدائي في حلب، ومنها ذهب إلى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث أتم تعليمه الثانوي، ودخل الجامعة فترة قصيرة، ومنها ذهب إلى بريطانيا فدرس في مانشستر مدة ثلاثة أعوام، عاد بعدها إلى حلب حيث مارس فيها أول عمل وظيفي له، ومنها خرج سفيراً لبلده لمدة عشرين عاماً انتهت بتقاعده عن العمل الوظيفي، فاتخذ من بيروت وجدة داراً ومقاماً حتى انتقل إلى رحمة الله في الرياض، ونقل إلى حلب فدفن فيها.

     طويل بائن الطول، رشيق أنيق وسيم، يحسن الحديث، ويحسن الاستمــاع، أنيس المحضر، عف اللسان، كريم الطبع، يجيد عرض أفكاره بشكل منطقي مرتب، ولابد أن للدبلوماسية أثرها في ذلك، وقد لا يجادل دونها كثيراً لكنه يتمسك بها بأدب وإصرار، وقدرته على الحديث الطلي تذكرنا بقدرته على الإلقاء، والفارق بينهما هو الفارق بين طبيعة الشعر والمحافل وبين طبيعة النثر والمجالس. يطرب للدعابة ويلقيها على ندرة، مهذب يحترم جلساءه، ويشعرهم بوده وبالقرب منه، يصح فيه ما قاله الأستاذ ياسين رفاعية: كنا نشعر ونحن نلتف حوله أننا أمام أمير وفارس من نبلاء القرون الوسطى.

     يمكن أن يقال: إن مفتاح شخصيته هو الإباء والكبرياء، لذلك عاش عزيز النفس، نزاعاً إلى التمردن مولعاً بالحرية، غيوراً على الدين والأمة. ويحمد له أنه رد للشعر كرامته، فقد أبى أن يكـون الشاعر النديم فضلاً عن الشاعر المرتزق، لذلك خلا ديوانه من المدح، ولذلك كان شعـــره ــ في غالب أحيانه ــ تجسيداً لرجولتـــه، وتعبيراً عـن همومه الخاصة وهموم أمته العامة.

     عرف بالجرأة التي جعلته يتخذ مواقف شجاعة، الأمر الذي جعل مواقفه وجعل شعره فيها حديث الناس يتخطفونه ويحفظونه وينشدونه.

     جمع إلى اعتزازه بنفسه اعتزازه بأسرته وعشيرته، واعتزازه بدينه وأمته، واعتزازه بموهبته الشعرية أيضاً. على أن هذا الاعتزاز كان يتجاوز مداه فيصل إلى مبالغات لا تقبل كأن يروي لك أن فلاناً وصفه بأنه شاعر العرب الأكبر، ويورد لك ذلك كأنه حقيقة مقررة، وكأن يقول: للبحتري بيت واحد جيد، وللمتنبي أبيات فقط، وأنه منح سبع عشرة دكتوراه فخرية، وأن عدداً مماثلاً من رسائل الدكتوراه كتب عنه باللغات الأجنبية، وأنه يختلف عن كافة شعراء العالم، وعن كافة المذاهب والمدارس الحديثة والقديمة، وأنه يتعامل مع العربية بأسلوب يختلف عن أساليب كل شعراء عصره، وربما شعراء العصور الأخرى، وأنه أتقن اللغات: الإنجليزية والفرنسية والتركية والألمانية والإيطالية والروسية والبرتغالية والإسبانية والهندية والأوردية، وأنه يحاضر بأربع منها، ويكتب الشعر باثنتين.

     عاش حياة عريضة خصبة في الأدب والسياسة والترحال، وفرض نفسه شاعراً متفرداً لا على مستوى سورية وحدها، بل على مستوى الوطن العربي كله. له ذاتيته وحضوره وتفرده، ومرد ذلك إلى موهبته أولاً، وثقافته ثانياً، وأسفاره ثالثاً، وظروفه المواتية رابعاً، وجرأته خامساً، وتجويده لشعره سادساً، إذ كان كثير النظر فيه حذفاً وتبديلاً وإضافة، ولذلك يمكن أن يصنف في مدرسة «عبيد الشعر»، وشعره يعد بالقياس إلى عمره المديد قليلاً، وهي نقطـة تحسب له لا عليـه.

     ولابد من الإشارة إلى أن هناك من الدارسين والشعراء المعاصرين من يرى أن الشعر صنعة وجهد ومران وتثقيف، لا إلهام أو وحي أو عبقرية، نرى ذلك عند الدكتور طه حسين في كتابه «حافظ وشوقي»، والدكتور يوسف خليف في مقدمة ديوانه «نداء القمم»، والدكتور إبراهيم أنيس في كتابه «موسيقى الشعر»، والدكتور محمد مندور في كتابيه «في الميزان الجديد» و«النقد المنهجي عند العرب»، والدكتور شوقي ضيف في كتابه «الفن ومذاهبه في الشعر العربي»، والشاعر صلاح عبد الصبور في كتابه «قراءة جديدة لشعرنا القديم». وقبل هؤلاء قرر الجاحظ في كتابه «الحيوان» أن الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير.

     إن هذا الرأي جدير بالاحترام، ولابد من تقييده بأمرين، الأول: أن يكون الشاعر صاحب موهبة حقيقية بادئ ذي بدء، والثاني: ألا يشتط في الصنعة بحيث يقع في التكلف والافتعال اللذين يوصدان أمام شعره منافذ التلقي والقبول لدى الناس.

     ووفق هذا الرأي المقيد، يمكن أن يعد عمر أبو ريشة، شاعراً صانعاً مقتدراً، ينتمي إلى مدرسة «عبيــد الشعر» لأنه صاحب موهبـة حقيقية أولاً، ولأنه لم يقع في التكلف والافتعال ثانيـــاً. لقد جمع شعره بين الطبع الحي والصنعة المعتدلة في اتساق وانسجام بديعين.

     ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الشاعر المتفرد الذي بذل جهداً غير عادي في الإتقان، والذي تعددت محاور شعره، وتنوعت المؤثرات والمدارس الفنية والسياسية والثقافية التي كونـت شخصيته، يعسر تصنيفه شاعراً ينطوي تحت هذه المدرسة أو تلـك، فلقد استوعب التراث العربي، والمدارس الأدبية الحديثة، كما استوعب الكثير من مدارس الأدب الغربي، لكنه ظل في النهاية شاعراً متفرداً متميزاً له عالمه، وله خصائصه، وله شخصيته المستقلة، كأنه النحلة تشتار رحيق زهور كثيرة متنوعة، لكنها في النهاية تجود بعطائها الخاص الممتع، وتضع عليه بصماتها فتعرف به ويعرف بها. وما أصدق ما قاله في حق نفسه: لقد بنيت كوخي على نحو عربي خالص، ولست نزاعاً إلى مذهب دون مذهب، وما يبدو في شعري من أطياف الغرب نوع من التمثل والتأثر من غير قصد!.

     وبطبيعة الحال يمكن أن تجد شيئاً من سمات هذه المدرسة الأدبية أو تلك في شعر عمر أبو ريشة، لكن ذلك لا يجعله ينحصر في أسوار واحدة منها؛ ذلك أن له من التفرد والخصوصية ما يجعل خصائصه الفنية تلتقي مع أكثر من مدرسة دون أن تحيط به واحدة منها إحاطة تامة.

     إن بوسعك أن تجد في شعره شيئاً من الواقعية في تعبيره الشجاع عن قضايا أمته وهمومها، وشيئاً من الرومانسية في عواطفه المتدفقة وشعوره الحي وذاتيته الظاهرة لا يبلغ حد الميوعة والنرجسية، وشيئاً من الكلاسيكية في أوزانه ولغته وأسلوبه وموضوعاته، وشيئاً من الرمزية يطل على قلة واستحياء لأنه كان شاعر محافل، جهيراً يملأ السمع والبصر مما يتنافى والرمز الذي تطاوعه الذاتية الحادة والخصوصية المفرطة، لكنه يبقى بعد ذلك متفرداً عصياً على التصنيف، تضاف إلى ذلك صعوبة أخرى تجعل التصنيف أمراً صعباً بالنسبة له وبالنسبة لغيره، وهي أن المدارس الفنية التي ينسب النقاد الشعراء إليها فضفاضة بسبب طبيعة الفن الذي يظل للأذواق الشخصية والأمزجة الخاصة أثرها الكبير عليه خلافاً للمدارس الدينية والسياسية والاقتصادية.

     وما أصدق ما قرره في هذا المجــال الدكتور الطاهر أحمد مكي من أن: التصنيف على أساس المذاهب والحركات الأدبية لا يخلو من صعوبات ومشكلات مردها إلى أن التسميات فضفاضة، لا تعني شيئاً واضحاً محدداً، كالكلاسيكية والرومانسية والواقعيــة، أو تجيء بالغة الضيق لا تنطبق إلا على عدد محدود من الشعـراء، كالتصويرية والدادية والوجودية، واتجاهات أخرى لا تكاد تذكر، إلى جانب أن إبداع الشاعر من الممكن أن ينطوي تحت أكثر من مذهب لتطوره أو لتقلب مزاجه!.

     إلقاؤه فريد متميز، بشهادة كل من سمعه، وهو في عصره أشبه بحافظ إبراهيم في عصره، لقد كان كل منهما الأستاذ الأول لإلقاء الشعر في جيله.

     جدد في شعره من خلال الموضوعات، والحرص على طرافة الفكرة، ومن خلال الوحدة العضوية التي برز فيها وتألق، والصورة الشعرية التي كان فيها صياداً بعيد المنال، والموسيقى التي التزم فيها في الجملة بالتقاليد المأثورة لأوزان الشعر العربي مع المرونة التي تتيح له التحرك من خلال ثوابتها، وقد كانت تلك أهم أمجاد الشاعر الفنيـــة.

     وإذا كان الشاعر يشترك مع الآخرين في هذه الأمجاد فإنه يكاد ينفرد عنهم بمجد خاصن هو الحـرص على الختام المفاجئ الباهر الذي كان يسميه «بيت المفاجأة».

     عادى الأشكال الحديثة من الشعر، وعدها جزءاً من مؤامرة عالمية ضد ثوابت الأمة، ودعا إلى حربها بلا هوادة.

     هو شاعر غنائي قبل كل شيء، أما شعره المسرحي فقد بدأ بداية واهنةن ثم تحسن بعض الشيء، ثم توقف إلا من تجارب غير مكتملة، ووعود لا تتجاوز الأحلام.

     نظم في الإسلاميات، وفي المرأة، وفي الرثاء، وفي الوصف، وفي التاريخ، وله شعر قصصي، وشعر فيه سمات ملحمية. أما شعره الوطني فله فيه حضور كبير كان من أهم أسباب شهرته، وكان من شعراء المحافل البارزين.

     كانت له صداقات واسعة مع أدباء ونقاد وشعراء وصحفيين وأعيان ورجال أعمال وسفراء وساسة ووزراء ورؤساء وملوك، واتسعت هذه الصداقات لتشمل العربي وغير العربي والمسلم وغير المسلم، وقد أعانته على اكتسابها أسفاره ومناصبه وشاعريته وجرأته ودبلوماسيته فضلاً عن أدبه الجم وذوقه الرفيع وكياسته.

     مسلم محب للإسلام غيور عليه مدافع عنه، يعترف بتقصيره وضعفه البشري ويسأل الله المغفرة، وثقافته الدينية أقل بكثير من حبه لدينه وغيرته عليه، لذلك كان فيها قصور كثير يظهر مثلاً حين يتحدث عن الحلول والتقمص والتناسخ، وما في الهند من طاقات روحية عظمى والتسامي الروحي والتطهر اللذين يخرج بهما من يتأمل المشاهد الجنسية الفاضحة في معابدها، يتحدث عن ذلك دون استنكار، بل هو إلى التصديق أقرب.

     ثقافته العامة جيدة، وثقافته العربية متوسطة، أما صلته بالشعر العربي القديم ففيها أكثر من رأي، لكن هناك رأياً يكاد يكون متفقاً عليه، وهو أنه كان وثيق الصلة بعيون الشعر العربي يتمثلها ويتملاها ويغوص على أسرارها، وربما التفت إلى فرائد نادرة تغيب عن المختصــــين.

     محب للحياة مقبل عليها يسخو على نفسه ويحب المتع ويحرص عليها، حـــاول أن ينتحر أكثر من مرة، أو فكر في الانتحار، لكنه كان دائماً يعود أكثر إقبــالاً على الحيـــاة وشغفـاً بها.

     وفيٌّ لأصدقائه يطيب له أن يسمر مع الصفوة منهم طويلاً وهم يتحدثون في الأدب والفن والسياسة والذكريات.

     مضى عُمَرُ الإنسان كما يمضي كل الناس، وبقي عُمَرُ الشاعر، بقي شاعراً متفرداً يشهد له بهذا التفرد الكثيرون، فالشاعـــر المهجـري زكي قنصل وهــو صديق قديم له يقـول عنــه: ومن هنا كان هذا الطابع الفريد في شعره الذي يكاد يكون وقفاً عليه دون الشعراء. والشاعر حسن عبدالله القرشي وهو الآخر صديق قديم له يصفه بأنه كان فرداً في هندسة القصيدة، وكأنه يرسم لوحة مستكملة عناصر الفن.

     والشاعر بلند الحيدري وهو أيضاً صديق قديم له يصفه بأنه ذو خصوصية متمـيزة.

     أما الدكتور شكري عياد فيقرر أنه أحد أعلام الشعر العربي المعاصر وإضافة متفـردة لتاريخه، ويؤكد هذا التفـرد كل من الدكتور جميل علوش، والدكتور سامي الدهان، والدكتور عمر الدقاق، والدكتور حلمي محمد القاعود، والدكتور حسن ظاظا، والشاعر سليمان العيسى، والأستاذ أحمد الجندي، والأستاذ سامي الكيالي، وغيرهم.

     أما شيخ مؤرخي الأدب العربي في العصر الحديث الدكتور شوقي ضيف فأشاد به أيما إشادة في الفصل الممتع الذي عقده عنه في كتابه «دراسات في الشعر العربي المعاصر».

     والحقيقـــة أن تفرد شاعر ما أمر عسير وشاق، وهو في عصرنا الحاضر أكثر عسراً ومشقة، ذلك أن العصر الحاضر بتعقده وتواصله وتسارعه وتدفق معلوماته يكاد يلغي الخصوصية والتفرد من حياة الناس، ويجعلهم أنماطاً متشابهة تصدر عن ثقافة عصرها العامة المشتركة أكثر مما تصدر عن تجاربها الذاتية الخاصة.

     وقد عبر عن ذلك الدكتور شكري عياد تعبيراً بديعاً حين قال: كان أبو تمام والمتنبي وأبو العلاء ذوي ثقافة أدبية وفلسفية عميقة، وكان دانتي حسن الإلمام بفلسفة توما الأكويني ولاهوت العصور الوسطى، وكان بلزاك مواكباً للتقدم العلمي الذي أحرزه عصره... ولكن التجربة المباشرة تجربة الشاعر أو الكاتب في الحياة ظلت هي المصدر الأهم للشعر والأدب خلال تلك العصور كلها... أما الآن فقد انعكس الوضع... والمجتمع الحديث قلما يتيح لأبنائه تجارب حيوية خصبة. إن شؤون حياتنا اليومية مرتبة سلفاً بألوف من الفنيين الذين يشبهون جن سيدنا سليمان ينظمون لنا مأكلنا وملبسنا وتسليتنا.

     وإذن فإن تفرد عمر أبو ريشة الذي شهد له به فيمن شهد الدكتور شكري عياد نفسه، في هذاالعصر الذي يضغط على الناس، ويكاد يجعلهم نسخاً مكررة من خلال «جن سليمان» هو تفوق غير عادي يتجاوز ظرفاً غير عادي، استحق به عمر أبو ريشة مكانة غير عادية.

     وشعر عمـر أبو ريشة يدل إلى حد بعيد على حياته وعلى عصره وعلى صنعته على السواء، وإن من أمارات الشاعر العظيم أن يحقق شعره هذه الدلالة فيكون صورة «نوعية» تترجم عن ذاتها لا صورة «نمطية» تكرر الآخرين.

     يقرر الأستاذ العقاد في مقدمة كتابه «ابن الرومي حياته من شعره» أن ديوان الشاعر صورة نفسه الخاصة، وأن هـــذه هي الطبيعة الفنية التي تجعل شعر الشاعر ترجمة حياته الباطنـة، كما يقرر في كتابه «ساعات بين الكتب» أنك إذا لم تعرف حياة الشاعر من ديوانه فما هو بشاعر ولو كانت له عشرات الدواوين.

     ووفق هذا المعيار الفني الدقيق والصائب معاً الذي وضعه الناقد الكبير يمكن أن يوصف عمر أبو ريشة بأنه شاعر كبير له تفرده، وله خصوصيته، وأن شعره يترجم عصره وحياته وصنعته على السواء.
❊❊❊

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة