الأحد، 2 يناير 2022

عهود الأصفياء


عهود الأصفياء

رأيت مجموعة من الشبان الأخيار الواعدين، فيهم دين ونبل وطموح، فأعجبت بهم، وكتبت لهم هذه العهود؛ لتكون مبادئ تحكم صلتهم، وتحميها من الضعف، وتقودهم إلى مزيد من الصلاح والنجاح.

     إن دائرة الأخوّة بين المسلمين دائرة واسعة، تجعل المسلم يحب كل أخ له في هذه الدنيا؛ امتثالاً لقول اللَّه تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، لكن هناك أخوّة خاصة تقع ضمن دائرة الأخوّة العامة يخص بها المسلم بعض من حوله، حباً وعوناً ونصحاً ونصرةً وإيثاراً والتقاءً ومشورةً، ولا تناقض بين الأخوّتين لأن منبعهما واحد هو الدين الحنيف، وغايتهما واحدة هي الظفر برضوان اللَّه تعالى وتعميق الانتماء إلى الأمة الواحدة، ولقد آخى الرسول الكريم e عند الهجرة إلى المدينة المنورة بين المسلمين أنصاراً ومهاجرين أخوَّة ثنائية شاملة كانت تقوم بين واحد من المهاجرين وآخر من الأنصار، وما كانت هذه الأخوة الثنائية لتنتقص من الأخوة العامة أو تكون بديلاً منها.

     واليوم - ونحن في هذا العصر اللاهث الذي طغت فيه الأثرة والفردية والتسارع، وضعف فيه التعاون بين الناس حتى بات الفرد يشعر أنه يكاد يكون وحده في معمعة الحياة - تبدو الحاجة ماسة جداً إلى هذه الأخوّة الخاصة التي تنشأ بين الأخ وبين عدد مختار من الإخوة الكرام الأصفياء، يجد فيها طعم الحب في اللَّه، وفوائد التعاون على الخير، والواحة التي يستظل بها في هجير الحياة اللاهب، يصطفيهم ممن يلتقي معهم ميولاً وروحاً واهتماماً وظروفاً.

     وإذا كانت الحاجة ماسة جداً إلى هذه الأخوّة الخاصة في الظروف الصعبة التي يمر بها الإنسان في هذا العصر اللاهث، فإنها في الظروف الاستثنائية - ومنها الغربة، والمرض، والهجرة، والحروب، والكوارث، والبطالة، والعجز، والشيخوخة - تصبح أشد، وألزم، لأنها في هذه الأحوال تغدو كطوق النجاة الذي يحمي الإنسان من الهلاك بإذن اللَّه.

     ويمكن أن تتكون هذه الأخوّة الخاصة بين مجموعة من زملاء في مهنة، أو جيران في حي، أو أبناء مدينة أو قرية أو إقليم، أو أقارب، أو فريق معنيٍّ بأمر ما، أو أمشاج من هذه الشرائح المتنوعة.

     والتعصب لهذه الأخوة الخاصة أمر مفيد لأنه مدعاة إلى مزيد من التعاون الخيِّر، وإنما يذم التعصب إذا زاد عن حده فتحول إلى جاهلية مقيتة، ومن أجمل ما قيل في التفريق بين التعصب الحميد والتعصب الذميم جملة بليغة - لعلها للشيخ رشيد رضا يرحمه اللَّه - تقول: «القليل من التعصب يعمِّر، والكثير منه يدمِّر».

     ومن الدواعي المنطقية العملية التي تزيد من قيمة هذه الأخوّة الخاصة وتعليها، وتعطيها أولوية على ما سواها، أن مروءة الإنسان وماله ووقته وطاقته محدودة لا يمكنه أن يوظفها بالقدر نفسه للقاصي والداني، فلا بدَّ من التريث والاصطفاء.

     وفيما يأتي مجموعة من الضوابط والمفاهيم والقواعد والأخلاقيات التي يرجى أن تأخذ بهذه الأخوة إلى النجاح، ويمكن أن تحمل اسم «عهود الأصفياء»، ومن شاء أن يختار اسماً آخر فله ذلك.

· الأخوَّة كنز ثمين من خيري الدنيا والآخرة، وهي قبل ذلك كله وبعده امتثال لأمر اللَّه تعالى.

· التواصي بالحق والتواصي بالصبر ركنٌ ركين من أركان هذه الأخوة.

· التناصحُ فريضة من فرائضها، يراه الناصح واجباً، ويراه المنصوح غنيمة.

· الهدف الأكبر من هذه الأخوَّة هو رضوان اللَّه تعالى، وما ينجم عنها من فوائد دنيوية هو فرعٌ لا أصلٌ، وتبعٌ لا غاية.

· في التناصح ينبغي أن نتذكر التوجيه النبوي الشريف الذي يقرر أن المؤمن مرآة أخيه المؤمن، فالمرآة ناصح صادق وجاد وصريح، ولكنه عفيف مؤدب.

· عهود هذه الأخوة تشمل الحياة والموت معاً، فالذي يبقى بعد أخيه يدعو له، ويبر أهله من بعده، والذي يسبق أخاه إلى دار البقاء يزوره في نومه ويحادثه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.

· الضعف البشري أمر مقرر، ولا تستغرب عوارضه حين تصدر عن أحد، ولكن المهم أن تظل للمسلم البوصلة الهادية التي تدله إلى الاستقامة، وتعيده إلى الجادة، ولذلك ليس من المستبعد أن يخطئ المرء في حق أخيه، ولكن الهجر فوق ثلاثة أيام حرام، فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه، أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» متفق عليه.

· ينبغي إشاعة روح التسامح والتغافر والتماس الأعذار واحترام الخصوصيات.

· تحاشي الإلحاحِ والإملال والإحراج والجدل العقيم.

· إعلاء قيمة المال والحرص عليه واستعماله في مرضاة اللَّه.

· معرفة أدب الحوار، والتقيد به.

· معرفة أدب الخلاف، والتقيد به.

· أمران لا يمكن التسامح فيهما: الولاءُ والبراء أولاً، والكذب ثانياً.

· المسلم طالب حق في قوله وفعله، لا طالب غلبة.

· من أشجع الشجاعة الإنصافُ من النفس، وإنصاف الآخرين، والاعتذار، وكتمان السر، والصبر على الاستقامة، والصبر عن المعصية، وقبول النصيحة، وإسداؤها، والمصارحة، والقدرة على التجدد.

· من اللوازم الدنيوية لهذه الأخوّة: بذلُ المعروف، والسعي في الحوائج، وإصلاح ذات البين، وإقراض المحتاج، وردّ الدين، وحفظ الحرمة، والذبّ في ظهر الغيب، وتمني الخير للجميع.

· ومن لوازمها الدينية والدنيوية معاً: عفةُ اللسان، ونقاء الضمير، وسلامة الصدر، والبشر الصادق، والعفو والحلم، والترفع عن معاصي القلوب من حقد وحسد وأثرة وغش ولؤم وشحّ وكبرياء.

· استصحاب النية الخالصة لوجه اللَّه تعالى ينبغي أن يكون حالة دائمة، وأن يقترن هذا الاستصحاب بتحري الصواب، فقد تصدق النية ويضيع الصواب، والعكس بالعكس صحيح.

· النية الصادقة المقترنة بالصواب تحول العادات والمباحات إلى عبادات.

· بعض الناس حَلٌّ حيث يكون، وبعضهم مشكلة حيث يكون، فعسانا نكون من الصنف الأول.

· الإكثار من الاستخارة دأب الصالحين، والإكثار من الاستشارة دأب العقلاء.

· كرم النفس مقدم على كرم اليد، وكلاهما مطلوب.

· نقاء السريرة مقدم على نقاء العلانية، وكلاهما مطلوب.

· لا يمكن أن يكون المتصافون متماثلين متطابقين، فذلك مخالف لسنة اللَّه تعالى في التنوع والاختلاف بين خلقه، فضلاً عما يطرأ على الإنسان الواحد من نقص وزيادة، وعليه فالمطلوب أن تتلاقى إيجابيات هؤلاء المتصافين في التعاون، أما العيوب والسلبيات فيكون فيها التغافر والتناصح والتماس الأعذار، وبذلك يصبح التنوع تنوعَ تكامل وتعاون لا تنوعَ عداوة ونزاع.

· تعاون الأصفياء في دائرتهم الخاصة لا يلغي حق الآخرين عليهم في العون، وإذا تعاونوا فيما بينهم فقط وانغلقوا على أنفسهم دون الآخرين فإنهم - لا محالة - سيقعون في دائرة الأثرة، ويستجلبون عليهم عداوة الآخرين، وعندما يستعلون على من سواهم يسقطون من الغرور، وربما آل الأمر بهم إلى أن يصبحوا عصابة كارهة مكروهة، ومثل هذا الانغلاق خلق يهودي ذميم.

· التغاضي والتجاهل حيث ينبغي أمارة على عقل يقظ، وحكمة بالغة، وحب للخير، ونفس طيبة سمحة، وربما كان التغاضي في بعض المواقف أولى من المصارحة وأجدى.

· ينبغي أن ننزل الناس منازلهم التي يستحقونها لدينٍ، أو علمٍ، أو عقلٍ، أو فضلٍ، أو مروءةٍ، أو سابقةٍ، أو سنٍّ، أو خبرةٍ، أو تجردٍ.

· إذا كان لأحد منزلة يستحقها فعلينا أن نحفظ له ذلك وأن نعينه عليه، وعليه هو أن يجتهد في البقاء على مستواها، وألا تصرفه حقوق هذه المنزلة عن واجباتها.

· إذا كان لأحد منزلة ذات سمت ديني؛ فإن ذلك لا يعطيه حقوقاً خاصة على الناس يطالبهم بها، بل إن ذلك يحمله مسؤولية مضاعفة في التواضع والشكر وخدمة الآخرين، وإذا أعطاه الناس عن طواعية منهم حقوقاً له عليهم؛ فعليه أن يحذر من آفات الغرور والأثرة والتسلط والعُجْب والرئاسة، لأنها سوف تتسلل إليه.

· خير التقدير ما كان عن حب ورغبة واقتناع، وخير الواجب ما نبع عن إحساس نبيل بالمسؤولية,

· وسائل التأثير الخيِّر في الناس عامة، وفي الأصدقاء خاصة؛ كثيرة، ولكن القدوة الحسنة ستظل الأولى منها، خصوصاً إذا اقترنت برجاحة عقل، وسماحة نفس، وحب صادق، وترفع عفيف.

· لكل إنسان في الحياة أسرار خاصة به، وله أن يكتمها عن الآخرين، ولكن ليس لأحد أن يكتم سراً يهم بقية إخوانه، وينفرد به دونهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة