أستاذي أبو الحسن الندوي
حين كنا شباناً نتابع أخبار العالم الإسلامي، وهموم المسلمين وآمالهم، كان الأستاذ الرباني الصالح الشيخ أبو الحسن الندوي؛ أحد الأعلام البارزين الذين نسمع بهم ونتابع أنشطتهم، ونقرأ كتبهم، وبخاصة كتابه الرائد الذي عرف به في المنطقة العربية، وهو: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!»، وأذكر أني قرأته غير مرة، ثم قرأت له كتبه الأخرى، كلها أو معظمها.
ثم شاء اللَّه تعالى أن أتصل به أكثر، من خلال محاضرات ولقاءات وزيارات، زادتني حباً له وإعجاباً به، في المدينة المنورة، وفي الرياض، وفي الهند في ندوة العلماء التي كان أميناً عاماً لها، وفي استراحته الخاصة التي كان يلجأ إليها للعبادة والتأليف، وتقع في قرية «رائي بريلي» التي تبعد عن لكنو 80 كم.
وكما التقيت الشيخ الندوي؛ التقيت آخرين ممن كانت لهم شهرة دعوية، وكنت أرجو لقاءهم، وإني أشهد شهادة ألقى اللَّه تعالى عليها، بعد نظر طويل وتمحيص ومراجعة، أني وجدتهم ثلاثة أصناف:
· الصنف الأول: وجدته كما سمعت عنه، بلا زيادة ولا نقصان، وأهل هذا الصنف مشكورون مأجورون.
· الصنف الثاني: وجدته أقل بكثير مما سمعت عنه، أخذ مكانة لا يستحقها، بعض أبنائه أذكياء لكنهم يتاجرون بالدين ويوظفونه لأهوائهم، وبعضهم مخلصون لكنهم أغبياء، يسيئون وهم يظنون أنفسهم يحسنون، وجميعهم كارثة على العمل الدعوي، كانوا وسيظلون، وأفضل ما يتقرب به هؤلاء إلى اللَّه تعالى أن يبتعدوا عن العمل الدعوي بالانصراف عنه إلى سواه، فإن أبوا حملوا على ذلك حملاً.
· الصنف الثالث: وجدته أفضل مما سمعته عنه، وأبناؤه قلة، لكنها القلة التي تشرُف بها الحياة، ويصح بها العمل، وينعقد عليها الأمل، وفي طليعة هؤلاء الشيخ الندوي، إنه يذكرني بالشاعر العربي القديم الذي كان يسمع عن جعفر بن فلاح، فلما لقيه وجده أفضل مما سمعه عنه فقال:
كانت مُســـــامَرةُ الرُّكبانِ تُخبرُنَا عنْ جعفــر بن فلَاحٍ أطيبَ الخبرِ
ثمّ التقيــنا فلا واللَّه ما سمعــــــت أذني بأحسن مما قد رأى بصري
***
وعن جدارة صار الشيخ الندوي واحداً من أشهر دعاة الإسلام في جيله، ومن أنبل رموزه النبيلة المتجردة، وتجربته الدعوية غنية واسعة، فقد عمل في التربية والتعليم، وسافر وحاضر، وشارك في الندوات والمؤتمرات والملتقيات، وامتدت جهوده في شتى المجالات الرسمية والشعبية، بل امتدت إلى غير المسلمين إما بدعوتهم، وإما بالتعاون معهم في أعمال محمودة مشتركة، وخالط الكبار والصغار، والمشهورين والمغمورين، والقادة والساسة، وكتب إلى عدد من الملوك والرؤساء ناصحاً مقترحاً محذراً، وقابل عدداً منهم للهدف نفسه، ودافع عن قضايا المسلمين في بلده الهند وفي غيره، وتحدث في الإذاعات، وكتب في الصحف والمجلات وألف الكتب وألقى المحاضرات، تحدوه عزيمة صادقة، وحب عميق للإسلام والمسلمين، وقلب يقظ محترق، ورغبة حارة في نهضة الأمة المسلمة حتى تتجاوز عجزها، وتؤدي رسالتها، وتحتل مكانتها اللائقة بها أمة دعوة وهداية، وريادة وقيادة.
وقد وضع اللَّه تعالى لهذا الشيخ المربي النبيل القبول، فسمعته عاطرة طيبة، وصلاحه معروف مشهور، وعفته وزهده محل الإجماع، وترفعه عن السفاسف والتوافه والخلافيات معلم ثابت من معالم شخصيته، وكتبه ذائعة في العالمين العربي والإسلامي، بل حيث وجد دعاة ومربون هي كذلك، وأن منهم تلاميذه الذين يحملون روحه الكريمة الصادقة ومفاهيمه الدعوية الخيّرة يذكرونك به حيث تلقاهم، فهم مدرسة واحدة مباركة ميمونة، تضع بصماتها على من تأثر بها.
ولد الأستاذ الندوي في الهند، من أسرة عريقة في العلم والدعوة، والتربية والجهاد، ترجع أصولها إلى العرب، بل إلى ذؤابة العرب، إلى النسب النبوي الشريف، ومن هنا جاء لقبه الذي يحمله «الحسني».
أما لقبه الآخر «الندوي» فهو نسبة إلى ندوة العلماء في لكنو بالهند التي أعطاها زهرة عمره، وهو نسب عجيب، فالذين يحملون لقب «الندوي» من أبناء تلك المؤسسة المباركة لا تجمعهم قرابة الدم بالضرورة، فذلك شأن عدد قليل منهم، أما أكثرهم فهو اعتزاز بالندوة التي تربوا وتعلموا فيها، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ولائهم لها الذي هو فرع من ولائهم للإسلام الذي تحمله وتبشر به، وتقديمهم هذا الولاء على ما سواه.
والأستاذ الندوي معمٌّ مخولٌ، تلاقى فيه النِّجَاران الكريمان أباً وأمّاً، فكانا بقدر اللَّه من العوامل التي شكلت نفسيته وعقليته، ودفعا به إلى اختيار طريقه الذي اختاره عن بصيرة واقتناع وحماسة.
ولقد كان نسبه هذا قوة دافعة نافعة، فلم يتخذه وسيلة للشهرة وطلب المغنم، ولم يحاول أن يوظفه للحصول على مكانة مرموقة ينتزع بها الإعجاب والإجلال والمهابة، بحيث يتبرك به الناس ويحبونه، ويلثمون يديه، ويقفون له ويوسعون له، ويجعلونه في صدور مجالسهم ومنتدياتهم، بل لقد كان هذا النسب حافزاً دائماً في أعماقه يجعله يطلب الكمال، ويشعره أنه ينبغي له أن يكون على المستوى اللائق بوارثه، وشتان شتان ما بين من يشعر أن نسبه الشريف هو عبء نبيل ومسؤولية دقيقة، ومن يهمل ذلك أو يتخذه مطية لطلب المصالح والمغانم.
وإذا كانت للشيخ النبيل مكانة كبيرة لدى تلامذته ومحبيه حيث كانوا، فإنها أمر لم يقصده ولم يسع إليه، بل هو حصيلة منطقية لأعماله المبرورة وصدقه وإخلاصه، وحب الناس للعبد الصالح وثناؤهم عليه هو عاجل بشرى المؤمن كما جاء في الحديث الشريف.
***
وجاءت بعد ذلك عوامل أخرى شاركت في رسم أبعاد شخصيته، حب للعلم رافقه منذ أن وعى نفسه، وروح مشرقة شفافة جعلته يحرص على نقاء السريرة، وقلب سوي نقي جعله يوازن بين مطالب العقل والنفس، فلا يجور أحدهما على الآخر، وحياء صادق أصيل لا تكلف فيه، وإباء جعله يترفع عما بأيدي الكبراء والأغنياء، وتقلل من الدنيا مخافة أن تشغله عن رسالته الدعوية التي امتلكت عليه لبه، وأدب جم في خطاب الصغير والكبير، والفقير والغني، والجاهل والعالم، والمرؤوس والرئيس، والمسلم وغير المسلم، واشتغال بمعالي الأمور عن سفسافها، وحرص على وحدة المسلمين وجمع كلمتهم والتقائهم على أمر سواء، وكره للخلاف والنزاع والتشرذم، وإيثار للجوهر على الشكل، وللحقيقة على الصورة، فضلاً عن نقاء عقيدته وعبادته وفكره، واعتداله الذي جعله في الوسطية المحمودة بعيداً من الإفراط والتفريط، وجهره برأيه موافقاً أو مخالفاً، وهو ما جعله لا يغفل عن أخطاء من يوافقهم ويحبهم، ولا مزايا من يختلف معهم في قليل أو كثير، وبساطته التي تشي بصدقه مع نفسه ومع الناس خلافاً للمتكلفين والمتفاصحين والمتنطعين، وزهده الذي اختاره وارتضاه والذي لم تدفعه إليه الظروف كما وقع لسواه.
وعلى ذكر الزهد يمكن أن يقال: «الزهد زهدان: زهد اضطرار، وزهد اختيار»، وكلاهما خير، لكن زهد الاختيار أعلى وأغلى، وزهد الاضطرار يكون حيث يجد الإنسان نفسه في ظروف صعبة فلا يسخط، بل يرضى بأقدار اللَّه تعالى، ويصبر ويزهد، وزهد الاختيار يكون حيث يجد الإنسان نفسه في ظروف مواتية، ولكنه يختار الزهد، ويرضى بالقليل شاكراً متعففاً، ولقد كان زهد الشيخ الندوي من هذا النوع النبيل.
***
لم يكن الأستاذ الندوي من العاملين في السياسة، فقد اختار العلم والتربية والدعوة ميداناً له، لكن ذلك لم يجعله غافلاً عنها، بل كان عميق الوعي فيها، دقيق النظر في بداياتها ومآلاتها، أعانه على ذلك صبره، ومتابعته، وانشغاله بهموم المسلمين، ومعرفته بنقاط القوة والضعف في التاريخ الإسلامي.
يزكي ذلك ويؤكده الكثير مما عرف عنه، ومنه الوصية الحكيمة التي أثرت عنه وتناقلها محبوه، وهي نصيحته للدعاة أن يجعلوا همهم أن يصل الإيمان إلى أصحاب الكراسي؛ لا أن يصل أصحاب الإيمان إلى الكراسي ما أمكن ذلك، وهي نصيحة غنية واعية، تدل على شفافية ونفاذ بصيرة، كما تدل على معرفة عميقة بالصراع الذي شاب التاريخ الإسلامي، ومعرفة عميقة أيضاً بالنفس الإنسانية التي قد تختلط فيها الدوافع أو تنقلب فتجعل الهدف الحقيقي لهذا الداعية أو ذاك هو الوصول إلى الحكم من حيث يعلم أو لا يعلم.
وإن على الدعاة أن يطيلوا النظر في هذه النصيحة، ويجعلوها نصب أعينهم، ففيها ما يساعدهم على مراجعة نياتهم وتمحيصها للَّه تعالى، وفيها ما يعينهم على النجاة من صراعات اقتحموها، أو أقحموا فيها، فجرتهم إلى كوارث وتضحيات كانوا في غنى عنها، وفيها - وهو أمر في منتهى الأهمية - ما يجعل الحكام الأخيار والحكام الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً يستمعون إليهم، ويتيحون لهم مساحة من حرية الدعوة، ويكفون عن ملاحقتهم والتوجس منهم، وربما أصغوا إليهم، وأخذوا بقليل أو كثير من خططهم وبرامجهم الإصلاحية، وفي ذلك فوائد جمة، وتوفير للجهد والوقت والمال، وفيه أيضاً تقريب بين الدعاة وهم أصحاب الرأي والفكر والنفوذ الأدبي والروحي، والحكام وهم أصحاب السلطة العملية التنفيذية، وهذان الفريقان هما جناحا الأمة، بهما تسعد، وبهما تشقى.
ومما يستفاد من نصيحة الأستاذ الندوي أن يحسن الدعاة الانتفاع من المناخ المتاح للعمل الدعوي سواء في البلدان الإسلامية أو في خارجها، فكثيراً ما أضاعوا مناخاً متاحاً قلَّ أو كثُر يهيئ لهم فرصة محمودة للدعوة، وقفزوا إلى ما وراءه، فخسروا المتاح ولم يظفروا بما قفزوا إليه، فكان من ذلك شر كبير، كما عليهم أن يرفعوا من الشعارات ما يطيقون، وما تحتمله طبيعة الظروف التي يمرون بها.
وإني أذكر له بمزيد من الإعجاب والتقدير، موقفه من صدام حسين قبيل احتلاله الكويت عام 1990م، فقد حاول صدام أن يضفي على نفسه صفة الرئيس المؤمن الذي اختار الإسلام منهجاً له، ليحظى بالتأييد المأمول حين يقع الاحتلال، فدعا إلى مؤتمر كبير في بغداد ألبسه ثوباً إسلامياً زائفاً حتى انخدع به بعض الدعاة الصالحين، وجاء إلى لكنو مسؤول عراقي يدعو الشيخ للمشاركة في المؤتمر، فاعتذر الشيخ بضعف صحته وبضرورة بقائه في الهند لمتابعة قضايا المسلمين ومشكلاتهم، وأصر المسؤول على الدعوة، وأصر الشيخ على الاعتذار، ولم ييأس المسؤول فقال للشيخ: إن غيابه عن مكانه لن يطول، إذ إن طائرة خاصة ستنقله للمشاركة في المؤتمر، ويجلس في الصف الأول من المشاركين وقتاً قصيراً، ثم تعيده الطائرة إلى بلده بحيث لا يغيب عنه إلا يوماً أو بعض يوم، وبذلك لن يسبب له غيابه القصير أي تأثير يخاف منه الشيخ على صحته وعلى ظروف بلده، فأبى الشيخ.
ولقد أكرمني اللَّه تعالى بزيارة الهند عقب احتلال صدام للكويت، وتشرفت بزيارة الشيخ في لكنو، فروى لي قصته مع المسؤول العراقي الذي جاءه يدعوه للمشاركة في المؤتمر، وقال في ختام روايته: لم أطمئن للمؤتمر، ولم أصدق أن الرئيس العراقي تخلّى عن علمانيته وضلاله، وكنت على يقين أنهم يريدون مني الظهور في المؤتمر، والتقاط بعض الصور لي، واستدراجي إلى شيء من الثناء، ليشيعوا بين الناس أنني من المؤيدين لصدام في احتلال الكويت.
وهذه الواقعة تؤكد أن الشيخ ؒ -الذي كان بعيداً عن السياسة، ومتابعة جزئياتها - ذو نظر ثاقب، وفراسة صادقة، وتجرد خالص للَّه تعالى يعينه على اتخاذ القرار الصواب، وبذلك نجا من الفخ الذي أراد الدهاة الأشرار إيقاعه فيه، ووقع فيه كثير من الدعاة السياسيين منهم وغير السياسيين.
***
والذي يمعن النظر في تجربة الأستاذ الندوي الدعوية يجده يركز في الإنسان قبل الأدوات والوسائل والأشكال، وتلك هي البداية الصحيحة في أي عمل دعوي، فهو يعمل على إيقاظ العقل بالعلم والمعرفة الصحيحة، وعلى إيقاظ القلب بدوام الصلة باللَّه تعالى حباً له وخوفاً منه وتجرداً وإخلاصاً، وعلى إيقاظ روح العطاء والبذل والاهتمام بمعالي الأمور، واقتحام آفاق القيادة والريادة، ولا ريب أن الإنسان الذي تتحقق فيه هذه العناصر المباركة من اليقظة المتكاملة يصبح إنساناً فاعلاً يستشعر مسؤوليته الدعوية، وينهض بأعبائها، فيبني المسجد، وينشئ المدرسة، ويقيم المعهد، ويعقد المؤتمر، ويلقي المحاضرة، وما إلى ذلك.
وليس المقصود الاستهانة بالأدوات والوسائل والأشكال، فهي أمر مطلوب عقلاً وبداهة وضرورة، والأستاذ الندوي قد مارسه بكثير من صوره، وهو عون على صياغة الإنسان وتحقيق اليقظة المطلوبة فيه، لكن المقصود أن يبقى هذا الأمر في مكانه الطبيعي، ولا يتحول إلى غاية في حد ذاتها، أو ينال حظاً من العناية أكثر مما تدعو الحاجة إليه.
وفي العالم الإسلامي كثير من المؤسسات الرسمية والشعبية المتصلة بالعمل الدعوي، عطاؤها أقل بكثير من قدراتها، وربما تحول بعضها إلى ما يشبه الديكور والمتحف، الصورة جميلة حسنة، والعطاء نزر لا يذكر، ولو أنها شحنت بروح اليقظة المتكاملة التي يركز فيها الأستاذ الندوي لكان عطاؤها أضعافاً مضاعفة، وإذن فعلينا ألا نبادر إلى أي أداة أو وسيلة أو شكل مفيد للدعوة إلا بشرطين: الأول: أن يكون بالحجم الذي تدعو إليه الحاجة، والثاني: أن لا يتحول إلى غاية في ذاته، بل الغاية هي إيقاظ الإنسان المسلم الفاعل حيث يكون.
ولقد رأينا كثيراً من النماذج البشرية اتصلت وتخرجت في عدد من المؤسسات الدعوية الشعبية منها والرسمية، وتشكلت بأشكالها، ورددت شعاراتها، وحفظت مصطلحاتها، وقرأت كتبها، وتبنت وجهة نظرها، ودعت الآخرين إليها، واعتزت بانتمائها إليها، ودافعت عن هذا الانتماء، وربما أوذيت من أجله، ومع ذلك فجهودها لا تكاد تذكر، وفي هذه الجهود حماقات وأخطاء تصد عن العمل الدعوي وتنفر الناس منه، والسبب هو غلبة الإطار على الحقيقة، والصورة على الأصل، والتلقين على التربية، والمظهر على المضمون، وتحول الأدوات والوسائل والأشكال إلى غايات بحد ذاتها، أو أخذها حظاً من العناية أكثر مما ينبغي، في مقابل إهمال التركيز في الإنسان الذي ينبغي أن تتضامن كل الجهود الدعوية لإحداث اليقظة المتكاملة المطلوبة منه بحيث يصبح إنساناً فاعلاً حيث يكون.
وتركيز الأستاذ الندوي في الإنسان بادئ ذي بدء؛ هو نقطة البداية الصحيحة في العمل الدعوي، وهو أمر تشهد به تجاربه الكثيرة الصواب منها والخطأ، وهذا التركيز يدل - فيما يدل - على حكمة الأستاذ المربي، وعمق نظره وانتفاعه من تجارب التاريخ وبصيرته النافذة، كما يدل على شخصيته التي يلتقي فيها العقل والقلب، والعلم والخبرة، والتأمل العميق في تناغم واتساق وتكامل.
***
ومن سعة أفق الأستاذ الندوي وحبه للخير واستشرافه للمستقبل نجده يعمل على إنشاء «حركة رسالة الإنسانية»، وهي حركة تريد التعاون مع جميع الهنود من مسلمين وغير مسلمين، لما فيه صالح الهند العام.
وتختلف هذه الحركة عما سواها من الأعمال والحركات والدعوات التي شارك فيها الأستاذ الندوي في أنها انبعثت منه، حيث استولت عليه، وامتلكت أعصابه، فجعلته يفكر فيها، ويخطط لها، ويعمل من أجلها، شأنه في ذلك شأن كل مخلص لفكرة يتبناها ويدعو إليها.
وقد كان الدافع لإنشاء هذه الحركة ما شاهده الأستاذ الندوي في الهند مما سماه «الفوضى الخلقية والانتحار الجماعي»، حيث فشت النفعية والانتهازية، وتراجع احترام الناس للأعراض والأموال والأنفس، وتمت التضحية بالمصالح الكبيرة العامة من أجل مصالح صغيرة تافهة، وأهدر الوقت، وكثرت الرشوات والسوق السوداء وكل ما يخالف الدين والعرف والقانون.
يقول الأستاذ الندوي: «وانتظرت أن يقوم أحد في وجه هذا الفساد، ولكن الحزبية والسياسة لم تدع مجالاً للناس للتفكير في مثل هذه القضايا، وأخيراً قررت رغم شعوري بقلة بضاعتي ووحدتي وضعف تأثيري أن أنزل في الميدان، وأخاطب الناس من دون تمييز بين المسلمين وغيرهم، وأحذرهم من عواقب هذه الحياة المادية المتطرفة.
وإن من واجب المسلم أنه أينما كان يعتبر نفسه مسؤولاً عن مجتمعه، ولا يتعامى عن الأخطار بدس الرأس في الرمل مثل النعامة، ولا يردد درس: (كل شيء على ما يرام)، فإن على المسلم حقاً في كل مكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بالإصلاح وإزالة الفساد، وليحسب نفسه راكباً سفينة الحياة التي إذا غرقت غرق مع الجميع، ولا أروع وأجمل من مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك، لم أجد له مثلاً في آداب أي ديانة وفلسفة أخلاق، روى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا) رواه البخاري.
فنحن كلنا رُكاب سفينة واحدة، هي سفينة بلادنا، إذا غرقت - لا سمح اللَّه - فلا تنجو مؤسساتنا ولا مكتباتنا، ولا شخصياتنا المحترمة، ولا العلماء الفضلاء، ولا العاملون الصالحون.
فليس عندي من طريق لحياة العز والشرف للأمة الإسلامية في هذه البلاد إلا بأن يثبت المسلمون نفعهم وإسعافهم لهذه البلاد، ويملؤوا فراغ هذه القيادة الخلقية الذي لا يزال منذ مدة طويلة، فإنه لا يمكن لأي أقليّة أو فرقة في أي بلد أن يعيشوا حياة الكرامة والعز إلا بإثبات فائدتهم للبلاد، وأنهم ضرورتها وحاجتها، وبالقيادة الخلقية والدعوة الإسلامية والإنسانية الفاضلة.
وقد قمت في صدد هذه الحركة بجولات في ولايات بهار وراجستهان وهريانة، وبنجاب وأترابراديش، وعقدت في مختلف الأماكن احتفالات رائعة ناجحة، كان يحضرها عدد كبير من غير المسلمين من الطبقة المثقفة فيهم، وكانوا يستمعون الخطب والمحاضرات بإصغاء واهتمام، ويبدون تأثرهم وانطباعاتهم الطيبة، وقد قلت في إحدى هذه المناسبات: إن على المسلمين مسؤولية ذات وجهين:
المسؤولية الأولى: أن كتابهم الأخير الخالد القرآن، ورسولهم الخاتم محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يرشدانهم إلى اجتناب هذا الفساد العام والحريق المستطير، ووحل عبادة المادة والمال فحسب، بل يأمرانهم بالوقوف دونه وسد سيله وحماية الناس منه.
والمسؤولية الأخرى: أنهم كانوا وردوا هذه البلاد برسالة احترام الإنسانية والعدل الاجتماعي والمساواة الإسلامية، وقد أسعفوا هذه البلاد في ساعات حرجة دقيقة، ولا تزال هذه الرسالة محفوظة في صحائفهم الدينية، فلو لم يبذلوا جهودهم المستطاعة في الأخذ بهذه السفينة الغارقة أو المتورطة لكانوا عند اللَّه أصحاب ذنب وتقصير وجريمة، وسجّلهم التاريخ غير قائمين بالواجب، كافرين بالنعمة، مجرمين بالغفلة.
واستمرت الحركة بطريقة أو أخرى، ولكن لم يتيسر لها حتى الآن من العناية وبذل الاهتمام والرعاية، ومن الدعاة القديرين والممثلين الأقوياء ما تستحق، وأصبح جُلُّ الاعتماد فيها على رسائل ومحاضرات طبعت ونشرت باللغات الهندية والإنكليزية والأردية، أو على بعض أسفاري ورحلاتي التي تقع أحياناً، ولكني - رغم أزمة الرجال، وقلة الوسائل والأسباب، وعدم إدراك الناس لهذه الضرورة والحاجة الماسة - على ثقة كاملة، كاليوم الذي أنشئت فيه هذه الحركة، بجدّيتها وأهميتها وضرورتها، بل إن الأوضاع المتردّية الشاذّة في البلاد تؤكد هذه الضرورة، وتصدق على هذه الأهمية.
ويبدو لي في هذه الآونة أن اللَّه تعالى يعطي فرصة طيبة للمسلمين لقيادة هذه البلاد من هذا الطريق، والحصول على حياة العز والكرامة والاحترام بحماية هذه البلاد من الوقوع فريسة الفوضى والدمار، فإنه لم يُرفع - حتى الآن - أي صوت ضد هذه الأوضاع بصورة جادة من أي وسط أو فرقة»[1].
إن السعة النفسية والعقلية لدى الأستاذ الندوي، جعلته يحب الخير للهنود كلهم، وجعلته يحرص على تحقيقه لهم، فإذا به يعمل معهم في المساحة المشتركة من العمل النافع التي تجمع العقلاء من البشر أياً كانوا، ولعله كان يستلهم ما فعله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين شارك في حلف الفضول قبل الإسلام، وهو حلف التقى فيه أهل مكة المكرمة على دفع الظلم، وإحقاق الحق، ونصرة الضعيف، وحين قرر بعد أن شرفه اللَّه بالرسالة أنه لو دُعي إلى مثله لأجاب.
وفي هذا درس عميق، وهو أن على المسلم أن يرحب بأي عمل من الخير يلتقي فيه مع سواه من البشر، وهذا يمنحه فرصة واسعة للعمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي ذلك فوائد للجميع، فيه فائدة للإنسانية بعامة، والإسلام يريد الخير للناس أجمعين المسلم منهم وغير المسلم، وفيه فائدة للمسلم لأنه يوسع آفاقه في التعاون الإيجابي البناء، بل إن فيه فائدة دعوية لأنه يحبب الآخرين في المسلم حين يرونه سمحاً متحضراً، واسع الأفق والنفس، عالي الاهتمامات، فيحبون دينه من خلال محبتهم له، ثم إن أي زيادة في مساحة العدل والحرية والحق والعلم والمساواة هي تقدم محمود باتجاه الإسلام، لأنها تتيح لغير المسلمين أن يتعرفوا إلى الضمانات القوية التي يوفرها الإسلام لهذه القيم الشريفة، وللمبادئ النبيلة التي يلتقي فيها المسلمون مع سواهم، وهذه السعة المحمودة لدى الأستاذ الندوي تجعله إنساناً صاحب رؤية طويلة المدى، وبصيرة ثاقبة ذكية، كما أنها تجعل له وعياً سياسياً عاماً مستقبلياً وإن لم يكن من المشغولين بقضايا السياسة وتفاصيلها وأسرارها.
ويظهر لنا الأستاذ الندوي واعياً للفرص السانحة التي تمر بها الأمم والجماعات بين الحين والآخر، فينتهزها الرواد والشجعان والأذكياء، وذلك حين يوجد فراغ ينتظر من يتصدى له، فيلحظ فرصة الفراغ في الساحة الهندية، ويهيب بالمسلمين أن يتصدوا لملئه، ويخاف ألا يفعلوا ذلك فيقول: «كأن الحكمة الإلهية تشير إلى المسلمين، وتهيب بهم أن الميدان فارغ، والناس في انتظار، وقد جد الجد، وحان الحين، وكأن لسان الحال ينشد:
يدعون سياراً إذا حميَ الوغى ولكلِّ يومِ كريهةٍ سيــارُ»[2]
لك اللَّه أيها الشيخ الجليل ما أحصفك! وما أبعد رؤيتك! وما أصدق حبك للناس أجمعين!، وليعذرني القارئ الكريم لأني أطلت في الحديث عن «حركة رسالة الإنسانية» نقلاً وتعليقاً، وذلك أني أعجبت بها جداً، كما أعجبت بصاحبها، وأراها جديرة بأن يتأسى بها الدعاة في عصرنا الحاضر، خصوصاً في البلدان التي يكون المسلمون فيها مهاجرين أو أقلية.
لقد لقيت الشيخ الندوي مرات كثيرة، أشرت إليها في بداية هذا المقال، لكن لقائي إياه في استراحته التي كان يعتكف فيها بين الحين والآخر، له طعم خاص، وذكرى لا تزول.
زرت الهند عام «1399هـ/ 1979م»، ووجدت أن من واجبي زيارة الشيخ الجليل في مدينة لكنو، وفعلت، لكنني لم أجد الشيخ الذي كان في استراحته في مدينة رائي بريلي التي تبعد عن لكنو نحو 80 كم، وقد أكرمني أحد أقرباء الشيخ فاصطحبني إليها، لما رأى من حرصي على لقائه، ووصلت إلى الاستراحة فماذا وجدت؟!
وجدت رائي بريلي قرية صغيرة جداً يمكن لك أن تحيط بها من خلال نظرة واحدة، تقع على ضفة نهر صغير في منطقة جبلية، فيها مسجد صغير، ومقبرة صغيرة، وبيوت قليلة، واستراحة الشيخ، فوقع في نفسي أن الشيخ يرتاح إليها لأنها تلخص له الحياة الدنيا، بالمسكن الذي يأوي إليه، والمسجد الذي يصلي فيه، والمقبرة التي يدفن فيها.
أما الاستراحة فشأنها عجب، لأن الاستراحة عند أكثر الناس، هي المكان الذي يأوي إليه الإنسان هارباً من وعثاء الحياة، وقد جهزه بما لذ وطاب من الأثاث والرياش وما إلى ذلك من النعم التي تهيئ له ما يود من المتع والرفاهية.
أما استراحة الشيخ فكانت بناء متواضعاً جداً، نظيفاً جداً، فيه أثاث قليل، قدرت أن ثمنه جميعاً لا يصل إلى مئة دولار، ولا تزال صورة السرير الذي ينام عليه الشيخ ماثلة في خيالي، إنه سرير مصنوع من قواعد خشبية عليه سقف من سعف النخيل، وظللت في الاستراحة مشدوهاً بما أراه من أدلة باهرة على صدق الشيخ وزهده وعفته، حتى دعينا إلى الطعام فازددت انبهاراً، كان الطعام أشياء يسيرة من خبز، ورز، ولحم، وسلطة، وقطع من الحلوى، وضعت في صحون صغيرة، ودعانا الشيخ إلى الطعام في بشر صادق، وحفاوة حيية، ولم يبد على الشيخ قليلاً أو كثيراً أنه يخجل من طعامه اليسير القليل، بل لعله كان فرحاً بذلك لأنه يريد أن يعلمنا أن الداعية أولى الناس بالزهد.
ولقد زرت في حياتي بيوتاً كثيرة، واستراحات كثيرة، لأغنياء ووجهاء، ووجدت فيها أصناف النعيم، وأنواع المتاع، وروائع الأثاث، والكرم الجم، لكن ذلك كله طوته الأيام، خلافاً لاستراحة الندوي التي بقي أثرها الإيجابي فيَّ ولا يزال، إن هذه الاستراحة المتواضعة شكلاً، الغنية دلالة، شاهد صدق يضاف إلى الشواهد الأخرى الكثيرة التي تشهد للشيخ بمزاياه النادرة المتألقة، وهي مزايا تقول: إن الشيخ الندوي واحد من التابعين الأخيار، والسلف الصالح، لكنه تأخر إلى عصرنا ليظهر فيه، فيكون قدوة لنا وحجة علينا، إنه النموذج النادر للداعية الذي أمات في نفسه حظوظها، فسما وزكا وتألق، ونال حب الناس وأنا منهم، فرثيته بقصيدة لعلها من أجود شعري سميتها: «لوحت للناس»، يقولُ مطلعُها:
لا الحزن يرجع من غابوا ولا الجلدُ
يفنى الجميـــــع ويبقى الواحد الأحدُ
***
إن الأستاذ الندوي «1333- 1420هـ، 1914– 1999م» طراز نادر من الدعاة يجدر بنا أن نضع سيرته أمام الناس عامة والناشئة خاصة، ومما يعين على ذلك أن ينهض قاص مبدع بكتابتها بأسلوب قصصي مشوق فيه خيال لا يجور على الحقيقة، وقدرة على التركيز في مواضع العبرة، وعناية بتسلسل الوقائع، لتكون وثيقة تاريخية دعوية أدبية شائعة، يقبل عليها القراء عامة والشباب خاصة.
وللشيخ يوسف القرضاوي كتاب جيد عن الندوي اسمه: «الشيخ أبو الحسن الندوي كما عرفته» يحقق بعض المطلوب.
هذا وإن القارئ يجد في بعض النصوص المنقولة عن الأستاذ الندوي شيئاً من الركاكة، وأقدر أن ذلك مرده ضعف من ترجم هذه النصوص إلى العربية، ذلك أن لغة الأستاذ كما قرأناها في كتبه، وكما سمعناها منه لغة ممتازة.
وفي الختام أود أن أنقل للقارئ الكريم عدداً من الشهادات التي قيلت في هذا الشيخ الجليل، جزى اللَّه قائليها، وجزى الشيخ خير الجزاء.
· أخلص وجهه للَّه، وسار في حياته سيرة المسلم المخلص للَّه تعالى ورسوله e، فدعا إلى الإسلام بسياحاته التي حاضر فيها ووجه وأرشد، فجزاه اللَّه خير ما يجزي عالماً عن دينه.
(الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود، شيخ الجامع الأزهر).
· إن خاصة الزهد والترفع عن حطام الدنيا، في هذا الجسد النحيل اللطيف الذي يكاد ينطق بقول ابن الرومي عن نفسه:
أنا من خفَّ واستدقَّ فما يُثْــ ـــــقِلُ أرضاً ولا يسدُّ فضاءَ
هذه الخاصة هي التي مكنت له في مضمار الإصلاح والنقد الاجتماعي، فلا يهادن باطلاً، ولا يكتم حقيقة، وجعلت لكلامه مساغاً في الأسماع فلا تنكر عليه ما يقول.
وهو كالشيخ ابن باز في حسن تأتيه عند توجيه النصيحة الواجبة، يطرق بها أبواب القلوب في أسلوب من الحكمة والموعظة الحسنة، ولا يسخط ولا ينفر، ولكنه يبعث على التأمل والتدبر والتفكر.
(الشيخ الأديب محمد المجذوب).
· أنا قد سبقت الشيخ أبا الحسن في رؤية هذه الدنيا إذ ولدت قبله بست سنين أو سبع، ولكنه سبقني في بلوغ ذرا الفضائل فيها.
الدعوة الصحيحة هي التي تكون للعقل من غير استغراق في المادية، ودعوة للقلب من غير انحراف مع الصوفية، وأن نلزم طريق الكتاب والسنة، وفي الكتاب والسنة غناء، وهذا ما عليه جماعة الندوة، اشتغال بالعلم مع تثبيت للإيمان وإصلاح للقلب، وترفع عن المعارك السياسية التي لا غاية لها إلا الوصول إلى كراسي الحكم، يسلك أصحابها إلى ذلك كل طريق، المستقيم منه والملتوي، ويتخذون كل ذريعة، الطيبة والخبيثة، والإسلام يريد أن تكون الغاية حسنة، وأن يكون الطريق إليها مستقيماً آمناً، وأن يكون أسلوب الدعوة بعيداً عن أساليب الأحزاب السياسية التي لا تبتغي إلا المناصب والألقاب.
إن أبا الحسن وجماعته ملتزمون بالإسلام قولاً وعملاً، كتابة وسلوكاً، يعمل ما يعمل ابتغاء رضا اللَّه لا رضا الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم كره التكلف، وأنا لم أر فيمن عرفت من الناس من هو أبعد عن التكلف وأقرب إلى البساطة من أبي الحسن.
عرفت أبا الحسن من قريب في مكة المكرمة، وفي المدينة المنورة، وفي دمشق، وعرفته قبل ذلك في الهند، فوجدته في الأحوال كلها مستقيماً على الحق، عاملاً للَّه، متواضعاً زاهداً زهداً حقيقياً، لا زهد المغفلين الذين يعيشون وراء أسوار الحياة لا يدرون ما الدنيا، ولا يعرفون ماذا فيها!. بل زهد العالم العارف بالدنيا وأهلها، فقد رأى الشرق والغرب، وزار الحواضر والأمصار، ولقي الكبار والصغار، وعاش صدر حياته في قصر الأمير نور الحسن، فذاق حياة الترف والنعيم، ولكنه زهد فيها.
وإذا كان من بنى حصناً أو قاد جيشاً عد في العظماء؛ فأبو الحسن بنى للإسلام من نفوس تلاميذه حصوناً أقوى وأمتن من حصون الحجر، بنى أمة صغيرة من العلماء الصالحين والدعاة المخلصين.
وجدت أبا الحسن قد أكرمه اللَّه فاستكمل مزايا الداعية الإسلامي الذي نطلبه ونفتش عنه.
(الشيخ الأديب الموسوعي علي الطنطاوي).
· أُشْهِدُ اللَّه أني أحبه، وأرجو أن يكون حباً للَّه تعالى، فقد أحببته لتجرده وإخلاصه وربانيته، وأحببته لاعتداله ووسطيته، أحببته لنقاء فكره من الخرافة، وصفاء قلبه من الحسد، وسلامة عقيدته من الشركيات، وسلامة عبادته من المبتدعات، ونظافة لسانه من الطعن والتجريح بالتصريح أو التلويح، أحببته لانشغاله بالقضايا الكبيرة عن المسائل الصغيرة، وبالحقائق عن الصور، وبالعمق عن السطح، ولست وحدي الذي يحب الشيخ الجليل، فأحس أن كل من عرفه واقترب منه أحبه على قدر معرفته به وقربه منه، وكلما ازداد منه قرباً ازداد له حباً، ولهذا فلا عجب أن يتفق الناس على شخص أبي الحسن الندوي.
(الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي).
***
لوحت للناس
مقاطع من قصيدتي في الشيخ أبي الحسن الندوي «لوحت للناس»لا الحزن يرجـع من غابوا ولا الجــلدُ
يفـنى الجميـــع ويبقى الواحد الأحــــدُ
هذي الحيــــاة مطايـــا الموت دائبـــة
والشــاهد الشمس والخضراء والأبــد
والليـــــل والصبــــح والحدباء بينهما
تمشي بركبــــانها تهفــــو وتتـئــــــــد
والناس مذ خلقوا والأرض مذ عمرت
ســـلها ففي جوفهـــا الآبـــــاء والولـد
أمٌّ لهم فهي تغـــــذوهم وترفــــــــدهم
حبـــــاً وتقتـــــاتهم كرهاً إذا لحــــدوا
والموت حـــــارس أهـليــــها وقاتـلهم
جهـــــراً وليـــس لهم ثـــــأر ولا قـود
والمهـــد لحـــــد فــــإن رابتك رائبــة
جـــلا غواشيهـــا فيـــما اعتراك غـــد
***
رضيـت طبـــعَ الألى عزت معــادنهم
إذ جــــاءك العيـــش فيه الليـن والغيـد
حسنــــاء فتــــانة كالشـــمس طلعتــها
أحـــلى من الحـــلم ما جــاءت به تعـد
فقـــــلتَ: كلَّا لقـــد آثــــرتُ آخـــرتي
فهي الغنى والذي تحبـــــــونه زبـــــد
كأنك الحســــن البصـــــري أو عمــرٌ
أو الغـــزاليُّ زانوا الدهر إذ زهــــدوا
بكـل نعـــماه إذ جــــاءت تراودهـــــم
فمــا أجـــابوا وللفـردوس قد نهـــــدوا
***
أبي الأجـــلَّ وأستــــاذي إليـــــك يدي
مددتهــــا وأنـــا أزهــــو وأحـتشــــــد
بهـــا كتبــــت بكـــل الحب قــــــافيتي
فهـــل شفـــت بعض ما أشكو وما أجد
يـــا ليت لي مثـــل قبـــر أنت ساكنــه
عســــاي ألقى الذي لاقيـــت إذ أفــــد
***
لبيـــت أحـــلى نداء عشت ترقبـــــه
لما دعــــاك إليـه الواحـــد الصــــمد
وقـــلت والبشـــــر ريـــــان ومؤتلق
قد طاب أمسي وأرجو أن يطيب غد
لوحــــت للنـــــاس إذ ودعتـهم بيــد
لما دعتـــك إلى دار البقــــــــاء يــد
***
----------------------
[1] انظر: كتاب الندوي: «في مسيرة الحياة»، ص: 338-340.
[2] المرجع السابق، ص:341.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق