الأحد، 2 يناير 2022

الأستاذ صالح الحصين شخصية باهرة

الأستاذ صالح الحصين
شخصية باهرة


     معالي الأستاذ صالح الحصين، يذكرني دائماً بالشيخ الصالح أبي الحسن الندوي لما بينهما من تشابه كبير، وكنت أمازح نفسي فأقول لها: لك قدوتان هندية ونجدية، ونعم القدوتان هما.

     الأستاذ الحصين نموذج مشرف لزهد الواجد لا زهد الفاقد، فالفاقد هو الذي انصرفت عنه الدنيا فرضي بذلك وصبر وهو على ذلك مشكور، والواجد هو الذي أقبلت عليه الدنيا بيسر وإغداق فانصرف عنها لانشغاله بأهداف أعلى وأغلى، وهو زهد أجل وأنبل.

     أقبلت عليه الدنيا من كل جانب، فدرس في الرياض، وابتعث إلى فرنسا فدرس فيها، وعاد إلى السعودية تسبقه سمعته العاطرة وسلوكه القويم، فأحبه الناس، وعرف أولو الأمر مكانته فرعوها، وأهدوه من المناصب والتقدير ما يليق بها، ولكن معدنه العالي جعله ذلك لرضوان اللَّه تعالى، ثم لخدمة البلاد والعباد.

     والأستاذ الحصين ذو عقل ذكي دقيق، بعيد النظر، له قدرة على المقارنة والموازنة ومعرفة المقاصد من الأحكام الشرعية، واتخاذ القرار الصواب، أعانه على ذلك ذكاؤه النادر، وعلمه الشرعي، ودراسته للقانون، وعفته وترفعه، وإيثاره الأخرى على الأولى، ولذلك كان نصيبه من الصواب كثيراً محموداً، وقد حملني على الحديث عن هذه الميزة، أن الزاهد - عند كثير من الناس - هو الإنسان الساذج أو المغفل أو ذو الملكات الضعيفة عقلياً ومالياً واجتماعياً، والضمير الشعبي يطلق عليه اسم (الدرويش)، وهي كلمة تعبر عن الرثاء، والإشفاق، والاحتقار أحياناً. وحقاً إن في الزهاد من هو كذلك، والخطأ في التعميم.

     والأستاذ الحصين لم يكن من هذا النوع قط، ذلك أن زهده زهد الواجد لا الفاقد، وزهد صاحب الملكات المتفوقة لا الرديئة ولا العادية.

     رأيته مرة واحدة في المجلس الأعلى للإعلام، ورأيته يتحدث في أحد المؤتمرات من خلال التلفزيون، وقرأت له أحد كتبه، وكان إعجابي يزداد به دائماً، ثم سمعت من عدد من أهل العقل والعلم والدين الذين اقتربوا منه؛ عجائب في السلوك والعفة واحترام النفس وقول الحق المحض بصراحة تامة، وفي أدب رفيع؛ ما دعاني إلى الإعجاب به إلى درجة الانبهار.

     وكنت أحدث نفسي أن يمنحني ساعة من وقته لأضع بين يديه ما انتهيت إليه من الخطأ والصواب، والبدائل المستقبلية النافعة للبلاد والعباد عامة، وللعمل الدعوي خاصة، لأنه من أفضل من يستشار في هذا المجال المهم، وكنت واثقاً أني سأفوز منه بالدرر الغوالي، ولكني سوفت فلقي اللَّه دون أن أقابله، رحمه اللَّه رحمة واسعة.

     والآن أحاول أن ألخص مزايا هذا الإنسان النادر، بدقة وإحكام، وإيجاز، وشمول، كما كان يفعل بلغاء العرب الأعلام، وعسى أن أوفق:

- إنسان نقي السريرة، نقي العلانية، ولعل الأولى أعظم.

- عقله يسبق لسانه، يفكر بدقة وعمق، ويتكلم بمثل ذلك.

- عرف نقطة القوة في نفسه، فمضى في سبيلها بحزم وعزم فتألق وتفوق، وكأنه كان يستحضر الحديث الشريف: كل ميسر لما خلق له.

- يعامل الأعيان والكبار والوجهاء والمسؤولين بما ينبغي له أن يفعل دون أن تبدو عليه ذرة من الضعف، ويعامل من هم دون ذلك بأدب جم دون أن تبدو عليه ذرة من الكبر.

- إذا تكلم أحسن الكلام، وإذا صمت أحسن الصمت، وإذا استمع أحسن الاستماع.

- عرف أحكام الشريعة الغراء، ونفذ إلى مقاصدها العظيمة، وأدرك منطق الأولويات، والموازنة بين الكليات والجزئيات، وحسن الاختيار حين تتاح الفرص الجيدة، وحسن الاختيار حين تكثر الأضرار الغالبة.

     وإلى القارئ الكريم بعض الروايات التي سمعتها عنه، وهي قليل من كثير:

- جاء مرة إلى الديوان الملكي حيث يعمل، فلم يعرفه الحرس ومنعوه من الدخول، فجلس ينتظر ولم يرض أن يقول لهم شيئاً عن مكانته، ثم جاء الملك فيصل، فرآه وابتسم وداعبه قائلاً: لعلك ارتكبت مخالفة فأغضبت الحرس، ثم اصطحبه معه، رحمهما اللَّه.

- دُعِيَ مرة للمشاركة في أحد المؤتمرات، وذهب إلى المطار في الموعد المحدد، وله حجز خاص فيه، ووقف في الطابور مع سواه، فلما وصل إلى الموظف وذكر له اسمه، نظر الموظف في السجل فنفى أن له حجزاً، فطلب منه أن ينظر بدقة في السجل، فنظر الموظف وأجابه أن المحجوز له هو معالي صالح الحصين، وأنت اسمك صالح الحصين كما قلت لي، فابتسم: وقال له: اسمي صالح الحصين، ولكن حملت لقب معالي بحكم وظيفتي، فاعتذر منه الموظف، فشكر له اعتذاره.

- دعته وزارة المالية لتنظيم لوائح مالية دقيقة ومتنوعة، بسبب ما عرف عنه من دقة وإتقان وإحاطة، وعكف عليها في فترات المساء بعد أن ينتهي من عمله الصباحي حتى أداها كما أرادت الوزارة وزيادة، فخصصت له الوزارة مبلغ مئة ألف ريال مكافأة لما فعل، فأبى أن يأخذها وردها، فلما سئل عن سبب ردها مع أنها حق خالص له لأنها عمل إضافي مسائي، أجاب: أنا موظف عند الدولة، ولها أن تستخدمني صباحاً أو مساء. وهذا المبلغ يعادل في أيامنا مبلغ مليون ريال.

- في مشيته طريقة لافتة للنظر، يمشي وقد تأبط عباءته، ولبس الغترة بدون عقال، وركز بصره على مواطئ قدميه، لا يتلكأ، أو يتسكع، أو ينظر إلى ما يمر به، وفيه يصح قول الشاعر العربي القديم في مشية إحدى فواضل النساء:

كأن لها في الأرض نَسْياً تقصه     على أمِّها فــــإن تكلِّمْك تَبْــــلَتِ

     وهذا يؤكد أن ما يشغله من اهتمامات عالية، هو رفيقه الدائم حيث يكون، وهي ميزة نادرة تُذْكر فتُشْكر.

     وإن هذه الوقائع -وهناك الكثير من أمثالها- لا تحتاج إلى ثناء أو إشادة أو شرح، فإنها بيان فعلي حقيقي أفصح من كل قول مهما كان بليغاً.

     وبعد:

     فإني أرجو ممن يعرف سيرة هذا الإنسان النادر أن يعدها باستقصاء وإحاطة وأسلوب شيق يشجع الناس عامة على القراءة والشباب خاصة، لأن صاحب هذه السيرة يحق أن يوصف بأنه «قدوة صالحة» ينبغي أن تشاع على أوسع نطاق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة