الأحد، 2 يناير 2022

حين رأيت العقاد

حين رأيت العقاد

     كان عباس محمود العقاد «1889-1964م» قامة شامخة حقاً، عاش حياة عريضة، كان فيها ملء السمع والبصر، ومات بعد أن فرض نفسه علامة مميزة في جيله لا يمكن تجاوزها.

     كان قامة شامخة في جسده، فقد كان طويلاً عملاقاً وجهه أبيض مشرب بحمرة، وكان قامة شامخة في عصاميته، التي كانت عصامية متجددة بحق، فقد ترك التعليم النظامي بعد حصوله على الشهادة الابتدائية فقط، وترك العمل الوظيفي بعد فترة يسيرة قضاها فيه ووصف الوظيفة بأنها «رق القرن العشرين»، ثم انصرف إلى القراءة والكتابة بصبر، ومثابرة، وعناد، وتنوع حتى مات، ولذلك فهو مَنْ بنى نفسه بنفسه، لم يعتمد في نجاحه على مال، ولا أسرة، ولا حزب، ولا تبعية لهذا الوجيه أو ذاك، ذلك أنه كان شديد الاعتزاز بنفسه، عظيم الثقة بها، راضَ نفسَه على الصبر والكفاف، واختصر كثيراً من الصوارف، والملهيات، وتجاوز كثيراً من المطامع والمغريات، وتلك قدرة نادرة، وهي - بإذن اللَّه - من أهم أسباب نجاحه المتفرد.

     كان له في شبابه ما يؤخذ عليه، مثله في ذلك مثل كل البشر، كنقده لشوقي الذي أصاب في جانب منه، وأخطأ في جانب، وكبعض آرائه المردودة في الدين والحياة، ولكن يحمد له أنه تجاوز ذلك كله، وما زال يغذ خطاه نحو جادة الصواب، حتى مات وهو من الفرسان المعدودين والمرهوبين، المدافعين عن الإسلام العظيم ونبيه الكريم e، المنافحين عن العربية، والأصالة، والأخلاق، المتصدين الشجعان للدعوات المنحرفة التي شاعت في عصره من تغريب، وعلمانية، ويسارية، وثورية، وشيوعية وغيرها، من الفتن التي أرهقت البلاد والعباد.

     حين جئت القاهرة للمرة الأولى، طالباً في قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة عام «1379هـ/ 1959م»، كان العقاد ملء السمع والبصر، وكنت من قرائه ومحبيه، وكنت أتمنى أن أراه، لذلك لما أعلن الأزهر الشريف عن محاضرة له في ذلك العام نفسه، وجدت نفسي مسارعاً للذهاب إلى القاعة التي هي محل المحاضرة، وكانت قاعة الإمام محمد عبده، بجوار المبنى التاريخي للأزهر الشريف، وكانت المحاضرة عن الإمام الغزالي.

     بدأ العقاد محاضرته، ولا تزال جملتها الأولى محفورة في ذاكرتي، وفيها أكّد أنه تأخّر في الكتابة عن الغزالي لأهمية الغزالي في نفسه، وهو ما دعاه إلى أن يحتشد لها الاحتشاد اللائق بها، ثم قرر أن الغزالي لم يكن نقطة تحول في تاريخ الفكر الإسلامي فحسب، بل نقطة تحول في تاريخ الفكر البشري، ثم قال بثقة راسخة ملأى بالاعتداد: كان الفكر البشري يسير في طريق فجاء الغزالي ليجعله يسير في طريق آخر.

     ويومها وقف شاعر شاب فألقى قصيدة بين يدي العقاد يحييه فيها، وأذكر أنها كانت على مجزوء الكامل، فلما انتهى منها شكره العقاد ببيتين ارتجلهما على نفس القافية والوزن، وللعقاد عدة دواوين، لكنه لم يكن شاعراً ممتازاً، بل لم يكن شاعراً متوسطاً، ويغلب على شعره الجفاف والتقريرية، وتقل فيه القفزات المبدعة، ولعل السبب الأكبر في ذلك أنه عقل يقظ جداً وصارم جداً ومنطقي جداً، وهذا لا يتيح للعاطفة أن تبرز، ولا للخيال أن يحلق، وذلك من ألزم لوازم الشعر الممتاز.

     ومرت الأيام، وقرأت الكثير للغزالي، وكانت كلمات العقاد حاضرة في بالي، وأجد لها ما يشهد بصحتها، فالغزالي هو الذي هدم الفلسفة اليونانية، وهو الذي فضح الفرق الباطنية، وهو الذي أراد أن يعيد لعلوم الدين روحها بعد أن تحولت عند بعض العلماء إلى حرفة، وهذه مكاسب جليلة تحسب للإمام الغزالي.

     وظللت أتمنى أن أحضر ندوة العقاد التي كان يقيمها في بيته مرة كل أسبوع، وقد كانت فرحتي كبيرة حين يسّر لي ذلك زميلي في الدراسة علي ذو الفقار شاكر، وهو ابن أخي العلامة الأشهر محمود محمد شاكر.

     واعدني أخي علي في ميدان روكسي حيث كان بيت العقاد قريباً منه، فحرصت على أن آتي في الموعد المحدد بدقة خوفاً من ضياع الفرصة، وخوفاً من امتلاء البيت بالضيوف فلا نجد مكاناً.

     ودخلنا بيت العقاد، وهو شقة مرتفعة في بناية عادية في شارع السلطان سليم، وكان بيتاً في غاية البساطة والتواضع، ووجدنا الكتب وقد ملأت أمكنتها، ثم تجاوزتها حتى لقد رأيت بعضها في مطبخ الشقة، ودخل العقاد وجلس في مقابلة الضيوف، وبدأت الأسئلة والأجوبة، ونحن في غاية اليقظة النفسية والفكرية مخافة أن يفوتنا شيء منها.

     وفي هذه الندوة، أو في أخرى تالية لها، توجه أحد الحضور إلى العقاد فسأله عن رأيه فيمن يرى أن غاية الصلاة هي التهذيب، ولذلك تسقط عمن وصل إلى الدرجة المحمودة منه، ورحم اللَّه العقاد، لقد أجاب الإجابة الحاسمة والصريحة تماماً، لقد نفى هذه الدعوة الضالة جملة وتفصيلاً، وقال فيما قال: إننا نصلي لأن اللَّه عز وجل أمرنا بذلك، والصلاة فريضة لا تسقط عن أحد أبداً، بل يظل مطالباً بها حتى يموت، ومثّل لنا بالرسول صلى الله عليه وسلم، الذي ظل يصلي حتى آخر يوم في حياته، وهو أعلى قمة بشرية في التهذيب.

     ومرةً سأله أحد الحضور سؤالاً شمَّ فيه العقاد رائحة بشعة، هي أن السائل جاء مترصداً له، لينقل إلى رؤسائه ما يدينه، فغضب العقاد وقال كلاماً فيه نقد صريح جداً لتوجهات السلطة الحاكمة، وقال للسائل: اذهب إلى من أرسلوك وقل لهم: هكذا قال العقاد، وهذه الواقعة تدل على جرأته وإبائه وثقته بنفسه.

     إن الحديث عن العقاد حديث طويل، وشائق، ومتنوع، وهو نموذج للعصامية المتجددة، وفي حياته دروس كثيرة، ينبغي أن توضع بين الشبان لتكون قدوة تحتذى، وفي طليعة هذه الدروس أن السبب الأول في النجاح هو الإرادة الحازمة، وتحديد الهدف المطلوب، واختيار الأدوات والوسائل الموصلة إليه، والعمل من خلالها.

     ولقد قرأت للعقاد الكثير، ومما قرأته فأعجبني جداً كتابه «الفلسفة القرآنية»، وهو كتاب وجيز محكم، يدل على فهمه العميق الصحيح للإسلام، تشريعاً، وجزئيات، وكليات، ومقاصد، واعتزازه به، ويقينه أنه الدين الخاتم المحفوظ، وسبيل سعادة الناس في دنياهم وأخراهم، لكن صدري ضاق باسم الكتاب، لأن الفلسفة بصوابها وخطئها عمل بشري، لا يجوز أن يوصف القرآن الكريم به، ثم إني مع الرأي الذي يقرر أن الفلسفة لم تدفع البشرية شبراً واحداً إلى الأمام، والذين دفعوها وأحسنوا إليها هم الأنبياء الكرام، والرواد الذين اقتبسوا نورهم وساروا فيه.

     غفر اللَّه للعقاد خطأه، وتقبل منه صوابه المبرور والمشكور، وأعلى مقامه، وعوّض الأمة عن خسارتها فيه خير العوض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة