عهود قطعتها
قطعت على نفسي مجموعة من العهود، واجتهدت أن ألتزمها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وعساي نجحت.
· أول هذه العهود أن أتحرى الصدق وألتزمه، وقد أعانني على ذلك أنني بفطرتي أكره الكذب والكاذبين جداً، وأعانني أيضاً ما تعلمناه من أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بحكمته العميقة، ومعرفته بالضعف البشري الذي لا يخلو منه أحد أخبرنا أن المسلم قد يقع في خطيئة السرقة، أو خطيئة الزنا، أو غيرهما لكنه لا يكذب قط، والسبب واضح، وهو أن المسلم الذي يقع في هذه الخطيئة أو تلك يتوب منها، أما إذا اعتاد الكذب، فلا هو يدري ولا مَنْ حوله يدري، أأقلع عنه أم لا؟ وتزداد الأمور سوءاً حين يصبح الكذب فيه عادة جارية، لا خطيئة عارضة.
ثم إن الحديث الشريف الذي أشاد بفضيلة الصدق، يحبه المرء ويجعله عادته وديدنه حتى يكتب عند اللَّه صديقاً ملأني بالأمل والرجاء، ذلك أنني حين أقرأ سير العبّاد والزهّاد والصالحين والمجاهدين؛ أجد المسافة بيني وبينهم كبيرة، فأقول لنفسي: هيهات أن أكون مثل هؤلاء في قليل أو كثير، وأنّى لي أن أكون وهم من السابقين في الخيرات وأنا من أهل الاقتصاد والرخصة؟! لقد رأيت في هذا الحديث الشريف رحمة اللَّه الواسعة، قد فتحت لأمثالي من غير السابقين باب رضوانه، فعزمت على التحلي بالصدق وتحرّيه، وجعلته ثابتاً من ثوابت حياتي، واعتدت قبيل النوم في كل ليلة أن أراجع نفسي مخافة أن أكون قد وقعت في إثم الكذب، أو شبهة الكذب، أو عدم الدقة التامة في نقل رواية أو حديث.
وللصدق فرحة وكرامة واحترام، فالصادق يرى الناس يجلُّونه فيفرح لذلك، لأن الإنسان بحاجة إلى أن يشعر أنه مقدّر ومحترم من الناس، ولا يمكن للناس أن يحترموه إلا إذا احترم نفسه، ولا يكون ذلك إلا بالصدق يحبه الإنسان، ويلتزمه، ويتحراه، وعساي - وأنا الضعيف المترخص - أبلغ منزلة «الصِّدِّيقيَّة» التي بشّر الرسول الكريم e بها الصادقين، وإني أحمد اللَّه حمداً كثيراً على أن أهل بيتي - وهم أدرى الناس بي- وخاصةَ أصدقائي، والمنصفين من أعدائي؛ يشهدون لي بأني من الصادقين، وكان أخي أبو العلاء ؒ يقول لي مهنئاً ومبشراً: إنك ستدخل الجنة - بإذن اللَّه - ببركة الصدق، وإني إذ أشكره على ذلك؛ أشكره أيضاً لأنه وصفني بأني «قليل الفضول»، وهو أدرى خلق اللَّه بي مدى أربعين عاماً، وقلة الفضول أمارة على أن صاحبها واثق من نفسه، مشغول باهتماماته، ولذلك لا يبالي بمتابعة ما يقوله الآخرون عنه وعن غيره.
· وقطعت على نفسي عهداً بأن أكتم سرَّ أي إنسان أخبرني به وطلب مني كتمانه، وكتمان السرِّ من الشجاعة النفسية، والكتوم للسرِّ إنما يحترم نفسه قبل أن يحترم الإنسان الذي استكتمه.
· وقطعت عليها عهداً آخر هو أن أخلص النصيحة لكل من يطلبها مني أحببته أم كرهته، وقد تعلمنا أن الدِّينَ النصيحةُ، فهي واجب، ومن طلب نصيحتك فقد وثق بك ورفعك إلى منزلة عالية، فينبغي أن تكون على مستواها، وحين يكون المنصوح مهماً أو خليلاً كنت أدقق في نصحه، وأشتد في مصارحته والقسوة عليه، دون أن أجرحه، أو أستعمل في حقه كلمة نابية، أو أفضح له سراً، وهذا يجعل كلامي له - في الجملة - يقع منه موقعاً حميداً، لأنه يرى فيّ روح الصدق، وحب الخير، ودقة الملاحظة.
· وعهد آخر قطعته على نفسي، وهو ألا أقابل الإساءة بمثلها، وقد آذاني هذا العهد كثيراً، لأنه أطمع فيّ الأدنياء والسفهاء واللؤماء، ولقد دفعت من مالي ووقتي وجهدي وأعصابي ثمناً كبيراً بسبب هذا العهد، والمشتكى إلى اللَّه تعالى، لذلك راجعت نفسي، وأنا ممن يراجعون أنفسهم كثيراً، فوجدت أن عليَّ الاستمرار في هذا العهد، ولكن مع الاتعاظ بما مرّ بي، واجتناب من لا يستحقون هذا السلوك النبيل بادئ ذي بدء.
· وعهد آخر ألزمته نفسي، وهو أن أمتلك شجاعة الاعتذار لمن أخطئ عليه، فقيراً كان أم غنياً، ضعيفاً كان أم قوياً، والاعتذار شجاعة عقلية ونفسية، والذي يمارسها يكون واثقاً من نفسه، خلافاً للمكابر والمعاند والمغرور، وأذكر أن أحد الزملاء الكرام، وكنا في مجلس عام، استاء من كلمة قلتها في حقّه فسكت، ولكن بدا الغضب على وجهه، فقلت له، وكنت قد أخطأت في حقه فعلاً: هل ساءك قولي؟ قال: نعم، فقلت له وقد سرتني صراحته: أعتذر منك جملة وتفصيلاً وبكل لغات الأرض، وانطوى الغضب، وسلم صدره لي، وسلم صدري له، وعدنا زميلين متعاونين، ولولا شجاعة المصارحة منه، وشجاعة الاعتذار مني لازداد الأمر سوءاً، ولكن اللَّه سلَّم.
ولشجاعة الاعتذار أكثر من بعد، فهي لا تتوقف فقط عند الاعتذار لمن نسيء إليهم، ومن ذلك أن يعتذر الإنسان عما لا يقدر عليه مما يطلبه منه هذا الصديق أو ذاك، إن المسلمين بطبيعتهم أمة خيّرة، والمسلم الحق يفرح حين يقدم خدمة لمسلم آخر يستحقها وهو عليها قادر، وهم يعرفون جميعاً أن اللَّه تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ولذلك فهم يتعاونون ويتناصرون ويبذلون مروءاتهم وهم سعداء.
ولكني رأيت أن عدداً من الكرام لا يردون طلباً لأحد من الناس، سواء أكان هذا الطلب مما يقدرون عليه أم مما يعجزون عنه، وسواء كان صاحب الطلب خيّراً أم لا؟ وقد وقر في خلدي أن هؤلاء الكرام مخطئون لأنهم يعدون ولا يفون، ثم إن أصحاب الحاجات يبنون على وعودهم آمالاً هي في حقيقتها أوهام، وفي هذا نوع من التغرير، ولا يشفع لأصحابه أنهم يفعلون ذلك من باب الحياء أو التوسع في الرجاء.
ووقر في خلدي أن السلوك الصحيح أن يستمع الإنسان إلى صاحب الحاجة ملياً، فإذا تأكد له أنه قادر على قضائها، وأن صاحبها من الأخيار وعد ونفذ، وإلا اعتذر من البداية فاستراح وأراح، ذلك أن قدراً من شجاعة الاعتذار في البداية يدفع عن صاحبه أضعاف أضعافه من الحرج في النهاية، واللجوء إلى ذلك حكمة بالغة.
وقد حاولت جهدي أن أتحلى بشجاعة الاعتذار منذ البداية، ثم إني أضفت إلى ذلك شيئاً طريفاً، وهو أني إذا وجدت نفسي قادراً على قضاء حاجة لأحد الإخوة، ووجدته مستحقاً للعون، وعدته أن أسعى له، وقلت له: إن لي شرطين: الأول: أن تدعو لي دعوة صالحة إذا نجح المسعى، وأنتظر قليلاً حتى يعدني بالدعاء، فإذا فعل قلت له: أما الشرط الثاني فهو أن تدعو لي دعوتين صالحتين إذا أخفق المسعى.
بعد ذلك أحاول إخلاص النية للَّه تعالى، وأبدأ المسعى، وفي النهاية أتصل بصاحب الحاجة فأذكّره بالشرطين، ثم أطلب منه دعوة أو دعوتين حسب النجاح أو الإخفاق.
· ومن العهود التي ألزمتها نفسي حفظ الجميل لمن أحسن إلي، وإعلان ذلك حيث ينبغي، ومقابلة الجميل بمثله، والإكثار من الدعاء لفاعله.
· ومنها أن أكوِّن آرائي بنزاهة ودقة وأناة، وأجهر بها حيث ينبغي، وأن أبدلها إذا دعت إلى ذلك دواع كريمة، وأصدع بهذا التبديل بشجاعة واعتزاز. ومنها أن للمسلم أن يأخذ بالرخصة ولكن ليس له أن يأخذ بالدنيَّة، وأن من لم يستطع قول الحق فليس له أن يقول الباطل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق