الأحد، 2 يناير 2022

في ضيافة المدينة المنورة

في ضيافة المدينة المنورة

     من أفضال اللَّه تعالى عليَّ، وأفضالُه لا تعد ولا تحصى، أنه شرَّفني بالإقامة في المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام، عامين مباركين، مدرساً في المعهد العلمي فيها «1387 - 1389هـ، 1967 - 1969م».

     كان هذان العامان عامين مباركين حافلين، فقد كان المعهد العلمي واحة خير ومودة وعلم، وكان مديره الشيخ علي الدخيل أخاً فاضلاً حازماً، وكان نائبه الشيخ حميد المالكي أخاً فاضلاً ليناً، وكان أحدهما يكمل الآخر.

     وبسرعة بالغة انعقدت صلة طيبة جداً، بيني وبين مَنْ في المعهد من إدارة وأساتذة وطلاب، أعانني على ذلك أني كنت شاباً نشيطاً مندفعاً يحب إقامة الجسور وبناء العلاقات، وأني كنت أنظر إلى التدريس أنه رسالة لا مهنة، وأنّ مَنْ في المعهد جميعاً عاملوني بنبل ومودة وأخوة.

     هذا عن المعهد الذي أكرمني اللَّه تعالى به، أما الحرم النبوي الشريف، ومنوِّره النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فهما فوق الوصف والبيان، إن الفرحة تملأ قلب المسلم حين يتاح له أن يقيم في المدينة المنورة أسبوعاً أو أسبوعين يصلي في مسجدها الطاهر، ويسلّم على سيده وسيد الخلق أجمعين، فكيف إذا كانت الإقامة عامين؟

     وقفت أمام المواجهة الشريفة مسلِّماً على الرسول الكريم وصاحبيه العظيمين مرات لا أحصيها، وظفرت بمثل ذلك في الصلاة في الحرم الشريف، وفي الروضة المطهرة، وفي زيارة مسجد قباء، ومثوى الشهداء في أُحُد، ومكان معركة الخندق، وما إلى ذلك من معالم طيبة الطيبة.

     وسمعت دروساً تلقى في الحرم الشريف، ومحاضرات عامة في الجامعة الإسلامية، والمعهد العلمي، وثانوية طيبة، ورأيت عدداً من الأعلام واستمعت لهم بإصغاء، أبرزهم المرحومان الصالحان الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ أبو الحسن الندوي، وخرجت في رحلات لطيفة خارج طيبة الطاهرة مع أساتذة المعهد، وطلبته، وغيرهم، وحضرت عدداً من المرات ندوة «الوادي المبارك» التي كان يقيمها الأستاذ عبد العزيز الربيع ؒ، وكان يومها مدير التعليم في المدينة المنورة.

     ولما كان عمري قريباً من أعمار معظم الطلبة في المعهد، ولما قابلوا ودي بود أكرم، وتحيتي بأحسن منها؛ تحول معظمهم إلى أصدقاء وزملاء، كنت أشجعهم على العلم، وأحثهم على التفوق، وأسمِّي لهم عدداً من المؤلفين والمؤلَّفات وأوصيهم بها، وأروي لهم النادرة الطريفة، والقصة الشيقة، فكانوا يسعدون بي وكنت بهم أسعد.

     واليوم حين أكتب هذه السطور بعد زمان طويل، أراني في منتهى السعادة حين أجد كوكبة من فضلاء الطلبة ونجبائهم، شقوا طريقهم في الحياة وتألقوا، ونالوا مكانة عليا عن جدارة واستحقاق، أجدني سعيداً لأن المسلم يحب الخير للآخرين، وأجدني سعيداً لأنني كنت أحثهم على الخير وأدعوهم إلى التفوق.

     من هذه الكوكبة المباركة أتذكر كلاً من: عايض الردادي، عوض الردادي، سليمان الرحيلي، عبد اللَّه الرحيلي، محمد العوفي، معيض العوفي، فيحان المطيري، محمد أيوب، عبد الرحمن الحميدي، حسام خاشقجي، حمادي التونسي، منصور العمرو، سليمان النملة.

     وإنني إذ أزجي لهؤلاء التحية الخالصة، أزجي تحية أفضل منها للكرام الآخرين الذين غابت أسماؤهم عن ذاكرتي، والكريم مَنْ عذر.

     ومن طرائف تلك المرحلة أني كنت في رحلة مع أسرة المعهد، وهناك أعطاني بعضهم بندقية صيد، فأطلقت الرصاص على بعض الطيور فأصبته فعدوني رامياً، وفي رحلة أخرى كنت نائماً فجاء أحدهم بضبّ، ووضعه عليّ ثم أيقظني ليرى ردّ فعلي، فقمت بهدوء فرأيت الضب فنفضته عني بهدوء، فعدوني شجاعاً.

     ومن أجمل ذكرياتي عن المدينة المنورة، على منوِّرها أفضل الصلاة والسلام، أنني حرصت على أن أصلي في مسجدها الطاهر أربعين صلاة لا تفوتني منها صلاة، وفعلت ذلك أكثر من مرة، طمعاً بالعطاء العظيم الذي وعد به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من يفعله، وحين كنت أصلي الصلاة الأربعين أشعر أن كل ذرة فيَّ تشكر اللَّه تعالى، والسعادة فيها تمتد وتمتد وكأنها بحر لا ساحل له، ولا عجب فآلاء اللَّه تعالى لا تحصى.

     كانت المدينة المنورة يومها قليلة السكان، صغيرة المساحة، وكنا شباباً صغاراً، قليلي المسؤوليات، وهذا ما جعل وقتنا متسعاً، لذلك كثرت لقاءاتنا وطابت؛ في الحرم الشريف وفي العقيق وفي العاقول، وكنا ثلاثة لا نكاد نفترق، صبري مرزا، وخالد قرفان، وأنا.

     لقد أكرمني اللَّه تعالى بالسفر إلى كثير من البلدان، الغني منها والفقير، المتقدم والمتخلف، المسلم وغير المسلم، وتعرفت من خلالها إلى عدد من الأعلام، وفي بعضها كانت لي ضيافة متميزة مشكورة، ولكني لم أجد مثل اللذة الروحية التي غمرتني ولا تزال تغمرني كلما كنت في المدينة المنورة إذ أشعر فيها أن نفسي أصفى، وروحي أنقى، وأعصابي أهدأ، وجسمي أنشط، ووقتي أوسع، ومطالبي أقل، وعقلي أذكى، وأن السكينة تملأ كل ذرة في كياني، وأن رجائي يربو، وأن مخاوفي تتضاءل، وأشعر أحياناً أنني أتنفس النور، وأحثو السعادة بيدي حثواً، وربما ابتسمت من الفرح والشكر، وربما بكيت.

     وقد كتبت في المدينة المنورة ومنوّرها صلى الله عليه وسلم طائفة من قصائدي، أعتز بها غاية الاعتزاز، آخرها قصيدة مطولة اسمها «طبت داراً» أرسلتها إلى النادي الأدبي في المدينة المنورة مشاركة مني في مسابقة شعرية أعلن عنها.

     وصلى اللَّه عليك يا سيدي يا رسول اللَّه، أنت هاجرت إلى يثرب، وأقمت فيها أول دولة للإسلام، ولقيت فيها ربك، فحوى ترابها جسدك الطاهر، أنت نوّرتها فكانت المنورة، وأنت طيّبتها فكانت الطيبة، فآلاؤها هبة منك لها، ومن هذه الآلاء نقتبس، وفيها نرفل، وبها نسعد، وإليها نحنّ، ويحن إليها المسلمون؛ حيث نكون ويكونون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة