طه حسين وشجاعة الاعتذار
تظل للدكتور طه حسين «1889-1973م» مكانة متميزة في وجدان الأمة، ذلك أنه كان - بما له وما عليه - شخصية لها حضورها البارز، لقد كان الرجل بعاهته وصبره ومثابرته وبيانه ومؤلفاته وأفكاره الصائبة والخاطئة، وبدعوته إلى التجديد، وجرأته المحمودة والمذمومة، شخصية مثيرة للجدل من شأنها أن تكسب الأصدقاء والأعداء على السواء.
في العشرينات من القرن الميلادي المنصرم أصدر الدكتور طه حسين كتابه الشهير «في الشعر الجاهلي» الذي ادعى فيه أن الشعر الجاهلي منحول، وقال في حق الدين كلاماً منكراً فتح عليه باب خصومه، وأعطاهم حجة قوية ضده، وانتهى الأمر بعد أن أصدر طبعة معدلة من الكتاب هي «في الأدب الجاهلي»، ولكنْ بعد أن حقق شهرة هائلة جعلته حديث القاصي والداني، فنال ما أراد، وكان يومها في العقد الثالث من عمره.
بعد قرابة عشرين عاماً أصدر كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وأكد فيه أن مصر تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط أكثر مما تنتمي إلى عالم العروبة والإسلام، ودعا إلى أن نأخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها، وما يذم منها وما يحمد، وكان يومها في العقد الخامس من عمره، أي أنه تجاوز مرحلة الشباب بما فيها من عجلة وحماسة، فلماذا قال ما قال وهو كهل من ناحية، وهو مَنْ نال الشهرة التي يريد من ناحية أخرى؟
منذ أن درست في جامعة القاهرة على يد كوكبة من الأساتذة المتميزين، وفي طليعتهم الدكتور شوقي ضيف وهو أنجب تلاميذ الدكتور طه وأبرزهم، وكان من بين ما درست ما قاله الدكتور طه عن الشعر الجاهلي، ثم أتبعت ذلك بما قرأته للدكتور طه وما قرأته عنه، وقر في نفسي أن الدكتور طه لم يكن مقتنعاً حقاً بما قاله في كتابيه المشار إليهما سابقاً.
حملني على ذلك أن الخطأ واضح فيما قال أشد الوضوح، وأن فيه عدواناً سافراً على الدين والدين أهم ثوابت الأمة، والدكتور طه ابن الريف المصري، وهو ريف يطبع أبناءه بحب الإسلام، كما أن فيه مجافاة صريحة للعقل المتوسط فضلاً عن الألمعي، والدكتور طه رجل ذكي ألمعي. إذن كيف قال ما قال مما يخالف إسلامه وألمعيته؟ قال الكثيرون -وأنا منهم: إن الرجل طالب شهرة، وقال كثيرون آخرون: إنه كان ينفذ مخططات معادية يحرضه أهلها ويدعمونه، فليست الشهرة وحدها وراء ما فعل؛ بدليل أنه كتب كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» بعد أن حقق شهرته الواسعة يوم أصدر كتابه «في الشعر الجاهلي».
وأياً كان فقد وجدت نفسي أدين الدكتور طه وأخالفه، لكنني ظللت في أعماقي أرى أنه مسلم محب للإسلام قال ما قال وهو غير مقتنع به؛ طلباً للشهرة، أو إرضاء لجهات معادية، أو الاثنين معاً.
ومع الزمن ازداد اقتناعي رسوخاً، حين سمعت من الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله في داره في القاهرة، وفي الرياض حين كان يزورها، كما سمعت من سواه، أن الدكتور طه حسين كان يسر لبعض جلسائه وخاصته أنه أخطأ فيما قال.
ثم تكاثرت الأمارات والقرائن والأدلة على أنه اعترف بخطئه، لكن لم يصل به الأمر إلى أن يعلن ذلك في بيان شاف وعلانية جهيرة وقول فصل، وهو ما كان ينبغي له أن يعمله، فلا يجوز أن يكون الخطأ ملء السمع والبصر والاعتذار عنه في جلسات خاصة ضيقة. وغفر اللَّه للدكتور طه، لقد امتلك الجرأة على المجاهرة بالباطل، لكنه لم يمتلك الجرأة على المجاهرة بالحق، ولو أنه فعل لشكر له الناس ذلك، وأحبه حتى من عاداه، ونال رضا الخالق وهو أجل وأبقى.
وقد نشرت مجلة العربي الكويتية في عددها رقم 519 الصادر في فبراير 2002م؛ مقالاً للأستاذ محمد سيد بركة عنوانه «في بيت اللَّه الحرام طه حسين يحج والشيخ الشعراوي يستقبله»، وقد ربط هذا المقال على قلبي، وزادني يقيناً بما وقر في قلبي عن طه حسين من قديم.
ذهب الدكتور طه حسين إلى جدة في مهمة ثقافية وذلك في عام 1955م، أي أنه كان في السادسة والستين من العمر، وقد كبر وشاخ ونضج، ونال كثيراً مما كان يطمع أن يصل إليه، وحسناً فعل حين ذهب إلى كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة.
وحين عاد إلى القاهرة قال في مقابلة صحفية: «لقد سبق أن عشت بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عاماً - منذ بدأت أكتب «على هامش السيرة» حتى الآن - ولما زرت مكة والمدينة أحسست أني أعيش بفكري وقلبي وجسدي جميعاً. عشت بعقلي الباطن، وعقلي الواعي، استعدت كل ذكرياتي القديمة، ومنها ما هو من صميم التاريخ، ومنها ما هو من صميم العقيدة، وكانت الذكريات تختلط بواقعي، فتبدو حقائق حيناً ورموزاً حيناً، وكان الشعور بها يغمرني ويملأ جوانب نفسي».
ولما سئل: هل أخرجك هذا الشعور عن المألوف؟ ابتسم وقال: «على أي حال لم أصل إلى درجة الانجذاب، كنت دائماً في كامل وعيي، أخذتني الرهبة والخشية والخشوع كل مأخذ عندما كنت وحدي».
يقول الأستاذ محمد سيد بركة: ولقد زار طه حسين الأماكن المقدسة مرة واحدة، وكان كما يقول في هذه المرة الواحدة مع الناس ومع نفسه في وقت واحد، ويوضح ذلك بقوله: «لقد جرت العادة عندما يصل المرء إلى الكعبة أو المسجد الحرام أن يتسلمه طائفة من الناس يسمون «المطوّفين» أي الذين يقومون بإجراءات الطواف بالكعبة، ويسمون في المدينة «المزوِّرين» أي الذين يقومون بإجراءات الزيارة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد حاولت جهدي أن أتخلص من المطوفين والمزورين، ولكن محاولاتي ذهبت هباء، وجدتني بين أيديهم أردِّد بلا وعي ما يقولونه، ووجدتني في الوقت نفسه وحدي، وإن كنت في صحبتهم، كنت شخصين: شخصية واعية بلا كلام، وشخصية متكلمة بلا وعي.
كانت الشخصية المتكلمة بلا وعي تردد كلام المطوفين والمزورين، وكانت الشخصية الواعية بلا كلام تناجي ربها في صدق وصمت وخشوع».
إيمان فطري عميق! فهو ككل مسلم يهفو إلى زيارة الأراضي المقدسة، وقد عبر عن مشاعره الأولى حين حل بهذه الأراضي فقال: «أول ما شعرت به وما زلت أشعر به إلى الآن هو الذي يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جداً إلى موطن عقله وقلبه وروحه بمعنى عام»، وقد قام طه حسين بالتنبيه على مرافقه وهما يغادران مدينة جدة قاصدين البيت الحرام في مكة المكرمة أن يوقف الركب عند الحديبية، فلما توقفوا عندها ترجّل الرجل، وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمّها، ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب قائلاً: «واللَّه إني لأشم رائحة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا التراب الطاهر»، وهدأ مرافقه من روعه خلال استراحة الركب من عناء السير، ثم استأنف الركب الرحلة حتى دخل الحرم من باب السلام، والدكتور لا يكاد يخفي وجد إيمانه عن رفيقه، وتوجها إلى الكعبة فتسلم الحجر وقبّله باكياً، واستمر يطوف ويسعى في خشوع ضارع وبكاء خفي.
ويقول أمين الخولي صاحبه في تلك الزيارة: «حين استلم طه حسين الحجر الأسود ظل يتنهّد ويبكي ويقبّل الحجر حتى وقفت مواكب الحجيج انتظاراً لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه، ولكنه أطال البكاء والتنهيد والتقبيل، ونسي نفسه فتركوه في مكانه وأجهشوا معه في البكاء والتنهيد».
وعند الطواف؛ كان طه حسين يناجي ربّه بقول: «اللهم لك الحمد. أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت»!
وهو يحفظ هذا الدعاء منذ بعيد، ويرى أنه من أصح ما روي من الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يناجي ربه دائماً بهذا الدعاء، وبغير هذا الدعاء.
وفي فلورنسا في مؤتمر عن الحضارة المسيحية قال هذا الدعاء باللغة الفرنسية، ولم يكد ينتهي من إلقاء الدعاء حتى دوت قاعة المؤتمر بتصفيق شديد. وجاءته سيدة مسيحية، وطلبت نسخة من الدعاء، وقالت وهي تبكي: خذ دموعي وإعجابي وبلغها للإسلام الذي أحبه كثيراً، فقال لها: لا داعي للدموع، إعجابك يكفي!، وختام هذا الدعاء النبوي الكريم اختارته أسرته الكريمة لينقش على ضريحه.
***
وبعد:
لقد أبحت لنفسي هذا النقل الطويل عن الأستاذ محمد سيد بركة، لأنني فرحت به، فقد ربط على قلبي، وأكد أن الدكتور طه مسلم عميق الإسلام، وإن كان هذا لا يبرر له أخطاءه قط، لقد أخطأ مرتين، أخطأ حين قال ما قال، وأخطأ حين خانته شجاعته فلم يعتذر اعتذراً علنياً شافياً مكتوباً كما كان ينبغي له أن يفعل.
وثمة درس مستفاد هو أن في الإنسان عامة والمسلم خاصة، مساحة من الخير تضيق وتتسع، وتخبو وتعلو، ومن النادر أن تغيب غياباً تاماً، ومهمة الدعاة الأذكياء أن يبحثوا عن هذه المساحة بأناة وصبر، وحب للمدعوين، والاهتمام بهم، والتماس المعاذير لهم ما أمكن، وتسليط الضوء على هذه المساحة وتوسيعها واستثمارها حتى تبلغ مداها في يوم يعلمه اللَّه وحده، نجد فيه الكافر أو المعاند أو الضال أو العاصي يفيء إلى الحق، إذا استبان له الهدى بعد ضلال، أو عزفت نفسه عن الشهرة بعد استعلائه عليها، أو غلب في نفسه داعياً من دواعي الخوف والطمع، أو انتصر على مفسدة كانت تحكمه، والأمثلة كثيرة جداً في قديم الزمان وحديثه، كانت ولا تزال تقدم لنا شواهد على صحة هذه الفكرة، في رجال آمنوا بهذا الدين وكانوا يجهلونه، وآخرين التحقوا بركبه وكانوا من أعدائه، وطائفة أخرى من أصحاب المعادن العالية والمواهب المتألقة كانوا من أشد خصومه فصاروا من أعظم فرسانه.
ودرس آخر يهم المسلمين عامة، وأصحاب الدعوة والفكر والأدب والريادة منهم خاصة، وهو أن يمتلك الواحد منهم شجاعة الاعتذار إذا أخطأ، وأن يكون الاعتذار مكافئاً للخطأ حتى يمحوه، وأن يقصد بقوله وعمله وجه اللَّه تعالى، ويحذر من الانسياق الخاطئ وراء حب الشهرة؛ لأنه مقتل، ومن الوقوع في براثن من يريد بدينه وأمته السوء؛ لأنه كارثة.
غفر اللَّه للدكتور طه حسين أخطاءه، وتقبل منه حسناته، وعامله برحمته لا بعدله، وألهمنا العبرة من سيرته.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق