لقاء ودود بعد أربعة عقود
كان لي مجموعة من الزملاء الهنود أيام المرحلة الجامعية، وكان أحدهم من كيرالا في جنوب الهند، واسمه سيد محمد علي شهاب، وكانت تلوح عليه أمارات النبل والجاه والثراء، كان نحيفاً هادئاً مؤدباً أنيقاً، وكانت صلتي به جيدة جداً، وكنت أساعده في بعض أمور الدراسة التي يحتاج إليها، وأذكر أنني أهديته كتاب العقاد «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» فسرّ به، ثم جاء عام «1383هـ/ 1963م»، حين تخرجنا وذهب كل منا في سبيله.
ودار الزمن دورة قصيرة مداها خمس سنوات، فشاء اللّه تعالى أن ألقاه، كنت في المدينة المنورة، وكنت في حرمها الشريف، صليت مع الإمام، ثم خرجت أمشي وأستروح وأنتظر الصلاة التالية، فإذا بنا وجهاً لوجه، كان قادماً من الهند بقصد الحج وزيارة المدينة المنورة، وحرمها الطاهر، وساكنها الأعظم محمد e، وشاء اللَّه تعالى الذي لا حد لقدرته؛ أن نلتقي رغم شدة الزحام، وتدافع الناس، وكثرة الوجوه، فرحنا وتمشينا وتعشينا، واستعدنا الذكريات السابقة، وحمدنا اللَّه تعالى على نعمة الأخوة، وافترقنا.
ودار الزمن دورة طويلة جداً، فإذا به يهاتفني ويخبرني أنه في الرياض، فقد علم أني فيها، واستطاع من خلال زميل هندي آخر اسمه شعيب النجرامي يعمل في الدمام أن يحصل على رقم هاتفي فبادرني بالاتصال.
في ضحى يوم الجمعة «12/ 4/ 1429هـ، 18/ 4/ 2008م» ذهبت إلى فندق قصر الرياض الذي أخبرني أنه فيه، ومن الجناح الذي يقيم فيه، والحاشية التي تحف به علمت أنه غني كبير، تقابلنا بعد هذه السنوات الطويلة فعرف بعضنا بعضاً؛ مع أن الشيب غيّر فينا ما غيّر، وبادرني بالسؤال: وكيف دير الزور؟ فابتسمت وقلت: ألا تزال تذكر؟
وجلسنا معاً ننبش الذكريات، ونتحدث عن الأساتذة والزملاء، ويلخص كل منا للآخر في وقت قصير أمور حياته التي طالت وامتدت، سألني عن أولادي فأجبته، وأخبرني أنه أب لولدين وثلاث بنات، وأنه أبو «منوّر»، فقلت له: وأنا «أبو معاذ».
كان من العسير بسبب وقته الضيق، وبرنامجه المزدحم، أن أحظى به في لقاء خاص يطول ويمتد، لقد جاء إلى الرياض بالأمس قادماً من الحجاز حيث أدى العمرة، وهو مسافر في الغد إلى الكويت، فدبي، فالهند، لذلك ودعته وفي النفس أشياء وأشياء.
كانت الزيارة ودية، عابقة بالوفاء، أهديته بعض كتبي، فشكرني ودعاني لزيارته في كالكوت، في كيرالا.
وصفه لي الأخ شعيب وهو هندي، كان زميلي وزميله في الجامعة بأنه بليونير لا مليونير، وأنه رجل مهم في ولايته، وقال عنه: إنه فيها صانع الرؤساء والحكام، فرجوت من اللَّه عزو جل أن يهيئ لي فرصة لزيارته لعلي من خلاله أضع نفسي - في حدود ما أقدر عليه - في خدمة المسلمين في كالكوت.
في هذا الأخ الكريم أمارات نبل حقيقي، وسجايا فضل وكرم، وسلوك يدل على شرف المحتد، وطبيعة المروءة، ونقاء الطباع، تشعر أن ما حباه اللَّه تعالى به، من جاه وثراء لم يبطره، ولم يدفعه إلى الغرور، بل هو يتصرف به ومنه تصرف الشريف الأصيل، والسري النبيل، بدون مشقة أو تكلف، وكأنه الوردة الشذية تهب بفطرتها رائحتها الجميلة للآخرين.
أكبرت فيه أنه ذهب إلى «تريم» في حضرموت لزيارتها، وما ذلك إلا لأنها بلد أجداده الذين هاجروا منها إلى الهند قبل قرون، والوفاء سمة الكرام، ومثل هذه الزيارة وفاء خالص، إن هذا الزميل الكريم منسوب إلى الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو بذلك شريف من حيث النسب، كما أنه بسلوكه شريف من حيث التعامل.
شكرت للأخ الكريم وفاءه، وعجبت من سرعة الزمان، وبعد أن عدت إلى البيت لأكتب هذه السطور، وجدتني أردد قول المتنبي:
كثيـــرُ حياةِ المرءِ مثلُ قليـلِها يزولُ وباقي عيشِه مثلُ ذاهبِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق