الجذور
حيدر أَمْ عبد الملك .. والغدير..
حين ولدت في دير الزور يوم الخميس «11/ 5/ 1358هـ، 29/ 6/ 1939م»، كانت أمي تريد أن تطلق عليّ اسم «عبد الملك» لكن أبي فضل أن يطلق علي اسم «حيدر» وهو الذي كان، و«حيدر» و«حيدرة» من أسماء الأسد، وهما من ألقاب الإمام علي رضي الله عنه، فقد عرف بذلك، لأنه في معركة «خيبر» -وكان بطلها الأول، وحامل راية فتحها- برز له بطل شجاع من أبطال اليهود اسمه «مرحب» فسارع إليه الإمام وهو يرتجز:
«أنا الذي سمّتني أمي حيدرة»
وما زال به حتى قتله.
أما «الغدير» وهو جد العائلة الذي ننتسب إليه، فهناك رواية تقول: إنه حمل هذا الاسم لأنه ولد على شاطئ أحد الغدران في بادية الشام، ومن هنا جاءت تسميته وتسمية عائلتنا من بعده.
ونحن ننتمي إلى فرع «العبدة» من قبيلة «شمر» التي تعود جذورها إلى القبيلة العربية الشهيرة «طي»، وكانت لأخي «هشام» ؒ، عناية بالغة جداً بقضية الجذور والفروع وشجرة النسب، وقد تابع تفاصيلها متابعة دقيقة من خلال الأقارب والجيران وكبار السن، حتى استطاع أن يصل بتسلسل النسب إلى الجد الثاني عشر، وهو «محمد البشر العلي» ؒ، وهو الذي جاء من «حائل» إلى منطقة «دير الزور» في سورية أيام الدولة العثمانية، واستوطن بادية الشام قريباً من نهر الفرات.
ويتوزع سكان فرع العبدة الذي ننتمي إليه في أماكن كثيرة، أبرزها دير الزور، وقرية «القطعة» التي تبعد عنها نحو عشرين كيلو متراً باتجاه الشرق، وتسمى أيضاً «ألبوليل» لأن أهلها عبروا الفرات ليلاً يوم هجرتهم، ولا تزال تربطنا ببعض أبنائها صلة طيبة، لقرب المكان، وتبادل الزيارات، والاجتماع في المدارس، فضلاً عن قرب الجد الذي نلتقي فيه أجمعين.
ومن أبرز مشاهير «القطعة» رجل عرف بالشجاعة والكرم، وعاش قرابة تسعين عاماً، وهو «موسى الصالح الحسن المنصور» وقد سمّاه البدو «أبا الهيَّال» لأنهم وفدوا عليه في سنة من سنوات الجدب، فذهب بهم إلى بيدر من بيادر القمح، وأباحه لهم، وقال لهم: «هيلوا يا عرب»، وكأنه يدعوهم أن يأخذوا من القمح كما يشاؤون، ولا يزال هذا اللقب «أبو الهيَّال» معروفاً في ذويه يتناقلونه باعتزاز وإكبار، وقد توفي عام 1957م، رحمه اللَّه رحمة واسعة.
وأذكر أنني زرت هذه القرية عدة مرات في حياتي، أما من لقيته من أبنائها، سواء الذين ظلوا فيها، أو هاجروا منها إلى دير الزور فهم كثيرون.
وقد عرف أبناء «شمر» بالشجاعة والعناد والكرم، وكانوا في حروبهم مع الآخرين، يهتفون بكلمة «سناعيس» يقولونها من باب التعريف والتوثيق وإثارة النخوة والحمية.
هذه نبذة يسيرة عني من حيث الأب، أما من حيث الأم، فإنها من «دير الزور» مولداً، ومن «حماة» أصلاً، وبين المدينتين تشابه كبير، فدير الزور تقع على الطرف الشرقي لبادية الشام، وحماة تقع على الطرف الغربي لها، وكان جدها الحموي تاجر أغنام، يبدو أن الحياة في دير الزور طابت له فاستوطنها.
وإذن فأنا عربي خالص العروبة، أحب العرب، وأحب العربية، وأحب العروبة، وأتعصّب لذلك تعصباً رشيداً حكيماً، والتعصب الرشيد الحكيم، تعصب مباح، بل محمود، وربما كان واجباً أو فريضة، والإسلام إنما يحرم التعصب الجاهلي المذموم، وأحفظ كلمة ذكية في هذا المجال، يحسن إيرادها، نسيت قائلها، ولعله الشيخ محمد رشيد رضا ؒ، تقول: «القليل من التعصب يعمّر، والكثير منه يدمّر».
إن للعرب مزايا مقررة، ولغيرهم مزايا مقررة، لكنهم في الجملة وبما لهم وبما عليهم، أوسع أفقاً، وأعز نفساً، وأسمح قلباً، وأسخى يداً، وأفصح لساناً، وأكثر مروءة، وأذكى عقلاً، ولا عجب في هذا، فهو من لوازم اختيار اللَّه تعالى لهم لحمل رسالته، وهو أعلم؛ ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، وهو أمر شهد به الكثيرون من غير العرب، من مسلمين وغير مسلمين.
أما مدينة «دير الزور» فهي المدينة التي ولدت فيها، ومكثت فيها حتى بلغت العشرين، ثم غادرتها حيث درست اللغة العربية في جامعة القاهرة لمدة أربع سنوات، حتى إذا كان عام 1967م، ضقت بالحياة السياسية في سورية ضيقاً شديداً، فجئت إلى المدينة المنورة فدرَّسْت فيها مدة عامين، ثم انتقلت إلى الرياض فطاب لي المقام وطال فيها، حرسها اللَّه، وحرس المملكة العربية السعودية وجميع بلاد المسلمين.
تقع دير الزور شمال شرق سورية على شاطئ الفرات، وعلى الطرف الشرقي لبادية الشام، وهي مدينة مسلمة، فيها القليل من النصارى يعيشون مع أهلها في مودة وسلام، وأهلها مسلمون سنة، فيهم نزعة قبلية واضحة، تبدو جلياً في طباع أهلها، ولهجتهم، وغنائهم، وأزيائهم، وعاداتهم، وكرمهم، وحدتهم، وألوانهم، ومآكلهم، لذلك وصفها الشيخ علي الطنطاوي، حينما عمل فيها مدة قصيرة في أواسط الأربعينيات الميلادية من القرن العشرين بأنها «سفارة عراقية في سورية».
وأستأذن القارئ الكريم في أن أذكر هاهنا واقعتين غريبتين، لما فيها من طرافة من ناحية، ودلالة على الطابع العراقي البارز في المدينة من ناحية.
الأولى ترجع إلى عام 1939م، وفي هذا العام قتل الملك العراقي غازي بن فيصل بن الحسين، في حادث سيارة، قيل: إنه مدبّر، دبره خصومه ليتخلصوا منه بسبب مواقفه الشجاعة ضد الإنجليز الذين كانوا يحكمون العراق آنذاك، وقد حزن الناس عليه حزناً شديداً، للريبة التي صاحبت الحادث المأساوي، وشباب الملك غازي الذي رحل وهو في عمر الزهور، ولجرأته التي كانت حديث القاصي والداني، ولمواقفه التي جعلته أملاً للأمة، ففيه هاشمية الدم، واندفاعة الشباب، ونبل الغاية، وكان للملك غازي إذاعة خاصة به في بغداد تبث للعرب والمسلمين ما يعبّر عما يريدون، لذلك تعلق الناس به تعلقاً كبيراً، وبكوه بكاء أكبر، وقد ظل أهل دير الزور - كما حدثتني أمي رحمها اللَّه - يخرجون إلى ظاهر المدينة أربعين يوماً بالتمام والكمال، يبكون الملك القتيل شعراً ونثراً، ويلطمون وجوههم، ويمزقون ثيابهم، وكأنهم من خلال حزنهم عليه، ينعون الأمل الذي غاب، والفارس الذي ترجل، أي أن الحزن الخاص تداخل مع الحزن العام، والبكاء على الشخص الفرد تداخل مع البكاء على الوطن والأمة.
وقد كان الفرنسيون وهم حكام سورية يومها، ينظرون إلى ما يفعل أهل المدينة باستغراب شديد، حتى قال بعضهم عن أهلها: «إن هؤلاء قوم مجانين»، وقد ظلت الأناشيد والأهازيج والبكائيات التي قيلت في مقتل غازي حية في ضمائر أهل دير الزور زمناً طويلاً بعده، ولعلها لا تزال حية في ضمائر الكبار منهم، وهي تصلح موضوعاً طريفاً من موضوعات الأدب الشعبي في رسالة علمية، واسم «غازي» شاع كثيراً في تلك المدة، مرده إلى إعجاب الناس بالملك القتيل رحمه الله رحمة واسعة.
أما الواقعة الثانية فترجع إلى عام 1959م، وهو العام الذي حصلت فيه على الثانوية العامة، ومحل الواقعة هو العاصمة دمشق، كنت فيها مع اثنين من زملائي من أبناء دير الزور، في طريقنا إلى القاهرة للدراسة فيها، وكانت دمشق تعج بعدد كبير جداً من اللاجئين العراقيين الهاربين من العراق، عقب إخفاق ثورة الشواف في الموصل على عبد الكريم قاسم الذي كان يحكم العراق، والذي تحالف مع الحزب الشيوعي العراقي، وأطلق يده ضد الخصم المشترك لهما من غير الشيوعيين، فانطلقوا بوحشية وهمجية يقتلون، ويعذبون، ويصلبون، ويسحلون، فكرههم الناس داخل العراق وخارجه كراهية شديدة، وكرهوا نظام قاسم، وعبروا عن ذلك بطرائق مختلفة، منها ثورة عبد الوهاب الشواف التي أخفقت، وأدت فيما أدت إليه إلى هروب كثير من العراقيين إلى سورية، المهم أنني وزميليّ دخلنا في ذلك الوقت أحد المطاعم، ولسبب ما غضب مني صبيّ المطعم، فسبّني فسببته، وضربني فضربته، وكان قد ظننا عراقيين فسب العراق، فغضبت للعراق فسببته وسببت سورية، واجتمع علينا عدد من الناس في حفلة من «الضرب الجماعي»، وانتهى الأمر بنا في مخفر الشرطة، حيث كان المسؤول فيه مستغرباً لما حدث غاية الاستغراب، ولقد ظللت زمناً طويلاً، ولا أزال أقول حين تدعو الحاجة إلى القول لأصدقائي العراقيين: «إن لي حقاً على كل عراقي لأنني ضربت من أجل العراق»، حمى اللَّه العراق والشام وجميع ديار المسلمين.
وقد بقيت في دير الزور عشرين عاماً متصلة «1939-1959م» حصلت فيها على الشهادة الابتدائية عام 1952م، والمتوسطة عام 1956م، والثانوية عام 1959م، ثم غادرتها للدراسة الجامعية.
ومع هذا الزمن الطويل، لا أزال أتابع أخبار هذه المدينة، وألقى بعض أبنائها هنا وهناك، وهي اليوم - كما سمعت - فيها قطار، ومطار، وجامعة، وبترول، وسكانها نحو نصف مليون، ولو أن أهلها كانوا أنشط، ولو أن السلطة المركزية في دمشق، أعطتها حقها من العناية لكانت في خير حال، فأراضيها واسعة، ونهرها عظيم، والبترول السوري يستخرج معظمه منها.
وأنا لا أزال أذكرها وأحن إليها، وأتمنى أن أذهب إليها في زيارة دافئة آمنة، أرى فيها ملاعب الشباب، ومسارح الصبا، وبقايا الأهل والأصحاب، وأسبح في نهرها، وآكل من أسماكه، وأمشي على الجسر الجميل المعلق الذي طالما تمشينا عليه في صغرنا، ثم أنسلُّ في هدوء إلى مقبرة المدينة لأزور سكانها، وأدعو لهم بعامة، ولذويّ منهم بخاصة بالرحمة والغفران، فإذا استوفيت من ذلك ما أريد، خلوت بصفوة الصحب، نتحدث، وننبش الذكريات، ثم أنشدهم شيئاً من شعري، وخصوصاً ما قلته في «دير الزور»، حماها اللَّه وحمى بلاد المسلمين أجمعين.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق