مع الشعر
تعلقت بالشعر منذ صباي الأول، لكن هذا التعلق كان في حدود أمثالي من الزملاء، ولكني مع الزمن وجدت هذا التعلق يزداد، حتى إذا جاءت المرحلة الثانوية وجدتني أحسم خياري في الدراسة الجامعية، فدرست الأدب العربي في جامعة القاهرة، واستأثر الشعر بمعظم اهتمامي في أثناء هذه الدراسة.
وظللت أقرأ الشعر وأنظمه، ولكني لا أنشر منه شيئاً لعدم رضاي عن معظم ما أنظمه، ثم شغلتني عن الشعر صوارف كثيرة، من العمل، ومن القراءات الكثيرة المتنوعة، حتى إذا تجاوزت الخمسين وجدتني أعود للشعر بقوة، ووجدتني أبدأ بنشر ما أرضاه من القصائد، وقد أدى هذا التأخر إلى ضعف شهرتي شاعراً، وأدى إلى أني لم أندم على ما نشرت، لأني نجوت من تعجّل النشر الذي يعمد إليه بعض الشعراء ثم يندمون على ذلك، لأنهم بعد النضج لا يرضون عما تعجلوا نشره، وبعد الخمسين صار الشعر هاجسي الأكبر، وأحياناً الوحيد.
ومن أفضال اللَّه تعالى عليَّ - وأفضاله لا تعد ولا تحصى - أني أستشير ثلة من كرام الإخوة فيما أودّ نشره، فأضعه بين أيديهم، وأنتظر آراءهم، وأعيد النظر فيه على ضوء هذه الآراء، وكانت الصراحة هي قانون التعامل، وكنت أفرح بنقدهم مهما كان، انتقاصاً أم ثناءً، وربما طويت القصيدة جملة وتفصيلاً إذا اقتنعت بما بيّنوا لي فيها من عيوب، لقد كانت لهؤلاء الإخوة أيادٍ بيضاءُ على شعري، وكان صدري يرحب بملاحظاتهم أجمل ترحيب، وكانوا يعرفون مني ذلك ويشكرونني عليه، وأبرز من كانوا يصوِّبون لي شعري ويقوِّمونه: الدكتور أحمد البراء الأميري، والأستاذ صدقي البيك، والأستاذ شمس الدين درمش، والأستاذ عبد الرزاق دياربكرلي؛ وكان أجرأَ الجميع عليَّ، وربما مزق القصيدة التي بين يديه لضعفها، فكنت أبتسم وأشكره، وربما استجبت لرأيه وألغيت القصيدة، جزاهم اللَّه عني خير الجزاء، فقد كانوا عوناً في ارتقاء شعري.
شغفت في البداية بشعر شوقي، وأعجبت به ولا أزال معجباً، وقد أدمنت النظر فيه ولا أزال، وهو بحق شاعر عبقري وعملاق.
ثم شغفت بالمتنبي ولا أزال، وهو جِنِّيُّ الشعر العربي وعبقريه، وهو ذو قدرة كبرى على الحشد والتركيز، فضلاً عن معرفة عميقة بأسرار النفس الإنسانية ونوازعها، وهذان الأمران أهم أسباب خلوده وتميزه، وعند بعض الناس أنه حكيم وفيلسوف لا شاعر، وعند بعضهم الآخر أنه حكيم وفيلسوف من ناحية، وشاعر من ناحية أخرى، وأنا من هؤلاء، لقد انفرد إلى حد كبير بالقدرة على الحشد والتركيز، والغوص في أعماق الإنسان وميوله، وكان له في ذلك تفوّق بارز، لكنه شارك الشعراء العظام الآخرين في أمجادهم الشعرية، وحين أقرأ روائع شعره أشعر أن دمي يتغير، وأن الكهرباء تسري في جسمي، وأتمثله قائماً أمامي، وينتابني إزاءه إعجاب شديد، وقد عكفت على ديوانه مرات لا أحصيها.
وشغفت أيضاً بالشاعر الكبير بدوي الجبل، وقد قرأت ديوانه هو الآخر مرات كثيرة لا أحصيها.
وليس لي أن أغفل عن الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، لقد كنت معجباً به من قديم، وازداد إعجابي به لما صار موضوع رسالتي للدكتوراه، وهذا جعلني أقرؤه مستمتعاً من ناحية، ودارساً فاحصاً من ناحية أخرى عدة سنوات.
إن هؤلاء الشعراء الأعلام أبرز أساتذتي في الشعر، كانوا ولا يزالون، وإن بصماتهم عليَّ واضحة جداً.
وعكفت أيضاً على بعض كتب المختارات، لأن فوائدها كثيرة، فهي تجمّع ما تفرق هنا وهناك، ثم إنها في العادة تنتقي روائع الشعر، والتنوع الذي فيها يطرب من ناحية، ويغني من ناحية، ويبعد الملل من ناحية، وأذكر أني قرأت عدة مرات، وبغاية الدقة «المختار من الشعر الأندلسي» للدكتور محمد رضوان الداية، و«الزهرة» للأصبهاني، و«السحر والشعر» للسان الدين بن الخطيب، و«الشعر العربي روائعه ومدخل لقراءته» للدكتور الطاهر أحمد مكي.
وحين يقع لي نص شعري يعجبني في جريدة أو كتاب أو مجلة، أصوّره، ثم أضعه مع أمثاله في ملف خاص، وأقرؤه مرة بعد مرة، ثم أتركه، ثم أعود إليه بعد زمن يطول أو يقصر، فأعكف عليه من جديد، وهكذا، حتى أشعر أني تشربته تماماً، وربما قرأت بعض هذه النصوص أكثر من عشرين مرة، وهو أمر فعلته مع «القوس العذراء» لشيخ العربية الكبير محمود محمد شاكر ؒ، أما قصيدة «أسعف فمي» للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، فقد أعجبت بها جداً، ولعلي قرأتها مئة مرة أو أكثر، ولا أزال مشوقاً إليها.
ولقد كان لهذه الطريقة في اختيار النصوص الممتازة، وإدمان النظر فيها، وتشرّب معانيها وأساليبها وموسيقاها وصورها أثر كبير فِيّ.
وأنا أحب النظم في الأحوال التي يفرغ فيها البال، ويعتدل المزاج، وتغيب الصوارف، وتطول الخلوة، وتجتمع الشوارد، وأغرق تماماً فيما أكتب، والقصيدة التي أضع لها اسمها في أعلاها وتاريخ نظمها ومكانه في أسفلها أكون قد رضيت عنها، وأجزتها، وإلا فإنها لا تزال تحت المراجعة لفترة تطول أو تقصر.
وقد أكتب قصيدة ثم أنصرف عنها وقتاً يطول أو يقصر، فإذا عدت إليها ورضيت عنها، أو عدلتها تعديلات طفيفة، فإني أضع لها تاريخها القديم، أما إذا كثرت التعديلات فإني أضع لها تاريخها الجديد.
وأنا اجتهدت في شعري بشكل عام طلباً للإتقان، لكنني في بعض الأحيان أفرغ منه سريعاً كأن القصيدة كانت مختزنة فيَّ بكاملها، وكأنها كانت تكتبني ولا أكتبها، وكأنها ماء في صنبور فتح فتدفق، وهذا ما حصل لي على سبيل المثال في قصيدتي «هوية»، وفي أحيان أخرى يطول بي الأمر فتأخذ القصيدة مني عدة شهور كما حصل لي على سبيل المثال في قصيدتي «صلاح الدين».
وقد صدر الجزء الأول من شعري تحت عنوان «ديوان حيدر الغدير» عن مكتبة التوبة في الرياض «1436هـ/ 2015م» في 556 صفحة، من القطع العادي (24×17)، وفيه مقدمتان ضافيتان للأخوين الكريمين الأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، والدكتور أحمد البراء الأميري، جزاهما اللَّه خير الجزاء، وهناك أجزاء تالية بإذن اللَّه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق