صلح مع الهوى
كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، من ألمع الدعاة في هذا العصر، وكان كاتباً وخطيباً، وكانت له مواقف جريئة جعلته يومها حديث الناس في شرق البلاد وغربها، وقد قرأت له الكثير وتأثرت به، وشاء اللَّه تعالى لي أن أستمع إلى خطبته في الجامع الأزهر يوم كنت طالباً في القاهرة، وشاء لي أيضاً أن ألقاه في الرياض العامرة، يوم كان يأتي إليها للمشاركة في مؤتمر أو حفل.
وقد أعجبني - من بين ما أعجبني فيه - أنه صاحب لغة متميزة جداً، ولو أنه أعطى الأدب عناية كبيرة لكان من أعظم أدباء العربية، لكن عنايته بالعمل الدعوي، ممارسة، وخطابة، وتأليفاً، صرفته عن ذلك، وهو من أفضال اللَّه تعالى عليه.
ومما أسرني في لغته قدرته على الإيجاز البليغ المؤدي، بحيث يستطيع أن يقول في القليل ما يقوله الآخرون في الكثير، وبعض عباراته الموجزة المحكمة التي قد تجيء في سطر أو سطرين، تشعر أنها أشبه بالبرقية التي صيغت بأقصى درجات الإيجاز والإحكام، ولكنها أوصلت المعنى المطلوب تماماً، وهو ما يذكر الإنسان بروائع المتنبي الخالدة، التي كانت تأتي في لغة محكمة، موجزة، مشحونة، متوترة، فيسمعها الإنسان وهو مأخوذ مبهور، ويشعر أنها تعبر بغاية الدقة عن الموقف الذي هو فيه تماماً، وأكثر ما يظهر ذلك في حكمه الباهرة، التي هي أعظم أسباب خلوده وشهرته.
وقد قرأت له جملة من هذا النوع الباهر، يقرر فيها أن بعض الناس يعقد صلحاً مع هواه ثم يبحث له عن غطاء ديني لتبريره. ولقد حاولت أن أضع الجملة كما قالها تماماً لأني استدعيتها من الذاكرة، ولعلها أدق وأبلغ. ولقد ظلت هذه الجملة العبقرية تسكن أعماقي، أنساها مرة وأذكرها مرة، وكلما تأملت فيها ازددت بها إعجاباً. إنها تصور حقيقة من حقائق التدين المعلول، أو المغشوش، أو المدخول، أو الزائف، الذي يشيع بين أنماط من المسلمين، بدرجات متفاوتة، وهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون يوهمون أنفسهم أنهم على خير، ويلتمسون المعاذير لعيوبهم السلوكية، أو النفسية، أو العقلية.
وسوف أضع بين ناظري القارئ الكريم مجموعة من الوقائع عرفتها بنفسي، عن عدد من الأشخاص، لهم صفة دينية تتفاوت بين شخص وآخر، وحالة وأخرى، لكنها تتحد في أنها نماذج واضحة جداً للهوى الذي يلبس لبوساً شرعياً زائفاً.
كان (...) رجلاً معروفاً بالتدين في مدينته، وكان يتحدث هنا، ويخطب هناك، ويشارك في أنشطة تضفي عليه صفة الداعية العملي. وكان يكثر من الصلاة في مساجد مدينته، ويطيل المكث فيها، ويصلي السنن المؤكدة وغير المؤكدة، وله عناية ملحوظة بتلاوة القرآن الكريم، والأدعية المأثورة. وكان ميسور الحال لكنه لا ينفق في الخير بعض ما يقدر عليه، وإذا ذكره أحد بهذا الواجب، أجاب بأنه لا يثق بمواقع الخير المطروحة ولا أصحابها في قليل أو كثير، والحقيقة أنه كاذب، وله القدرة على تمييز الصادق من الكاذب من المواقع والأشخاص، ولكن بخله شلّ يده عن العطاء، وأطلق لسانه بما لا يؤمن به في أعماقه، وأطال في جوانب السلوك الديني التي لا تكلفه شيئاً، علماً أن الأولوية الواجبة على ذوي اليسار هي بذل المال بسخاء ورضاء.
أما صديقي (....) فقد اشترى أرضاً من تاجر غني يعمل في بيع الأراضي والعقارات، ولم يسدد المبلغ المطلوب منه، ومضت عشرون سنة على ذلك، والتاجر غني وكريم، ولا يستوعب التفاصيل الكثيرة لسعة أعماله فنسي الأمر. ثم جاء أحد الموظفين عنده فذكر صديقي بأنه لم يسدد، فأبدى امتعاضه من هذا التذكير، وظل يردد عدة مرات أن التاجر رجل ميسور، وأن مثل هذا المبلغ المطلوب منه لا يقدم عنده ولا يؤخر، وكأنه بذلك يبحث عن حيلة شرعية تبرر له عدم السداد، وحين كثر عليه التذكير أحس أن أصحابه - وأنا منهم - يتهمونه بأكل الحرام، فذهب إلى التاجر، وكتب له شيكاً بنصف المبلغ، وقال له: سبق أن كان لكم بذمتي مال بسبب أرض اشتريتها، وهذا المبلغ بين يديك فلعله يرضيكم، فأخذ التاجر الشيك الذي هو نصف المبلغ المطلوب والذي جاءه بعد زمن طويل، جار التضخم خلاله على قيمته، فكأن صديقي - سابقاً - سدد أقل من نصف الثمن. وانصرف وهو يحاول أن يقنع نفسه وصحبه وصاحب المال بأن ذمته قد برئت وما هي ببريئة. إنه كاذب كاذب من البدء إلى النهاية، وإنه لص حقيقي، وإنه مدان مدان.
لقد مارس هذا الشخص مجموعة من السيئات بعضها أسوأ من بعض، مارس السكوت طويلاً عن السداد، ثم سدد بعد أن حوصر وانفضح، وسدد المبلغ منقوصاً من حيث القدر ومن حيث القيمة الشرائية، وسدده من خلال استحلال مبهم، والاستحلال المبهم لا تبرأ به الذمة كما يقرر الفقهاء، فإذا أضفت إلى ذلك حديثه المتكرر عن غنى التاجر، وأن المبلغ المطالب به لا يقدم عنده ولا يؤخر، تبين لك أنه لم يكن يريد أن يسدد شيئاً، لأن في نفسه معاذير زائفة توهمه أن عمله الدنيء ليس بسرقة وهيهات! إن عمله الدنيء سرقة مكتملة الأركان، ومع سبق الترصد والإصرار كما يقول أهل القانون.
إن الإنسان الذي يسرق ولا يخترع لسرقته معاذير يرتكب جريمة دنيئة، لكن الإنسان الذي يسرق ويخترع لسرقته معاذير زائفة يرتكب جريمة أشد دناءة، وتزداد الجريمة دناءة وقذارة إذا كانت لصاحبها صفة دينية، وهكذا كان صديقي.
يا صديقي: عد إلى الصواب، ودع عنك خداعك المفضوح لنفسك ولمن حولك، فإن فعلت فمرحباً بك وشكراً لك. وإن أصررت على ما أنت عليه فاخلع عنك لبوسك الدعوي الذي لا تستحقه، واخلع لحيتك التي اشتعلت شيباً، لكنك لم تجد فيه واعظاً يزجرك عما تفعل.
أما القصة الثالثة فصاحبها الدكتور (...) وهو شخص ذكي جداً، وداهية محنك، ومعرفته بعلوم الشريعة ممتازة، ولغته كذلك، وهو يحسن التأتي لما يريد، ولو أنه وظف مواهبه في الخير لأحسن للعمل الدعوي كثيراً، ولنفسه، ولكنه وظفها لأهوائه وأثرته فأساء كثيراً.
أرسل له أحد أصدقائه إلى حيث يقيم في أمريكا مقالة طويلة لينظر فيها، فراقت له، ونشرها باسمه في رسالة صغيرة كما هي لم يزد فيها ولم ينقص، ووضع على غلاف الرسالة اسمه وصورته، وكتب لها مقدمة تزعم أنها محاضرة له ألقاها على جمع من الناس فسروا بها، فطبعها لتعم بها الفائدة، ثم أخذ نسخة من الرسالة المطبوعة، وكتب عليها إهداء لصاحبها الحقيقي، وأرسلها إليه. كان الصديق المسروق يحسن الظن بالصديق السارق، لما سمعه عنه من الثناء المستطاب، ولما رأى من قدراته البارزة، وكان ينظر إليه على أنه من أساتذته، فلما رأى هذا الفعل الوضيع منه انهارت مكانته في نفسه، وانقلبت إلى احتقار شديد، وثار في نفسه سؤال منطقي أخذ يلح عليه كثيراً، وهو: إذا بلغت المطامع الدنيئة بهذا الشيخ الدكتور إلى الحد الذي جعله يسرق فيه مقالة صديق له، ويكتب لها مقدمة كاذبة، ثم يكتب عليها إهداء بخطه وتوقيعه إلى صديقه، فكيف يكون موقفه إذا تعرض لإغراءات كبيرة من مال ومناصب وشهرة!؟ لا شك أنه سيفعل ما يخطر على البال وما لا يخطر مهما بلغ من دناءة وصفاقة. إن الذي يسقط صريعاً أمام المطامع الصغيرة؛ سيكون سقوطه أمام المطامع الكبيرة أكبر وأسرع وأفتك.
وشاء اللَّه تعالى أن يلتقي السارق والمسروق، وكان المسروق في غاية الغضب من السارق لأنه وجد فيه إنساناً يناقض الإنسان الذي تشكلت صورته في مخيلته عنه، ولأنه كان ولا يزال يحتقر المتاجرين بالدين الذين يوظفونه لأهوائهم الدنيئة أشد الاحتقار. وقد شهدت هذا اللقاء بنفسي، وفيما يأتي أرويه بغاية الدقة والأمانة.
التقى الصديقان اللدودان، ومنذ البداية أحس السارق أن صديقه يتقد غضباً، فعزم على إطفاء غضبه مهما قسا عليه، وعزم على ألا يدافع عن سرقته، وألا يلتمس شيئاً من المعاذير لها. وبدأ المسروق بهدوء يحاسب السارق، فذكر له أن هذا لا يليق بالمسلم العادي فضلاً عن شيخ له سمعته، وذكر له أنه كان يثني عليه، ويدفع عنه التهم المخزية التي كان يسمعها عنه ممن يعرفون تاريخه بالتفصيل، ثم عقب على ذلك بأنه الآن مضطر لتصديق كل المخازي التي سمعها عنه من قبل، وذكر له واحدة منها ترقى إلى درجة الخيانة، حين وشى بعدد من رفاقه لجهة سيئة، فتسربت أسماؤهم إلى الطاغية الذي كان يتربص بهم فأعدمهم، وقال له بتحدٍ وازدراء بالغين: كم هو المبلغ الذي قبضته لقاء ما فعلت بهم!؟ وظل يقسو عليه حتى كاد يبصق عليه. هذا أهم ما قاله المسروق لصاحبه السارق، وثم تفاصيل كثيرة لا داعي لذكرها.
والآن لننظر إلى موقف السارق؛ ظل يسمع دون أن يرمش له جفن، ولم يتغير له لون، ولم تبد عليه أي أمارة من أمارات الغضب، لأنه يعلم أنه مدان، ولأنه يخشى من الفضيحة، ولأنه - كما أقدر - معتاد على مثل هذه الشتائم ممن أساء إليهم من قبل، وأنه وطن نفسه على الصبر، والصمت، وابتلاع الإهانة مهما قست. ولما انتهى المسروق من كلامه، لم يرد السارق عليه بحرف واحد في موضوع السرقة، بل عرض عليه رشوة مالية صريحة فأباها. ويبدو أن الشيخ اللص خلا ببعض خلصائه للبحث عن حل لمّا وجدوا أن الرشوة لم تقبل، فاخترعوا أكذوبة جديدة، وبئس الخطأ الذي يعالج بخطأ جديد، خلاصتها أن اللص الدنيء ألقى محاضرة عنوانها مشابه لعنوان المحاضرة المسروقة، فوقع لها الاستحسان فأراد أن يطبعها لتعم بها الفائدة، فكلف موظفي السكرتارية في مكتبه بذلك، فأخطؤوا وطبعوا المحاضرة الأولى بدل الثانية. ثم أعادوا طباعة الرسالة، باسم الصديق المسروق، وقدموا لها بهذه الأكذوبة الغبية.
أما القصة الرابعة فهي أوجز، ولكنها غنية جداً بالدلالة على الهوى الرديء الذي يلبسه صاحبه لبوساً دنيئاً زائفاً. كان الأستاذ (...) رجلاً معروفاً بين ذويه بأنه من أهل الدعوة، وكانت له مؤلفات نافعة، وكان يأخذ بالعزيمة في حياته، وهذه كلها مزايا له تذكر فتشكر. لكني لاحظت أن له مزاجاً سوداوياً، وأنه يميل إلى التشاؤم، وسوء الظن بالناس بدليل أو دون دليل، وأنه يتهم بعض الناجحين بأنهم بعيدون عن الدين أو معادون له، ولعله في أعماقه يحسدهم على نجاحهم من حيث يدري أو لا يدري، لكنني لم أجزم بذلك تماماً خوفاً من أن أظلمه.
وذات يوم جاءني يحدثني عن أحد الناجحين، يتهمه فيه بأنه رجل بعيد عن الدين، بل هو معاد له. وكان أحد أصدقائي الأبرار الأذكياء يعمل في مكتب هذا المتهم الناجح، فسألته عن ذلك، فنفى هذه التهمة عنه جملةً وتفصيلاً، وشهد له بالطيبة، وحب الخير، وسلامة الطوية، والمسارعة إلى قضاء الحوائج، ففرحت بذلك كثيراً، ونقلت هذه البشارة الخيرة إلى من اتهمه بالسوء. هنا ذهلت ووجمت، ذلك أني توقعت أن يفرح لبراءة أخيه المسلم مما اتهمه به كما فرحت، لكنني وجدته يطرق محزوناً، فأكدت له صدق البشارة الخيرة، وذكرت له اسم صاحبها الفاضل، وهو صديق له كما هو صديق لي، ويعرفه جيداً، فازداد إطراقه وحزنه وقال عن الصديق المشترك صاحب البشارة والتزكية: أخشى أن يكون أسوأ من فلان المتهم، وذكر اسمه.
هنا تيقنت أن صديقي هذا حاقد على الرجل الناجح الذي اتهمه، يحسده لتفوقه، وعلو مركزه، ورفعة شأنه، ويلبس حسده له لبوساً دينياً ليظهر بمظهر الغيور على الدين. إنه عقد صلحاً مع هواه كما قال الشيخ الغزالي، والتمس له المعاذير، ذلك أنه كان من الفاشلين الذين يحسدون الناس على ما آتاهم اللَّه من فضله، والنجاح فضل كبير.
***
وبعد: فقد تخيرت القصص التي ذكرتها في هذا المقال، لأني أعرف وقائعها وتفاصيلها وأصحابها معرفة وثيقة جداً، وبذلك هي في غاية الدقة والمصداقية، ولأنها نماذج صريحة جداً للإنسان الذي يأسره هواه فيصبح عبداً له، ويمضي يلتمس له غطاء شرعياً زائفاً، ثم إن حدة هذه القصص، تمنع فرصة الدفاع عن أصحابها لثبوت الإدانة بأجلى صورها، وقد أغفلت ذكر الأسماء عامداً لا ناسياً لأني أردت التحذير لا التشهير.
إن الهوى شر كله، وأكثره شراً ما ألبسه صاحبه لبوساً دينياً، لأنه جمع بين جريمتين: جريمة الخطأ، وجريمة الزيف، وهو بذلك أساء للدين بالصد عنه فيما فعل، أكثر مما أساء لنفسه.
وإذا وجد القارئ الكريم في كلامي مرارة حادة، فليلتمس لي العذر، لأن مردها هو الغيرة على الدين ممن يسيئون إليه، من أذكياء يتاجرون به، أو حمقى مخلصين ينشطون لخدمته، وهم يفسدون أكثر مما يصلحون.
إن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله؛ أديب بليغ، وله جمل وجيزة غنية مسددة تذكر بجمل ابن عطاء اللَّه السَّكَنْدري الخالدة التي مضت عليها قرون، ولا تزال لها روعتها في الضمائر والألسنة. وإني إذ أدعو للشيخ الغزالي بالرحمة، أعترف له بالجميل في إنشاء هذا المقال، لأن جملته التي بدأت بها كلامي هذا بهرتني جداً، وسكنت في أعماقي، وحركت ذكرياتي ومشاعري، ودفعتني دفعاً إلى الكتابة، فكأنها كانت تملي علي وأنا أكتب.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق