الأحد، 30 مايو 2021

جولة في ديوان "من يطفئ الشمس؟!" - أ.صدقي البيك

جولة في ديوان "من يطفئ الشمس؟!"

أ. صدقي البيك
نشر في مجلة المستقبل الصادرة عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي
العدد (188) - ذو الحجة 1427هـ، الرياض


     إذا كان هناك تعبيرٌ شائع عن "إمبراطوريَّة لا تَغيب عنها الشَّمس"، فإنَّ هنا ما هو أبلغ من ذلك في التعبير عن الإسلام، وامتِداده المكاني والزَّماني، فهو شمس، وأنَّى لأحدٍ أن يُطْفئها؟!

     هكذا أراد الشَّاعر الدكتور حيدر الغدير أن يُبْدِي اعتِزازَه بالإسلام، وإعْجابه بِما قدَّمه المسلِمون قديمًا، وما يُمكِن أن يقدِّموه على مدى الأزْمان المقْبِلة.

مَنْ يُطْفِئُ الشَّمْسَ نَحْنُ الشَّمْسُ خَالِدَةً
               أَمَّــــــا عَدَانَـــــا فَــــــآلٌ ثُمَّ يَنْحَـــسِرُ

     ومِن هنا حمَّل ديوانه الأوَّل هذا العنوان المتميِّز، وصدَّره بقصيدةٍ تَحمل العنوان نفسه، ويضم الديوان 50 قصيدةً يمتدُّ تاريخ نظمِها من أواخر عام 1413 هـ الموافق لأواسط عام 1993 م، إلى ربيع هذا العام 1427 هـ الموافق 2006 م، وقد رتَّب الشاعر قصائدَه ترتيبًا زمنيًّا، بالسَّنة والشَّهر واليوم بالتَّاريخيْن الهجري والميلادي، وصدرتْ طبعته الأولى في هذا العام.

     وتتنوَّع القصائد فيه، وأكثرها إخوانيَّات بين ثناء ورثاء ومداعبة (22 قصيدة)، ثم رُوحانيات (13 قصيدة)، وتسْع قصائد فكريَّة عامَّة، وست قصائد وطنيَّة، وكلُّ هذه القصائد عموديَّة إلا قصيدتيْن كانتا من الشِّعْر الحر - شعْر التفعيلة - أولاهما (ستار) في ذكرى موت نِزار قباني رثاءً له، وقد اتَّخذ الشَّاعر من موتِه عظةً وعِبرة ممَّا يصير إليه الإنسان، مهما علا شأنه في دنيا الشعر، ومهْما مشتْ في موكب جنازتِه القصائد والقُلوب والمُعْجبون، ولكن:

"ماذا وجدت وقدْ صحوْتَ وأنت وحْدَك يا نزارْ
فانطِق فقد سُدِل الستارْ
وانطِق فقد كُشِف الستارْ"

     والثَّانية "يا خالقي ما أكرمك!" وهي من روحانيَّاته، يجول في مقاطعِها مسبِّحًا لله معلقًا عليه رجاءَه، مستجْديًا كرمَه، خاتمًا كلَّ مقطع منها بـ "يا خالقي ما أكرمك!".

دفاعًا عن رسول الله:

وإذا كان قد قدَّم آخِر قصيدة له زمنيًّا، لتكون فاتحةَ الديوان ومانحة له عنوانه، فإنه جعل خاتمة الديوان مكانًا وزمانًا دفاعًا عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – في قصيدته "أبا الزَّهراء"، وهي أطول قصائد الديوان، 100 بيت - بعد أن تعرَّض جنابه الكريم لهَجْمة ممَّن أعماهم حقْدُهم على الإسلام، عن أن يقدِّروا أهْل القدر ويعطوهم حقَّهم من الإجلال والتعظيم، الذي أعْطاه إيَّاه واحدٌ من المنصفين منهم، هو مايكل هارت مؤلِّف "المئة الأوائل" الأكثر تأثيراً في العالم، حين جعَله على رأْس هؤلاء المئة في تأْثِيرهِم الحضاري على الإنسانيَّة، ويفتتح الدكتور حيدر دِفاعه عن رسول الله بافْتِدائه فيقول:

فِـدَاؤُكَ قَبْـــلَ قَافِيَتِي الجَنَـــانُ
               وَقَبــْلَ السَّيْفِ رُوحِي وَالبَيَانُ

     مندِّدًا بهؤلاء الحمقى الذين سينضمُّون إلى قافلة المتحطِّمين على صخْرة الإسلام:

وَأَمَّـــــا شَانِئُـــــوكَ فَهُمْ بُغَاثٌ
               وَفِرْيَةُ أَحْمَقٍ هَانَتْ وَهَانُـــــوا
سَتَطْـــوِيهِمْ ضَلالَتُـــهُمْ لِيَغْدُوا
               نِفَايَــــــاتٍ يُطَارِدُهَا اللِّعَــــانُ
عِدَاكَ وَأَيْنَ هُمْ؟ هَلَكُوا وَبَادُوا
               وَبَادَ ضَجِيجُهُمْ وَالْهَيْلَمَــــــانُ

     ويخاطب عيسى - عليه السلام - شاكيًا له مَن يدَّعون اتِّباعه، وهم أبْعد النَّاس عن طُهْرِه ونقائه:

وَيَا عِيسَى، فَدَيْتُكَ جِئْتُ أَشْكُو
               وَأَنْتَ الطُّهْرُ نَضْرًا وَالحَنَـانُ
أَذَاةَ ذَوِيكَ، قَدْ جَهِلُوا وَضَـلُّوا
               وَعَــــاثُوا بِالنُّبـُوَّةِ وَاسْتَهَـانُوا

     ويختم قصيدته هذه بأن ينْقل إلى الرسول - عليْه الصلاة والسلام - تحيَّات مئات ملايين المُسْلمين، وآمالَهم وتضحيَّاتهم وافتِداءاتِهم له:

وَيَا مَوْلايَ حَمَّلَنِي سَــــلامًا
               لَكَ المِلْيَارُ أَخْلَصَهُ الجَنَــانُ
وَعَهْدًا أَنْ يُفَدُّوكَ احْتِسَـــابًا
               وَهُمْ صُدُقٌ وَأَفْئِدَةٌ هِجَــــانُ
وَأَسْيَـــافٌ مُظَفَّرَةٌ وَخَيْــــلٌ
               لَهَا فِي الخَطْبِ إِقْدَامٌ وَشَانُ

     ولا يفوته أن يغْني قصيدتَه بأشطُر من بائيَّة شوقي التي سارتْ بها الركبان، وترنَّمت بسماع أدائها الآذان: "أَبَا الزَّهْرَاءِ قَدْ جَاوَزْتُ قَدْرِي"، "وَمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بِالتَّمَنِّي"، "وَمَا اسْتَعْصَى عَلَى قَوْمٍ مَنَالُ".

وهكذا يا رسول الله:

سَتَبْقَى النُّـــورَ مَا بَقِيَ الزَّمانُ
               وَمَا زَانَ الرِّيـــاضَ الأُقْحُوَانُ
وَمَا طَلَعَتْ عَلَى الآفَاقِ شَمْسٌ
               وَمَا صَـــــدَحَ الْمُؤَذِّنُ وَالْأَذَانُ

       ***

إخوانياته:

     وفي إخوانياته أَثنى على عدد من زملائه ومعارفه، وهجا بعض مَن أساء إليه بغدره وقِلَّة وفائه، وداعَب آخرين بروح مَرِحة، ورثى مَن أدركهم الموتُ من الشخصيات الإسلامية المتميِّزة في الفكر الإسلامي والأدب والصحوة، ممن يُكِنُّ لهم المحبَّة والتقدير؛ منهم: محمود محمد شاكر، وعبد العزيز بن باز، وعلي الطنطاوي، وكذلك رثى أخاه ووالدته.

***

رثاؤه لأمه:

وفي رثائه لوالدته تتفجَّر مكامن العاطفة في صدره، ويحزُّ في قلبه أنه لم يتمكَّن من رؤيتها قبل أن يبعدها عنه الرَّدى، فيقول:

قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَضُمَّ ثَرَاكِ
               وَتَرَيْنَنِي قَبْــلَ الرَّدَى وَأَرَاكِ
وَأُقَبِّـلَ الْكَفَّ الطَّهُورَ مُتَمْتِمًا
               بِالْآيِ آمُلُ أَنْ أَحُوزَ رِضَاكِ

     ولكن يشاء الله - الذي لا رادَّ لقضائه - أن تقضي أمُّه وهو بعيد عنها؛ فيعيش في حسرتين: حسرة بُعده عنها، وحسرة وفاتها من غير أن يراها وينام بين يديها هانئًا سعيدًا كأنه طفل رضيع، وإن كان قد بدأ الشيب يغزو رأسه، وكان هذا المقطع الأول من القصيدة مفعَمًا بالحب والتَّوق إلى أمه:

وَأَنَامُ بَيْنَ يَدَيْكِ نَوْمَــــــةَ هَــــانِئٍ
               وَكَأَنَّنِي وَبِيَ الْمَشِيـــــبُ فَتَـــــاكِ
وَكَأَنَّنِي الطِّفْلُ الَّذِي رَضَعَ الْهُدَى
               وَالدَّرَّ مِنْــــــــكِ وَدِفْأَهُ وَحَجَـــاكِ

     ويرنو إلى وجهها موزِّعًا نظراته فيه فلا تشبع عينه من هذا التمتُّع، ويتبادل مع أمه نظرات السعادة والغِبطة:

وَتَجُولُ فِي الْوَجْهِ الْمُكَرَّمِ مُقْلَتِي
               وَتَجُولُ فِيَّ سَعِيدَةً عَيْنَــــــــــاكِ

     وكل هذه الأماني طواها الرَّدى، وسبقته أمه في رحلتها الأبدية التي لا مفرَّ لأحد منها:

لَكِنْ سَبَقْتِ، وَكُلُّنَا فِي رِحْـــــلَةٍ
               يَجْتَازُهَا الرَّاضِي بِهَا وَالشَّاكِي

     ولذلك يعود إلى ذكرياته معها لعلَّه يجد فيها ما يُسَلِّي به نفسه عن هذه الخسارة الفادحة، وأجلُّ هذه الذكريات مقابلته لها في حجها إلى الديار المقدَّسة، وهو فيها مقيم، فتُورِق فرحته ويتحقَّق حلمها برؤية ولدها وهي تمتطي إليه شوقها القديم، فيغمرها الرضوان وتبكي فرحًا لهذا اللقاء ولتأديتها الحج وهو أكبر أمنيَّاتها، ويشير إلى صبرها على ما لاقته من عَنَت الظالمين، حتى أراحها من أهوالهم الموت:

وَصَبَرْتِ وَالْأَهْوَالُ حَوْلَكِ جَمَّةٌ
               صَبْرَ الْحَرَائِرِ فْي الْأَذَى الْفَتَّاكِ
حَتَّى لَقِيـــتِ الْمَوْتَ مُنْيَةَ وَامِقٍ
               فَأَتَيْتِهِ مُشْتَاقَــــــــةً وَأَتَــــــــاكِ

     ولا يفوت شاعرَنا في هذه القصيدة أيضًا أن يستحضر ما يتردد على أذهان السامعين وآذانهم، وألسنتهم من شعر ردَّدته الحناجر الندية فيُضمِّن منها "وَالذُّكْرَيَاتُ صَدَى السِّنِينِ الْحَاكِي" لأمير الشعراء شوقي.

     فليتغمد الله برحمته هذه الأمَّ الحنون الصابرة على بُعد ولدها، وليلطف الله بهذا الولد البارِّ الذي عزَّ عليه اللقاء بأمه وصعب عليه فراقها الطويل فيصيح:

أُمَّاهُ، إِنْ عَزَّ اللِّقَــــاءُ وَفَاتَنِي
               فَغَدًا يَطِيبُ عَلَى الْجَنَانِ لِقَاكِ

       ***

دعاباته:

     وإذا كنا قد شاركنا شاعرنا أحزانه ولَوْعاته بفَقْده والدته الغالية، فلنشاركْه في دعاباته الأخوية لأهل حمص في قصيدته "يا حمص"، وهي مدينة يُوصَف أهلها بالفطرة وطيبة القلب والبساطة أو سَمَّها ما شئت، ويقدِّم قصيدته برغبته الحارة "أن أكون حمصيًّا لأن لدي عددًا من المؤهلات التي تجعلني جديرًا بهذه النسبة"، ويلقيها في حفل زفاف، فيكون لهذه الدعابة من الأثر ما يمتع المحتفلين، مفتونًا بأبنائها الغُرِّ الكرام وصباياها الحسان معدِنًا ومنظرًا:

يَا حِمْصُ إِنِّي عَاشِقٌ مَفْتُـــــــــونُ
               بِخِصَـــالِكِ الْحُسْنَى وَهُنَّ فُنُــــونُ
أَبْنَاؤُنَا الْغُرُّ الكِرَامُ جَـــــــــــدَاوِلٌ
               وَبَنَـــاتُكِ الرَّيْحَــــــــانُ وَالنَّسْرِينُ
يَا حِمْصُ عِنْدِي فِي هَوَاكِ شَوَاهِدٌ
               وَقَصَـــــــــــــائِدٌ وَحَقَائِقٌ وَظُنُونُ

     وما ندري ما هذه الظنون بعد الحقائق؟

يَا حِمْصُ جُودِي لِي بِمَا أَهْفُو لَهُ
               لِأَظَــــــــلَّ أَعْلُو سَيِّدًا وَأَكُـــونُ
كَبَنِيكِ حَيْثُ "جُنُونُهُمْ وَفُنُونُـهُمْ"
               وَأَظَلُّ أَحْفَظُ عَهْدَهُمْ وَأَصُـــونُ
يَا حِمْصُ أَعْطِينِي مُنَايَ فَإِنَّنِي
               أَرْجُو الْوِصَالَ وَإِنَّنِي مِسْكِيــنُ
جِنْسِيَّةً أَزْهُو بِهَــا في صُحْبَتِي
               وَكَأَنَّنِي فِي عَرْشِهِ هَــــــارُونُ

     وإذا كان يجوز للحمصي بالولاء أن يستجيب لرغبته وأن يحقق له مناه، فإنني أرحِّب به أخًا حمصيًّا كريمًا، وكان باستطاعته أن ينال هذا الشرف من غير إلحاحٍ في الطلب، لو أنه عرَّج على حمص في سعيه إلى دمشق لاختيار شريكة حياته، ولو فعل ذلك لتغنى بحمص جادًّا تغنِّيه بدمشق ومَن فيها:

يَا شَـامُ أَنْتِ عَلَى الزَّمَانِ وِسَامُ
               بَـــاقٍ بَقَاءَ الْخُلْدِ لَيْسَ يُضَــــامُ
يَا شَــــامُ تَعْرُونِي لِذِكْرِكِ هِزَّةٌ
               أُمَوِيَّةٌ هِيَ فِي الْعِظَـــــامِ غَرَامُ
وَأَنَا الَّذِي شَـاقَتْهُ مِنْكِ عَوَارِفٌ
               جَلَّــــتْ، وَيَشْتَاقُ الْكِرَامَ كِرَامُ

فهنيئًا لشاعرنا هذا التغنِّي وتلك الدعابات، ونحن نترقَّب صدور إخوة ديوانه هذا بفارغ الصبر، بعد أن تفرَّغ شاعرنا لجمع ما تناثر من قصائده وإبداعاته؛ لتأخذ أمكنتها في أرفف مكتباتنا، وتستمتع بها أذواقنا، وتغني بها عقولنا وقلوبنا.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة