الأحد، 30 مايو 2021

أمة الإسلام لا تنطفئ شمسها - د. محمد علي الهاشمي

أمة الإسلام لا تنطفئ شمسها

الدكتور محمد علي الهاشمي - رحمه الله
الرياض - شوال 1428ﻫ - أكتوبر 2007م


     أصدر الشاعر الدكتور حيدر الغدير ديوانه الأول: وجعل عنوانه: "من يطفئ الشمس؟"[1]، وهو عنوان قصيدته الأولى في هذا الديوان.

     في هذه القصيدة حشد الشاعر الأحداث والتصورات والقيم والأمجاد التي عرفت بها الأمة المسلمة منذ أخرجها الله للناس خير أمة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، كما في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)[2]، وخلص إلى النتيجة التي يحملها عنوان هذه القصيدة الكبير، وهو أن الأمة المسلمة لا تنطفئ شمسها مهما عتت الأرزاء وتكالبت عليها الأعداء.

     فأمة الإسلام التي وعت هدي دينها، والتزمت أوامر ربها ونواهيه، هي أمة الخلود والأمجاد والظفر المبين، يشهد لها بذلك: الدهر والكون وما فيه:

نحن الخلود ونحن المجد والظفر
               والشـاهد الدهر والأفلاك والسير

     إنها لتقف شامخة فوق هامة الأيام، تعتز بما أثلت للإنسانية من مكارم وأمجاد:

ونحن في هامة الأيام هامتــــــها
               ونحن شامتها والطيب والغـــــرر

     عرفتها الخطوب الداميات، كما عرفها الجود المنهمر، والخلائق الحسان:

لنــــا يد في الخطوب الـــدُّهْم صـــــائلة
               وأختــــها ديــــمة بالجــــود تنهمــــــــر
ودارة نحن للأخلاق وارفــــــــــــــــــة
               تحبو العوارف من غابوا ومن حضروا

     وإنها لحارسة معقل الإسلام العظيم، وحامية صرحه المجيد، وهي درعه الحصين، وسيفه البتار المكلل بالظفر والنصر، تحفظ الحق, ويحفظها الحق، وتلوذ دوماً بملجأ الله الآمن:

ومعقـــل نحــــن للإســلام نحرسـه
               ونفتدي صرحه الغــــالي ونصطبر
ونحن أمة طــــه نحـــن أدرعـــــه
               ونحن سيــــف له عاداته الظفــــــر
ونحن عصبتــــه للحــــــق حافظةٌ
               بالحق محفوظة والخالق الوزر[3]

     إذا حاقت بها الهزيمة فلا يأس ولا خور يتسرب إلى نفوس أبنائها، وإذا تكللت هاماتهم بالنصر أقاموا صرح العدل، فلا ظلم ولا بطر ولا فجور، ذلك أنهم في كلأ الرحمة والهداية الربانية ورشدها قبل أن يمتشقوا السلاح البتار:

إذا غُلِبْنا فلا يأس ولا خـــــــــور
               وإن غَلَبْنــا فلا ظلــــــم ولا أشر
ونحن يحرسنا قبل الرماح هدىً
               ونحن تكلؤنــــا قبل الظُّبا السور

     وأمة الإسلام تنهدُّ للأمر العظيم، وتبعثها الشدائد والنوازل، ويوقظ الظلم إذا وقع عليها كل قاعد متهاون، ويوقد البغي والعدوان عزيمة كل فاتر متكاسل، فإذا المحن والشدائد الجسام التي بعثت كل غافل فيها، أعطية ثمينة، ومنحة جميلة، لا يضاهي حسنها القمر الفتان، وإذا الثأر من المعتدي الغاشم على كرامتها يصبح ناراً تتأجج في الأحشاء، وإذا الموت يغدو من أسمى الأماني التي يسعى لنيلها المجاهد في سبيل الله:

ونحن تصقلنا الجُلَّى وإن عظمت
               ونحن تبعثنا الأرزاء والنــــــــذر
ويوقظ الظلم منا كل من همـــدوا
               ويوقد البغي منا كل من فتــــروا
فتصبح المحنة الحمراء أعطيــة
               ومنحة دونها في حســـــنه القمر
ويصبح الثأر في أحشائنا حُرَقـاً
               والموت أمنيــــــة تُرْجى وتُبْتدر

     إن تاريخنا ليشهد برفعتنا، وسمو نجدتنا في الخطوب الكوالح، وأننا حين يشتد الخطب نزداد استعاراً وحدة وشوقاً لدفع العدوان، وأن غضبنا قدسي متقد حين يشتد الخطر وتكبر التحديات:

تاريخنا شاهد أنـــــا ذوو صيد
               وأننا حين يربو الخطب نستعر
وأننا الغضـــــب القدسي متقداً
               عند التحدي وإذ يستعلن الخطر

     ولقد حبانا الله جرأة عجيبة، فإذا نحن نعبر جسر المخاطر غير هيابين ولا وجلين، بل نعبره ونحن نبتسم، وتجتازه جموعنا المجاهدة في كل زمان، جيلاً بعد جيل:

إن المخــــــاطر جسرٌ نحن نعبره
               ونحن نبســـم لا خوف ولا حَـــذَرُ
نمشي عليه جموعاً لا انقضاء لها
               فما مضت زمـــــرة إلا أتت زمرُ

     وبعزيمتنا الشماء نحن أقوى من المصائب التي تحل بنا، وأشد ثباتاً منها حين تنفجر:

ونحن أضرى من الضراء إن عصفت
               ونحن أثبـــــت منها حيــــن تنفجــــــر

     وكلما اشتدت الأخطار والنكبات، وَادْلهمَّت الخطوب، كنا أكثر ثقة أننا سننتصر. وأقرب ما يكون النصر منا حين يسخر العدو من إسلامنا، ويجوس خلال ديارنا، ويعيث فيها فساداً:

وكلما كانت الأخطـــــار فادحــــــــة
               كنا على ثقـــــــــــة أننا سننتصــــــر
والنصر أقربه منـــــا وأسرعــــــــه
               إذا الطواغيت من إسلامنـــا سخروا
واستمرؤوا الظلم حتى صار ديدنهم
               فينا، وجــاسوا خلال الدار وائتمروا

     فالرزايا والنكبات تنجب فينا الأبطال الميامين الذين يتصدون لها، ويستولدون منها الغلبة والنصر، ومن هنا كانت أمتنا غنية بالعظماء والفاتحين، من أمثال أبي بكر وعمر والمثنى والرشيد:

وذاك أن الرزايا كُن منجبـــــــــــة
               وما يزلن، ومنها يولـد الظفـــــــــر
لذاك أمتـنا حبلى بكـــــــــــــل فتى
               هو المثــنى أو الصدِّيق أو عمـــــر
أو الرشيــد تحدى غيمـــــة عبرت
               فاستســلمت وهمى من فوره المطر
فجاءه فيئها عجــلان في وجـــــــل
               والقلب مضطرب والطرف منكسر

     في كل بقعة من بقاع الأرض لنا مآثر وأمجاد يتمنى رؤيتها ومعرفتها السمع والبصر، وإنها لمآثر وأمجاد حق كلها في جوهرها ومرآها، وإنها لعدل ونصح، لا ظلم فيه ولا غش ولا خديعة، أدهش الناس الذين سمعوا به، فعكفوا على استجلاء محاسنه، مسحورين بصنيع قومي الذين كانوا بمثابة نجوم الهدى، وعبروا هذه الأرض وخلدوا فيها هذه الأمجاد:

في كل أرض لنا من مجدنــــا أثـــر
               وفيه ما يتمنى السمع والبصـــــــــر
الحق جوهره والحــــسن منظــــره
               والعدل مخبره والنصح لا الغــــرر
يقول للنــــاس زاروه فأدهشــــــهم
               قومي نجوم الهدى من ههنا عبروا
والناس مطروفة فيه محـــــاجرهم
               ترنو إليه وتستجلي وتعتصـــــــــر
يطول منهم عكوف في محــــاسنه
               كأنما شدهوا بالحسن أو سحــــروا

     وهذا المجد المؤثل لا تزيده الأيام إلا نضارة وعطراً، بما غرس فيه أهلوه من مكارم وأمجاد، ومن علوم ومن فنون، أودعوا فيها عقائدهم وقيمهم، فطاب غرسهم وطاب ثمرهم، وكان صنيعهم كمعادنهم هو الفضائل بعينها، وهو العدل الذي رفعوا لواءه، وهو النور الذي نشروا هديه، وهو الروح التي تألقت فيه، فازدان بالفضائل والمكرمات:

يمضي الزمان ويبقى في نضــارته
               أزكى من العطر تاريخ له عــــــطر
كأنـــما فيه من أهليــه ما ابتدعــــوا
               من الفنون وما صاغوا وما ابتكروا
كأنما أودعوا فيــــــــــــــه عقائدهم
               فطيبته وطــــــــــاب الغرس والثمر
كأنما صنعوه من معادنـــــــــــــهم
               فهو الفضائل والغـار الذي ضفروا
كأنما صرحه العدل الذي رفعــــوا
               كأنما نوره الهدي الذي نشــــــروا
كأنما روحهـــــم فيه قد ائتلقــــــت
               فهو المروءات والإحســـان والأثر

     لكأن صنيع أمة الإسلام الحضاري شاهد خالد للدنيا، يقدم للناس النصيحة والعبرة، وهو ثابت راسخ في عالم الناس وآفاقهم وعصورهم، يبسط ظلاله، ويمد أجنحته، في رواق التاريخ والكتب التي يقرؤها الناس. إذا أصاب أقواماً ضجر وتعب ونصب، فطووا أعلام المد الحضاري، فإن حاملي لواء الحضارة الإسلامية لا ينالهم شيء من ذلك، بل إنهم يرون الهناءة والنعيم في قطع الآفاق، والسفر المستمر الدائم في مواصلة المد الحضاري:

كأنما هو مذ شــــادوه راويــــــــة
               وناصح أَمَّه الزوار فاعتبـــــــروا
ثاوٍ ولكن له مذ كــــان أجنحـــــة
               آمادها النـــاس والآفاق والعُصُــر
وما روت كتب واستوعبت مهـج
               وأمعنت أعين ترنو وتدخــــــــــر
إذا طوى الناس من أَيْنٍ رواحلهم
               لم يطوها منه لا أَيْنٌ ولا ضجــر
كأنه الخِضْر في الآفاق يقطعــها
               فعشقه سفـــــــر من بعده سفــــر

     إن البانين للأمجاد في أمتنا خير من الصرح الحضاري الرائع الذي قدموه للإنسانية، إذ المعول في بناء الحضارات على النفوس الزكية الطيبة التي شادت البناء، وعلى الفكر النبيل العالي الذي أحكم البنيان:

خير من الصرح قد راع الضحى نضراً
               نفس لبــــانيه، وهي المعــــدن النضــــر
والصرح زينته قبل الســــــــراب رؤىً
               فالســــابق الفكر والتـــــالي هو الحجــر
أمجادنا مثلنا خير ومرحمــــــــــــــــــة
               بها المفــــــاخر قبل الناس تفتــــــــــخر
صرنا لهم ولها أنشودة صدحـــــــــــت
               يزينها الشـــائقان: الشعر والوتــــــــــر

     وكما كنا أنشودة ترنم بها الناس، كنا قصة جميلة ممتعة لسامعيها يروونها لمن وراءهم ببهر وشوق وإعجاب، حتى صرنا حديث الناس في أسمارهم، يتلقفونها ويتلهفون لسماعها صباح ومساء:

وقصةً حسنت تُجْلى لسامعــــــــها
               مثل العــروس عليها الدل والخفـر
يروونها أبداً في توقِ والهـــــــــةٍ
               دنت مناها فزاد الشوق والبــــــهر
فنحن في الصبح في أخلادهم سير
               ونحـن في الليل في أسمارهم سمر

     حتى إذا رأونا رأي العين قالوا: بملء أفواههم: والله ما سمعنا عنهم من أخبار ساحرة باهرة ليس بأعظم مما نراه فيهم من سيرة حسنة وخلق كريم، وأعلنوها صريحة لزائريهم: لقد جل المظهر والمخبر، ووافق الخُبْرُ الخَبَر:

حتى رأونا فلا والله ما سمعت
               أذن بأطيب مما عاين البصـــر
وحينما رجعوا قالوا لزائرهـم
               إنا رأينا فجل الخُبْرُ والخَبَـــــر

     ولا بدع أن يفنى المظهر المزيف المزور من كل خَلْق وخُلُق، ولا يبقى خالداً إلا الحقُّ الأبلج الصراح، ونحن باقون بحقنا، تسمو بنا هويتنا، وهي رسالة الإسلام العظيم الخالد لا ما زيف البشر وادعوا من مُثُل ومبادئ، إننا بتمسكنا بديننا كالشمس، فمن يستطيع إطفاء الشمس؟ أما عدانا المتربصون بنا فسراب خُلب، سرعان ما ينحسر ويزول:

يفنى المزور من خَــــلق ومن خُــــلق
               والخــالد الحق لا الأشبــــاح والصور
ونحن باقون تعلينـــــــــــــا هويتنــــا
               وهي الرسالة لا ما زيف البشــــــــــر
من يطفئ الشمس نحن الشمس خالدة
               أما عِــــــــــدانا فآل ثم ينحســــــــــر

     لقد استعرض الشاعر الدكتور حيدر الغدير سيرة أمة الإسلام حين تكون مسلمة بحق، وصور ما أحدثته هذه الأمة في حياة البشرية حين تناقلت الدنيا سيرتها ومثلها العليا، وعدد أبرز أوصافها في الثبات على خط الجهاد، وما أحدثت هذه الأوصاف في نفوس الأقوام التي شاهدت قوافل الفاتحين، واحتكت بهم، ورأت أخلاقهم وحسن معاملتهم، وتمسكهم بالحق والأمانة والعدل، وخلص إلى أن أمة هذا شأنها، أخرجها الله لتكون خير أمة أخرجت للناس، هي كالشمس لا تنطفئ.

     وقد عرض الشاعر خواطره وأفكاره بأسلوب جزل متين، قوامه اللفظ الكريم الجزل، والتركيب الرصين المحكم، يعمره الإيقاع الفخم الهادئ، المنبعث من الألفاظ المتخيرة، والروي الرائي المضموم، والصورة المجنحة الطليقة، وهي خصائص أسلوبية جميلة تشمل قصائد الديوان كله. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

----------------------------------
[1] هذا هو الإصدار الأول للشاعر، وهو الآن مع غيره في ديوانه الجامع "ديوان حيدر الغدير".
[2] سورة آل عمران آية 110.
[3] الوزر: الملجأ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة