الأحد، 13 يونيو 2021

تعريف بكتاب "صلاة في الحمراء" - أ.شمس الدين درمش

تعريف بكتاب "صلاة في الحمراء"

للدكتور حيدر الغدير

أ.شمس الدين درمش


     في حلة أنيقة صدر كتاب "صلاة في الحمراء" لأخي وصديقي حيدر الغدير، وتأتي الأناقة من الحرف الجميل، والورق الممتاز، والغلاف البديع، الذي يحمل صورة "بهو السباع" في قصراء الحمراء، وهو أهم الآثار الباقية من أيام المسلمين في غرناطة، واختيار العنوان موفق جداً، وكذلك صورة الغلاف؛ لأن كثيراً من مواد الكتاب تتعلق بإسبانيا عامة، والأندلس خاصة، وقد قدر للمؤلف زيارتها عدة مرات، وتجول فيها تجول الفاحص المدقق، وكان معه كتابان لا يفارقانه في هذا التجوال هما "رحلة الأندلس" للدكتور حسين مؤنس، و"الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال" للأستاذ محمد عبد الله عنان، وكانا له نعم العون ونعم الدليل.

     والكتاب مجموعة من المقالات النثرية عددها سبعة وعشرون مقالاً، تنتمي طائفة منها إلى أدب الرحلات، وتتوزع البقية على موضوعات شتى، وأهمها ما كتبه عن كل من: طه حسين، ومحمود محمد شاكر، ونجيب محفوظ، وشوقي ضيف.

     وأما موضوعات الكتاب فهي على التوالي: صلاة في الحمراء، المسجد المحزون، لعينيك يا رندة، صخور وعزائم، رعب في قلب مدريد، أندلسيات حسناوات جداً، ليلة لا تنسى، أربعون صلاة، عرف عمر فتوهج، رأى ملابس الإحرام فتوهج، هلا كنت الطائر المبصر، إن لله جنوداً من عسل، ساعتي الأثيرة، لون من المحاسبة، يحدّثونك عن النجاح: الإرادة أولاً، مع الحاج أمين الحسيني عبرة وذكرى، الطمع القاتل مستقبل اليهود في فلسطين كما يراه محمد أسد، التسامح الديني اختراع إسلامي، الصحابة في سقيفة بني ساعدة، حكاية عاقبة، طه حسين وشجاعة الاعتذار، محمود محمد شاكر شيخ العربية وفارس الفصحى، رسالة إلى نجيب محفوظ، شوقي ضيف أستاذي وأستاذ الأجيال، الإكرام والطعام، تجربة دعوية، دموع في محراب الخشوع.

     ولعلي أجدر الجميع بالتعريف بهذا الكتاب، بسبب صلتي الطويلة بالمؤلف، وهي صلة عرف فيها كل واحدٍ صاحبه، بما له وما عليه، معرفةً دقيقةً جداً، ثم إني قرأت الكتاب قراءةً دقيقةً فاحصة، فأحطْتُ به، بل إني قرأت كثيراً من موادّه منشورةً، في هذهِ المجلة أو تلك قبل أن يتم جمعها معاً، فضلاً عن المناقشات الطويلة بيني وبين المؤلف. لذا أرجو أن يكون تعريفي بهذا الكتاب تعريفاً فيه دقة وإنصاف واستقصاء.

     روح الكاتب من أوله إلى آخره روح إسلامية، لا يمكن أن تخطئها في أي موضوع من الموضوعات، ولا غرابة! فالإسلام أهم وأعظم مكونات المؤلف، وقد أحب المؤلف دينه حباً عميقاً ملك عليه أقطار نفسه، عقلاً وقلباً وبياناً، ثم إنه يرى ويكررُ دائماً القول: إن الكتابة ينبغي أن تكون رسالةً لها هدفٌ نبيل، ولا يجوز أن تتحول إلى مجرد حرفة وصناعة فحسب.

     وانظر إلى مقالة "صلاة في الحمراء"، وهي أولى مقالات الكتاب، والكتاب يحمل اسمها، تجده يوظف الواقعة توظيفاً دعوياً، لقد كان يصلي في جنة العريف فمرَّ به طلاب وطالبات مدرسة ابتدائية إسبانية فعجبوا وعجبن من هذا الذي يقوم ويقعد ويسجد على التراب، وأخذوا يضحكون ويتغامزون، فإذا به يتمنى أنه كان يجيد الإسبانية ليُعَرِّفهم بصلاة المسلمين، وليقول للطفلة التي تحمل اسم ليزا: لعل جدتك الغرناطية كانت تحمل اسم فاطمة، ولكن الإسبان أجبروها على التنصر، وليقول للطفل الذي يحمل اسم جوزيف: ربما كان جدك الغرناطي يحمل اسم عمر لكن الإسبان نصروه بالإكراه.

     وانظر إلى آخر مقالته في الكتاب "دموع في محراب الخشوع" تجد المؤلف يوظفها توظيفاً إيمانياً حين يروي واقعة اجتماع عالِمَين من علماء الفلك أحدهما بريطاني والآخر هندي، وقد استغرقا في الحديث عن عظمة الكون الذي يدل على عظمة خالقه جل جلاله فإذا هما يبكيان.

     وانظر إلى مقالته الطريفة "رعب في قلب مدريد" حين طاردته عابثةٌ، من مدمنات المخدرات، فأخذ يعدو – كما وصف نفسه – كالأرنب المذعور، وفيه مخاوفُ كثيرة، منها أن يراه أحد معارفه فيظن أن له صلة سوء بهذه المدمنة الحمقاء، وهو ما لا يليق بمسلم عادي فضلاً عن مسلم دعوي.

     إن الكتاب ذو موضوعات متنوعة، لكن الروح الإسلامية تطالعك فيها جميعاً، من الألف إلى الياء، بل من الإهداء الذي يتصدر الكتاب.

     ومما وفق فيه المؤلف توفيقاً بعيداً قدرته على التشويق، فالكتاب شيّقٌ جداً، وإذا بدأت به فإنك تتعلق بموضوعاته حتى تفرغ منه، وابدأ القراءة فيه تجد صدق هذا الملحظ.

     ومردُّ ذلك إلى روح الكتاب الإسلامية بادئ ذي بدء، ثم إلى تنوع موضوعاته، وما فيها من معلومات تاريخية وأدبية وجغرافية وسياحية وثقافية، وما فيها من استقصاء ومتابعة، فضلاً عن القصص والطرائف، والتعريف بأعلام كبار، والذكريات العامة والخاصة، والضحك حيث تأتي دواعيه، والبكاء حيث تأتي دواعيه، والتماس العبرة من التاريخ، واستشراف المستقبل كما نرجو أن يكون، واللغة المصفاة الرائعة.

     وتلحظ روح الإتقان في الكتاب واضحةً جلية، من حيث التدقيق في الوقائع، والتواريخ، ومن حيث تقييد الكلام حيث ينبغي أن يُقيّد، ومن حيث وضع الأفكار في أمكنتها حيث لا تتقدم ولا تتأخر، ومن حيث القدرة على حشد الأدلة حيث ينبغي أن تحشد، ومن حيث جمال الحرف ونقاء الورق، وندرة الأخطاء وهو ما يدل على أن الكتاب روجع عدة مرات مراجعة دقيقة، وهذه كلها مزايا تُذكر فتشكر.

     كما تلحظ في الكتاب روح الإنصاف بأجلى صورها، فحبُّ المؤلف لا يدعوه إلى الإفراط، واعتراضه لا يدعوه إلى الغلو، تجد ذلك في ثنائه على نجيب محفوظ وعلى طه حسين، والإشادة بمزاياهما مع اعتراضه على جوهر توجههما وتفكيرهما، وتجده في نقده لمحمود محمد شاكر وعنفه مع الناس الذي نفر منه الكثيرين مع إيمانه بنبل توجهه وتفكيره.

     ثم إن في الكتاب ميزة الإحاطة، حيث تشعر أن المؤلف محيط بما يكتب عنه، مسيطر عليه، ينظر إليه نظرة جامعة من كل نواحيه.

     وتأمل في مقال "أندلسيات حسناوات جداً" لتجد أن هذا المقال يمتد حتى كأنه عدة مقالات، تراها تأتي في سياق بديع مترابط يأخذ بعضه برقاب بعض، إن هذا المقال: أدب، ودين، وتاريخ، وجغرافية، وسياحة، وحزن، وفرح، وشعر، ونثر، وأمور عامة، وأمور خاصة، وإشادة بالحضارة الإسلامية في الأندلس ونقد لها، بحيث يمكن لك أن تقول: إنه يَصلحُ أن يكون مرجعاً في بابه، ويصلح أن يكون نواة كتاب جامع رائع.

     ولعل أظهرَ ما تبدو فيه ميزة الإحاطة؛ وصفُ الكاتب للأعلام الذين تحدث عنهم، وبخاصة: طه حسين، ومحمود محمد شاكر، ونجيب محفوظ، وشوقي ضيف، فهو يصف النشأة، والمحيط، والتاريخ، والمؤثرات، ويبحث عن المدخل النفسيِّ للعَلَم أو ما كان يسميه العقّاد "مفتاح الشخصية" ويوازن، ويحلل، ويفسر، ويشيد حيث تنبغي الإشادة وينقد حيث ينبغي النقد، وبذلك تجد نفسك في نهاية المقال وبين يديك صورة شاملة للعلم فيها دقة وإحاطة واستقصاء.

     أما لغة الكتاب فإنها رائعة، بل أكثر من رائعة، لقد ظفرت بمرتبة الصحة، ثم أضافت إليها مرتبة الجمال، ولا غرابة؛ فالمؤلف قارئ مدمن من ناحية، وهو من درس اللغة العربية في جامعة القاهرة عن حب لها يكاد يكون عشقاً من ناحية أخرى، وكان طالباً متفرغاً متفوقاً، يحظى بحب أساتذته وتشجيعهم، ويمكن لك أن تلمس في أسلوبه بصمات للزيات، وبصمات للرافعي، وبصمات للطنطاوي، والثلاثة من أدباء العربية الكبار. أما بصمات الزيات والرافعي فإنها تطل على استحياء لأنها الأقل، وأما بصمات الطنطاوي فإنها تطل بوضوح لأنها الأكثر، ومردُّ ذلك إلى أن اتصاله بالرافعي والزيّات كان من خلال القراءة لهما، أما الطنطاوي فقد اتصل به من خلال القراءة الطويلة له، ومن خلال صلة الأستاذ الذي يحب تلميذه ويُشجِّعه ويتوسم فيه الخير، وقد يسَّر الله عز وجل لهذه الصلة أن تثمر من خلال زيارات شخصية كثيرة في مكة المكرمة وجدة.

***

     وبعد..

     فقد كنت في كتابتي هذه أعاني من خوفين، خوف الانحياز للمؤلف لأنه صاحبي، وخوف الانحياز ضده حتى لا أتهم بممالأته ومحاباته، وأرجو أن أكون قد نجوت من الخوفين على السواء، فجاءت هذه الكتابة محققة العدل لي وللمؤلف وللقراء.

     ومع رجائي أني حققت العدل المطلوب، ونجوت من الخوفين الظالمين؛ أختم هذه المقالة بوصفي الكتاب أنه: دين، وأدب، وتاريخ، وجغرافية، وسياحة، وتأملات، جاءت في نسق أدبي جميل، ولغة راقية عالية، وهو ما يجعلني أطالب المؤلف بالمزيد.

     صدر الكتاب عن مكتبة التوبة، بالرياض، الطبعة الأولى، 1432هـ، 2011م، ويقع في 168 صفحة، مقاس 24×17.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة