الاثنين، 31 مايو 2021

من يطفئ الشمس؟! للشاعر حيدر الغدير - أ.يحيى بشير حاج يحيى


من يطفئ الشمس؟! للشاعر حيدر الغدير

أ. يحيى بشير حاج يحيى
جمادى الأولى 1440هـ - كانون الثاني 2019م


     عندما تطلع الشمس، ويملأ نورها كل مكان! اثنان هما اللذان لا يبصرانها: الأعمى، والذي يغمض عينيه! وقد يصيبها الكسوف، وقد تحول دونها الغيوم، وقد يطول ليل، ولكن لا يُقبل حكم أحدهم إذا ادعى أنها لن تعود؟! تلك هي الشمس التي لا تنطفئ، كالآية التي لا تغيب أمجادها ولا تندثر! وتلك هي شمس الشاعر التي يتغنى بها ويفخر بها ويتشوق إليها.

     لقد جاءت قصيدة (من يطفئ الشمس)(1) في الديوان الذي يحمل الاسم نفسه؛ في ستة وخمسين بيتاً لا يشبه البيت الآخر، شأنها شأن الأمواج تتوالى وتندفع، ولكنها عند وصولها إلى الشاطئ يتوضح أن لكل واحد منها كياناً، شأن هذه القصيدة في أبياتها المتشابهة وزناً وإيقاعاً حينما يتلقاها القارئ، فمن أنت أيتها الشمس (الأمة)؟ أبياتها ومنذ البيت الأول تهز أعماقك، فتشعر كأنك على ظهر جواد تهز بالسيف وأنت تنشدها:

نحن الخلود، ونحن المجد والظفرُ
               والشـــاهد الدهرُ والأفلاكُ والسِّيَرُ
ونحـن في هامة الأيــــــام هامتُها
               ونحن شـامتها والطيــــبُ والغُرَرُ
لنــا يدٌ في الخطوب الدُّهم صائلة
               وأختها ديمةٌ بالجـــود تنهمرُ(2)

     قصيدة تمثل تاريخ الأمجاد والأخلاق في سبك قوي وصور تأتي عفو الخاطر!

     في المقطع الأول يوجز الشاعر ماهية الأمة؛ وكما يصيب الكسوفُ الشمس أو تحول دونها الغيوم، فرسالة هذه الأمة -على يد مبلغيها- قد يضعف الأخذ بها، ولكن تبقى مهيأة في كل وقت للإشراق والعودة! وهي أمة ذات رسالة، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف:44].

ومعقل نحن للإســـــلام نحرسه
               ونفتدي صرحه الغالي ونصطبر
ونحن أمة طــــه، نحن أدرعـه
               ونحن سيـف له عــــاداته الظفر
إذا غُلِبْنـا فلا يــــــأسٌ ولا خَوَرٌ
               وإن غَلَبْنا فلا ظلم ولا أشـر(3)

     وأما الظلم فلا نقبله، كما قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: (إني ليعجبني الفتى إذا سيتم خطة خسفٍ أن يقول بملء فيه: لا).

ويوقظ الظلمُ منا كل مَنْ هـــــمدوا
               ويوقد البغيُ منا كلَّ مَنْ فتروا(4)

     وهي الأمة التي هزت صرخة (وامعتصماه!) معتصمها:

ونحن أضرى من الضراء إن عصفتْ
               ونحن أثبـــــتُ منـــــها حين تنفجـــــرُ
وكـلـما كانت الأخطــــــار فـــــــادحة
               كنـــــا على ثـقـــــة أنا سننتـــــــصرُ!
والـنصـــــر أقربُه منـــــا وأســــرعُه
               إذا الطواغيت من إسلامنا سخروا(5)

     وللأمة مجالات فخرها لا بالبناء، ولا في التعالي بالبنيان، ولكن في الترفع على الصَّغار:

خيرٌ من الصرح قد راع الضحى نَضِـراً
               نفس لبـــــانيه، وهي المعـــــدن النضِــرُ
والصــــــرحُ زينتُه قبــــل التراب رؤىً
               فالســـابق الفكرُ، والتالي هو الحجرُ(6)

     وهذه المعاني تنبثق من مشكاة واحدة كما قال القطامي:

ومن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية ترانا(7)

وقال أبو كدراء العجلي:

بنى البنـــــــاة لنا مجداً ومكرمة ... لا كالبناء من الآجر والطين(8)

     والقصيدة الشمس لا تخلو من شواهد التاريخ بأشخاصها، وهي التي تركت بصمات في صحائفها، سبق السلف، والخلف على إثرهم ماضون:

لــــــذاك أمتنــــــا حبــــــلى بكــــل فتى
               هو المثـــــنى أو الصديــــق أو عـمـــــر
أو الرشيـــــد تحـــدى غيـــمة عبــــرت
               فاستســــــلمت وهمى من فوره المطـــر
فجـــــاءه فيـــــؤها عجــــــلان في وجل
               والقلب مضطرب، والطرف منكسر(9)

     وهي التي ولدت بعد ذلك صلاح الدين ونور الدين وبيبرس وغيرهم!!

     وهذا النفس الطويل في القصيدة يقربها من الشعر الملحمي، لكن بعيداً عن الأسطورة والخيال، لأنها تتحدث عن واقع تاريخي نستلهم بطولاته وأمجاده، وقد اعتمدت البحر البسيط الذي يصلح لكثرة تفعيلاته وتعددها، أن يحمل الزخم الشعري شأنها في ذلك شأن قصيدة أبي تمام.

الســــيف أصدق إنباء من الكتــــب
               في حده الحد بين الجد واللعب(10)

     ولكن قصيدة أبي تمام تحدثت عن واقعة بعينها، وهذه القصيدة استعرضت أمجاداً ومواقف تذكر بعظمة الأمة ورسالتها!

     ويبرز فيها المعجم اللغوي (المخزون التراثي) بألفاظ عربية فصيحة (ذو صيد – الوزر – الظبا – أضرى) ولا تبدو غريبة من خلال السياق الذي جاءت فيه.

     وإذا كانت الانفعالات - كما يقول النقاد - ترتبط بالشعر، والأفكار بالنثر؛ فإن القصيدة قد زاوجت بينهما، فليس ثمة تعارض، ولكن مجرد اختلاف.

     ولم يكن التقارب بينها وبين قصيدة أبي تمام في الموضوع فحسب، ولكن في بعض الصياغات:

تدبيــر معتصــــم بالله منتقــــم
               لله مرتقب في الله مرتغب(11)

     فأبو تمام حصرها في شخص المعتصم، وشاعرنا جعلها في الأمة:

في كل أرض لنــــا من مجدنـــــا أثـــر
               وفيــــه ما يتمنى الســــمع والبصــــــر
الحـــق جوهره، والحســـــن منظــــره
               والعدل مخبره، والنصح لا الغرر(12)

     ويبلغ الشاعر ذروة الفخر والاعتزاز بالأمة تاريخاً ورسالة:

من يطفئ الشمس؟ نحن الشمس خالدةً
               أما عدانـــــــا فـــــآل ثم ينحسـر(13)

     وكأننا نسمع صدى ما قاله الأقدمون، ولكن في قبائلهم، كقول عمرو بن كلثوم في معلقته:

إذا بلغ الفطام لنـا صبيٌّ ... تخر له الجبابر ساجدينا

     أو قول جرير:

إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا

     ولكن تنفرد قصيدة (من يطفئ الشمس) برؤيتها؛ كما تنفرد الشمس بنورها:

أمجــــــادنا مثــــــلنا خير ومرحــمة
               بها المفـــــــاخر قبل النـــــاس تفتخر
صرنـــــا لهم ولنـــا أنشودة صدحت
               يزينها الشيِّـقـــــــان الشعر والوتــــر
ونحن بـــــــاقون تعـــــــلينا هويتــنا
               وهي الرسالة لا ما زيف البشر(14)

----------------
(1) ديوان من يطفئ الشمس، حيدر الغدير، دار المؤيد، الرياض، الطبعة الأولى، 1427هـ- 2006م، ص 9. وفي ديوان الأعمال الكاملة (2/143).
(2) ديوان من يطفئ الشمس، (ص9).
(3) ديوان من يطفئ الشمس، (ص9).
(4) ديوان من يطفئ الشمس، (ص9).
(5) ديوان من يطفئ الشمس، (ص10).
(6) ديوان من يطفئ الشمس، (ص12).
(7) انظر: شرح التبريزي لديوان الحماسة لأبي تمام، (1/129)، الموقع الرسمي للمكتبة الشاملة الإلكترونية. http://shamela.ws/browse.php/book-6907/page-128
(8) انظر: شرح التبريزي لديوان الحماسة لأبي تمام، (2/335)، الموقع الرسمي للمكتبة الشاملة الإلكترونية. http://shamela.ws/browse.php/book-6907/page-128
مع ثلاثة أبيات قبله:
يــا أم كدراء مهــــــلاً لا تلوميــني ... إني كريـــــم وإن اللوم يؤذيــــــني
فـــــإن بخلت فإن البخل مشتـــرك ... وإن أَجِدْ أُعْطِ عفواً غير ممنـــــون
ليست ببـــاكية إبلي إذا فقــــــــدت ... صوتي ولا وارثي في الحي يبكيني
بنى الـبنـاةُ لنا مجــــــــداً ومكرمة ... لا كالـبنــــاء من الآجــــرِّ والطيـــن
(9) ديوان من يطفئ الشمس، (ص10-11).
(10) بيت مشهور لأبي تمام من قصيدته في فتح عمورية.
(11) بيت من قصيدة أبي تمام في فتح عمورية.
(12) ديوان من يطفئ الشمس، (ص11).
(13) ديوان من يطفئ الشمس، (ص13).
(14) ديوان من يطفئ الشمس، (ص12- 13).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة