الأربعاء، 2 يونيو 2021

قراءة في ديوان غداً نأتيك يا أقصى - د. أمين الستيتي

قراءة في ديوان غداً نأتيك يا أقصى

لحيــــدر الغديــــر

د. أمين الستيتي – الرياض
نشرت في مجلة الدعوة، العدد 2129
29 محرم 1429هـ - 7 فبراير 2008م


     يلوح على بساط تتقاذفه ظلمة الأمواج، ملتحفاً بظلمة ليل تائه، وتختلس من بين عتماته شمس خجول، نظرة تعبر عن أمل تكسرت أعطافه بين دياجير الظلام، هكذا بدت لوحة الغلاف، متوجة بعنوان اختاره الشاعر حيدر الغدير ليعبر عن المعاني التي عاشت في صدره، وفار بها فؤاده. وبعدها ولجنا إلى الإهداء، وفيه حلقة متينة من العواطف في سلسلة المشاعر التي أورقت في شغاف القلوب، وقد وجهها الشاعر إلى أبطال المسلمين الذين يزرعون النصر، ويحصدونه في يوم الأمل الذي يراه شاعرنا حقيقة تزحم وجه الشمس في رابعة النهار.

     ثم وضع جدول المحتويات في الصفحة الخامسة، وزرع فيها ثماني وأربعين قصيدة، وأولها أم الديوان: (غداً نأتيك يا أقصى)، وقد بناها على (مفاعلتن) مكررة مرتين أو ثلاثاً، أو أربعاً، وقد ساعده هذا الوزن الحُدائي النغمات على صنع ألحان متماوجة كهضاب نجد، بل كما خبَّت الصحراء بالإبل، تغذ السير إلى ساح الوغى، وقد اعتلاها الغاضبون لربهم، حين تجبر الطاغون وبغوا، فيقول:

عهدك أيها الأقصى، وعهدك جمرة فينا، وحلم في مآقينا
ينادينا، فلا ننسى، وكل خلية فينا هي الأخرى .. تنادينا
إلى الأقصى، إلى الأقصى

     هكذا بدت موجة عالية من صخب العواطف، تحمل إعصاراً من زفرات الأمة، لتصبح نصر حطين مرة أخرى، وتكرر فتح خيبر، وكأن الشاعر يربط بين النصرين، ذلك أن العدوين في المعركتين عبر التاريخ قد وحدوا خبائثهم، ومكرهم ضد الإسلام والمسلمين.

     وتتدافع الألفاظ القرآنية على شفتي الشاعر لتشغل حيزاً من اللوحة الشعرية التي رسمها الشاعر ببساطة العربي البدوي، لتمثل غضبة الأمة على أعداء الله، في قوله:

وقد تبت أياديكم
وقد بادت صياصيكم
نتبر كل ما شدتم

     معتمداً على ما أخبر به الرسول صل الله عليه وسلم بقوله:

لنا عهد سننجزه، ووعد سوف نحرزه، بأن النصر آتينا،
كذلك قال سيدنا، وهادينا، محمدنا..

     ولا ينسى شاعرنا حيدر الغدير أن شرط النصر هو التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل أجدادنا الأولون، وبثقة المؤمن، الذي يرى ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم رأي العين، فهو في يافا، وفي عكا، وفي صفد، والرملة، يزرع ويسقي ويسوس الخيل، ويذكر هيبة ابن الخطاب رضي الله عنه، وهو الفاتح الأول، وصلاح الدين، بوجهه الوضاء، وبينهما قائد جموع المسلمين الزاحفة، الذي سيرفع علم الجهاد ثانية، ويخوض معركة الإسلام، والتي سيكرمنا الله فيها بالنصر المؤزر.

     ويكاد الشاعر يرسم صورة هذا البطل المسلم القائد، بل يكاد يسميه، ويناديه حين يقول:

ونلقى الفاتح الأول، أبا حفص بهيبته،
ونلقى الفاتح الثاني صلاحاً في وضاءته،
ونلقى الفاتح الثالث فنعرفه بطلعته،
وقامته التي شمخت، وسطوته ورحمته،
ونسجد كلنا شكراً، لواهب زحفنا النصرا،
سيبقى مجد أمتنا هو الأعلى هو الأنضر،
وتبقى شمسها الأحلى، ويبقى حقلها الأخضر،
لأن الله حافظها، ولله الدنا تعنو، ويبقى أمره الأكبر

     لقد انسابت كلمات الشاعر سلسة، لا تكلف فيها، يظنها القارئ نثراً، لولا وزنها الذي غلفها بألحان شعرية، في قوافيها المتلاحقة، مع موجات ملتهبة من العواطف في حروف منسابة، يسيرة المعنى، واضحة الصورة، بينة الدلالة، تذكرنا بأبي العتاهية، الذي لم يكن يتميز شعره عن النثر بغير الوزن والقافية. ومع أن الشاعر بهذه القصيدة وأبياتها يعلن مواكبته لعصره، والتحاقه، أو موافقته المجددين، غير أنه لم يبارح الشعر العمودي، ولا المعاني المألوفة عند العربي، محتفظاً بذاتيته، ووضوح صورته، وقرب معانيه، وخطابية التعبير المباشر، وبعده عن الإيغال في المعاني، أو الغوص في أعماق الصور، واللوحات الشعرية المتكاملة الناطقة في الشعر المعاصر، والتي اتخذت عنوان العصرية، والتطور في هذا الزمن.

     حتى في إحالاته وجدناه قريباً، واضحاً جلياً، ولو كان لقارئ الديوان أن يرسم صورة صاحبه لظهرت أمامنا صورة رجل واضح المعالم، يتحرك تحت الضوء، ويعيش الحياة اليسيرة، السهلة، بكل ما تعني هذه الكلمات.

     وإذا كانت أحزان الأقصى حاضرة أمام الناظرين اليوم، فإن أحزان الأندلس لم تغب عن قلوب المسلمين، بل كأنها لن تغيب حتى يغسل الآتون بنصر الله سبحانه هزائم الغابرين، الذين فرطوا بأسباب النصر التي بينتها شريعته الخالدة، ففرط بهم النصر.

     لقد رسم شاعرنا حيدر الغدير صورة غرناطة الأندلس، وأحداث هزيمة (أبي عبدالله الصغير) وما حل به، في القصيدة الثانية من ديوانه، وجعل عنوانها (حسرة العربيّ)، وهو اسم المكان الذي وقف فيه ذلك الصغير يودع مدينة ملكه، واختار شاعرنا لهذه القصيدة ألحان بحر الطويل: (فعولن مفاعلين)، تلك الألحان المتزنة، واسعة المدى، وعزف عليها كل الأحزان، والدموع والآلام الماضية والحاضرة، والتي عاشت في قلبه وقلوب الأمة عبر الزمن، وبشر بما يبشر به الرسول صل الله عليه وسلم إذا أخذ المسلمون بأسباب النصر.

     ورأيناه ينطلق من بكاء أبي عبد الله الصغير، ليصف الدماء التي صبغت تلك المدينة، وأجراس الكنائس التي طغت وكتمت أصوات المؤذنين، والأستار التي هتكت، والخيول التي خلت صهواتها.. ونواح المحصنات اللواتي لم يأسفن على الذين قتلوا مستسلمين، ولا على الفارين، بل ذكرنهم بما كان ينبغي، من الإقدام، والقتال، للفوز بإحدى الحسنيين، لأن ذلك طريق الخلود التي سلكها المنتصرون. وقد شكلت كلمات أم عبد الله الصغير عمود القصيدة، ومحور الفكر الإسلامي، فصاغها الشاعر مطراً يغلي بقوله:

ألا فابك مثل الغيــــد ملكا أضعتــــــــه
               وما صنته عن عـفـــة وتكــــــــــــــرم
ألا كنت مثل الليــــث في حومة الوغى
               يصـــول إذا يرمي، ويحــــدو إذا رُمِي
وخضت إلى الفردوس بحراً من اللظى
               وكنت الأبي الحر والـفــــــارس الكمي
ولو مت مقـدامــــــاً لعشت مخلـــــــــداً
               وصرت نشـــــيداً كالأغاريد في الــــفم
وخلدت بين المسلميـــــــــــن كحمـــزة
               وكفنــــت في برد من المجــــــــد والدم

     وقد أحسن الشاعر حين انسل من مرارة الواقع الممتد من (حسرة العربي) أرضاً وزماناً، حتى أيامنا هذه، نحو مجد غابر صنعه السابقون بقلوب ملأها الإيمان، وفاضت بها آمال النصر. فعاشت تتهادى بين إيمانها وآمالها، وأحلامها، وعقدت عزائمها لتجسد ذلك انتصارات بلغت أقاصي الشرق والغرب، وجلجلت سيوفهم، وخفقت راياتهم، وعلت بهم منارات صدحوا من فوقها بأصوات الأذان، ونشروا دين الله، وطهروا الأرض من دنس الكافرين وظلمهم، يتساءل شاعرنا عن كل ذلك فيقول:

أين الأذان يزف النـــــور مؤتزراً
               بالطيب ينهل مثل الهاطل الهضب
والمسلمون سرايـا بالهدى انطلقت
               يحفها مهرجان الفتح والغلــــــــب
تطهر الأرض من كفر ومن دنـس
               وتنقذ الناس من بغي ومن حـــرب

     لم يلبث الشاعر أن مزج حلمه بأحلام موسى بن نصير، وشكل جيوش الفتح القادمة، وجعل في نفسه رفيقاً لطارق في جند الفتح، وكأنه يراهم رأي العين: فيقول:

إني لأبصرهم زحفاً له زجــــــــــل
               إلى الديــــار التي عزت على أربي
غداً يحقــق حلمي سيـــد نجـــــــــد
               يمضي إليه (على جسر من التعب)
أنا وطارق جنـــد في كتائبـــــــــــه
               فأسرجوا خيلكم يا أمة العــــــــرب

     لم يغادر شاعرنا ألفاظه السلسة، ومعانيه القريبة، وصوره اليسيرة المنال، المألوفة عبر الزمن، وكان تأثره بالألفاظ القرآنية والنبوية المشرفة جلياً، وفي كل أنحاء القصيدة، وظهرت صورته وهو يمزج بين حمراء قرطبة، وأقصى فلسطين، وكأنه يؤاخي بين حسرات المسجدين!! وقد التحف الشاعر أشواقاً حارة، معبراً عن أشجان أمة الإسلام قاطبة.

     أما اللون الثالث في هذا الديوان فكان الشعر الإخواني، وشعر المناسبات، وذاتية الشاعر، الذي ضم كثيراً من قصائده، ولا عجب فالشاعر متفرغ للقراءة والكتابة، وممارسة العلاقات الاجتماعية، والندوات الثقافية، ومن هذه القصائد ذات العنوان الإسلامي: (نم في البقيع) التي رثى فيها الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري.

     ولم يخرج شاعرنا في هذه القصيدة عن نهجه، وظل متمسكاً بعمود الشعر، ومعاني الأولين من الشعراء، فذكر محامد الفقيد الكثيرة، وأشاد بمواقفه، وجهاده بالكلمة والنفس والمال، والآمال، التي تجلت في أن يمكن الله سبحانه للمسلمين، ثم زف إليه أنباء انتصارات المسلمين في بعض البلاد، وتمنى لو كان حياً ليتغنى بها، لكنه واسى نفسه بالملائكة الذين سيزفون له أنباء تلك الانتصارات، فقال:

نصر كما تهوى فأين يتيمـــــة
               من حر شعـرك للأسود تصفق
أترى الملائكة الكرام سعت به
               نبأ إليك وبسمــــــــــة تترقرق

     ولا ينسى أن يبارك له نومه في البقيع، إلى جوار جده، ويبشره بأن مسلسل الانتصارات الذي بدأت شموسه تسطع بجلاء، لابد أن يصل القدس، وتشرق فيها شموسه.

     لقد كان الشاعر ملتزماً بدينه، منافحاً عنه، في كل إبداعه الشعري، وعلى كل صوره، مشيداً بالمتمسكين بشرع الله، كتاباً وسنة، واقفاً معهم في كل خنادقهم، وهو بذلك يؤكد نفسه في مسيرة الأدب الإسلامي، وتسخير الشعر والإبداع لخدمة هذا الدين الحنيف.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة