الاثنين، 8 أغسطس 2022

القدر في نظر المسرحيين الغربيين

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

القدر في نظر المسرحيين الغربيين

     تستطيع أن ترى لدى طائفة كبيرة من المسرحيين الغربيين فكرة النظر إلى القدر على أنه سلطان قوي نافذ، يسوق الناس شاؤوا أم أبوا إلى مصائر قاسية لا يريدونها، إنهم ينظرون إليه وكأنه قوة من فوق تتسلط على رقاب الناس، قوة خفية، غامضة مجهولة لا تريد الخير بالناس، قوة مستورة محجوبة تغيّبها السُّتُرُ عن عيون البشر، قوة نائية، يسمونها القدر مرة، ويرون فيها الله عز وجل مرة أخرى، ويطلقون عليها عالم الخفاء والأرواح مرة ثالثة، والصدفة العمياء مرة رابعة، ومن أمثال هذه التسميات والأوصاف التي تكشف طبيعة نظرهم للقدر. إنه الحس اليوناني القديم يسري في أعصابهم، ويرسم لهم هذه الأفكار الخاطئة الضالة.

     إن هؤلاء يعيدون لنا بصورة أو بأخرى ما كانت تقوم عليه المأساة اليونانية القديمة من صراع مرير بين الإنسان وبين آلهة مزعومة تريد به السوء، وتضمر له الأذى، وتعبث به وبمصيره وهي قوية غالبة، وهو ضعيف مغلوب، فتكون النتيجة هزيمةً منكرة للإنسان إزاء كيدها الكبير الذي يسعى إلى سحقه وتدميره، والهزء به والسخرية منه، واتخاذه ألعوبةً يُقذَفُ بها ذات اليمين وذات الشمال، كأنها ريشة طائرة في مهب الريح، وبذلك يكون مصيره أن يظل سائراً في مسالك هذه الدنيا الحزينة المؤلمة التي تقسو عليه، وتحت سماء مغلقة لا ترحمه حتى تنتهي حياته بالموت الذي ما منه مهرب.

     إن هؤلاء المسرحيين يعترفون بالقدر ويشعرون به، ويجعلون منه قاعدة ضرورية لأي مسرحية تنأى عن الواقع اليومي، وتبتعد عن التفاصيل المباشرة الزائلة، وتبحث عن القيم الكبرى وعن الإنسان وصراعاته في عالمه الكبير، عن جدوى سعيه وكفاحه، وعن مصيره في خاتمة المطاف.

     نعم قد تختلف الاتجاهات بين كاتبٍ وآخر، بين طائفةٍ وأخرى، لكنه خلافٌ في الاتجاه فحسب، وليس خلافاً في أصل القاعدة. فابتداءً من المؤمنين بالجبرية المطلقة المسيطرة على رقاب الناس، وانتهاءً بالذين يرفضون أي وجود علوي فوق الإنسان وخارج إرادته الحرة، ويتبنون فكرة حريته المطلقة، مروراً بمن اتخذوا مواقف شتى بين هذين الخطين المتباعدين نجد الحس القدري يملأ نفوس أبطال هؤلاء الكُتّاب، ويحدد مواقفهم إزاء الأسئلة الكبرى التي يطرحها عليهم اضطرابهم في هذا العالم الشائك المعقد.

     يقول أحدهم: هناك أحداث تجري على مسمع منا ومرأى، وهناك أحداث أخطر وأبعد تتم في الخفاء، وليست الأحداث التي تقع فعلاً أمامنا إلا نتيجة حتمية وأثراً لتلك الأحداث الخفية.

     إننا نعرف على الدوام جزءاً من الحقيقة هي القشرة الخارجية، أما الحقيقة الأضخم، الحقيقة الفعالة التي تولِّدُ الحقيقة الظاهرية فنحن لا نراها بل هي موحاة لنا فحسب، علينا أن نُخمِّنها، وقد نتخبط وقد نصيب، ولكن الشيء المؤكد أن هناك حقائق غامضة مجهولة هي التي تسيطر على أقدارنا ومصائرنا، هناك قوى خفية مهولة تخط لنا حياتنا، أي الحقيقة الظاهرية، هناك أشياء كثيرة تحدث، وروابط كثيرة تتعقد في الخفاء في الظلام، ومع ذلك فهي تسطر على أقدارنا، وترسم تصرفاتِنا وسلوكَنا، وسعادتنا وشقاءنا، وتحركنا بخيوط غير منظورة.

     إنها صورة كئيبة هذه التي لمسناها في حس هذا الكاتب الذي سمعنا قولته هذه، حس كئيب يشهد بضخامة تصور القوم الخاطئ لفكرة القدر القاسي الذي يسيّر الإنسان وفق مصير سيئ لا اختيار فيه. على أنك تستطيع أن ترى بين المسرحيين الغربيين من يتبنى اتجاهاً مغايراً لكنه لا يخرج عن القاعدة الأصلية، فثمة طائفة ترى أن القدر ليس أبداً تلك القوة العلوية الفوقية التي تنصب على الإنسان من خارج ذاته، بل هو قدر نابع من داخله، من أعماقه ومن عاداته وتقاليده، ونسيج حياته اليومية، ومن ماضيه المنصرم. إن أبطال هذه الطائفة تأسرهم بيئتهم وإرثهم وتجاربهم.

     إن القدر ها هنا يكمن على الأرض، ويتفجر من الوجدان والضمير، ولكنه على أي حال قدر، قدر يرسم للناس مصائرهم المحتومة، ويجبرهم على سلوك طريق محدد ليس منه فِكاك، ويصل بهم آخر الأمر إلى غايات وأهداف لم يكونوا يريدون الوصول إليها، ولا سعوا لاختيارها.

     وبين هذه الطائفة، وبين الطائفة الأخرى خلاف لا شك، لكنه خلاف داخل الدائرة التي لمسناها منذ الحس اليوناني القديم، والتي لا ترى في صلة الإنسان بالقدر سوى صراع متصل سواءً نبع من تحتٍ أم جاء من فوقٍ، وإنه لحِسٌّ مُستكن في أعمق أعماق الوجدان الغربي ينأى به عن الطمأنينة والسكينة، والود والمحبة، والصفاء والرضى.

     لقد ظلت عيون القوم هناك في بلدان الغرب الحضاري مركَّزةً على الأرض، وظلت آمالهم وتصوراتهم، نشاطاتهم وأشواقهم، تطلعاتهم واهتماماتهم؛ حبيسةً بين جدران الحس الكثيف والمادة الطاغية، وظلت أقدامهم مغروزةً في الطين قلَّ أن تحاول النجاء منه والهروب، وظلت أمكنتهم وأزمنتهم نهباً للصراعات القاسية المريرة بين الكنيسة والدولة مرة، وبين البلد والآخر مرة أخرى، وبين أبناء البلد الواحد أنفسهم مرة ثالثة.

     وبسبب من ذلك، وبسبب من ضآلة استفادة القوم من هدي المسيح عليه الصلاة والسلام، جاءت نظرة الغربي للعلاقة بين القدر وبين الإنسان، أو بين الله تعالى وبين الإنسان؛ لأن القدرَ إنما هو إرادةُ الله عز وجل، وليدةُ تلك الظروف القاسية من ناحية، ووليدةُ ضآلة الاستفادة من رسالة المسيح عليه الصلاة والسلام من ناحية أخرى، جاءت مطبوعةً بطابع الصراع موسومةً بميسمه ولم تأتِ مطبوعةً بطابع الإنسان الذي يحب خالقه ويخشاه، ويفوِّض إليه أموره، ولا بطابع رحمةِ الله عز وجل التي تريد للبشر إسعادهم، وتحنو عليهم وترحمهم.

     خُذْ فترة الحياة الوثنية هناك؛ أترى فيها غير معنى هذا الصراع المدمر المرير؟! لقد ابتكر الخيال اليوناني القديم مئاتٍ من الآلهة المزعومة، كانت فيما يتوهمون تصارع الإنسان وتؤذيه، وتقسو عليه وتضطهده، وتنزل به عقابها الصارم، بل إنها لتتصارع فيما بينها ليعلو بعضها على بعض، ويستأثر دونه بالنساء والأموال والبنين.

     إن ثمة خطأين بالغين ها هنا: الأول خطأ الفكر الوثني الذي يؤمن بآلهة مزعومة من دون الله عز وجل، والثاني: خطأ طبيعة العلاقة مع الإنسان، حيث تحاول القوى التي هي أكبر منه إيذاءه باستمرار.

     ثم خذ فترة العصر المسيحي، وانظر إلى فكرة الخطيئة والخلاص؛ إننا نلمح هنا فكرة القدر القاسي الذي لا يرحم كما هو في حس القوم، حيث لا بد من التكفير عن خطايا بني آدم بتضحية وفداء عظيم، ومن ثم يكون الصلب كما يزعمون. إن الفكرة هي هي: مصيرٌ قاسٍ يحكمُ الإنسان، وإرادةٌ تعلو إرادتَه، تضطهده وتقسو عليه، ولا تريد به الخير قط، بل تؤذيه وتضع في طريق مطامعه الصعابَ والعقبات.

     ثم خذ العصر الأخير للقوم، عصر العلمانية المادية الحديثة، حيث طفق الغربي يتصرف بمعزل عن كل توجيه سماوي، سواء آمن بوجود خالق قدير مدبر، أم لم يؤمن به، الحالة سيّان من حيث التعامل المادي، والتحرك المعاشي، والسلوك العملي، والمطامح والرغائب، والأشواق والآمال، والتخطيط والتدبير؛ إن ذلك كله، وكل ما هو مثيلٌ له، إنما يصوغه الرجل الغربي منطلقاً من فكرة المنفعة فحسب، منعزلاً به عن أي هديٍ كريم أو توجيه سماوي نبيل. إنه يشعر بأن الحياة بين الأحياء غابة يجب أن يفوز بها بأي ثمن. هي صراع لا يهدأ سواء بين الناس بعضهم وبعض، وسواء بين الناس والقدر.

     والمسرح الحديث في الغرب اليوم، على الرغم من تقدم الإحساس بالمادة، وتراجع الشعور بالأخلاقيات الدينية، يعبّر بشكل أو بآخر عن قوة ما، قوة ينبغي أن يقف الإنسان منها موقف الخصام والصراع الذي يحمل طابع المأساة.

     وإن أكثر المسرحيين الغربيين بُعداً عن الفكر الديني لم يخلُ مسرحهم من هذا الإيحاء المسيطر على عصب الغربي، وذهنه ووجدانه، إنه يشعر أن ثمة قوةً لا قِبَلَ له بها تحكم المصائر، وتحدد النهايات، ويعبث بالوجود، قوة يسميها الغيبَ مرةً، ويسميها القدرَ أخرى، ولا يرى ثمة مجالاً لأن تحنو هذه القوة على الإنسان، وتحاول إسعاده، وتمد له يد العون.

     إن الحس القديم لدى اليوناني الوثني الذي أبدع المسرحيات المعروفة يمتلكه هذا المعنى حيث نشهد عند "سوفوكليس" وأضرابه من المسرحيين؛ ذلك الصراع المأساوي المحزن بين الإنسان وبين القوى الغيبية، غير المرئية التي تسوقه إلى مصير ظالم لا اختيار له فيه، وهذا الحس القديم نلتقي به جديداً لدى الغربي المعاصر، حيث يعبر عن هذا المعنى بأشكال شتى، وصور مختلفة، تظهر في المسرح أكثر مما تظهر في غيره من الفنون. قارن هذا الحال الكئيب، والحس الخاطئ المدمر، والمآل المأساوي المفجع بما يقابله في التصور الإسلامي لترى الفرق الشاسع والبون الكبير؛ إن نظرة المسلم للقدر ليست نظرة عداء قط، فالقدر إرادة الله عز وجل، الذي يريد له الهداية والخير، والذي هو أحنى عليه من أمه وأبيه، والذي لا يخطئ المسلم أن يلمس رحمته وثوابه قط حتى في حالة الضراء والمصائب، فضلاً عن حالة السراء والسعادة. إنه لفرق هائل ضخم، ولا غرابة في ذلك، فالفرق بين نظرة المسلم للقدر ونظرة الغربي له، هو الفرق بين هدي السماء وأوحال الجاهلية.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة