الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي
مسرحية في نيويورك
لأحد الكتاب الأمريكان هو (أونيل) مسرحية ذائعة هي (القرد الكثيف الشعر)، ينزل فيها بطلها إلى مدينة نيويورك، وإذا به يعاني من غربة وحشية قاتلة، فكل شيء من حوله مشغول عنه، ليس له وقت ليقول له فيه: مرحباً بك أيها الغريب! من أنت؟ وماذا تريد؟ كل شيء من حوله دوامة من حركة ونشاط وفاعلية لا تهدأ بحال، ولا تكف عن الدوران، وهي خلال ذلك كله تنظم وترتب، وتعد وتدبر، إنها منتجة مفيدة، لكنَّ شيئاً من عطائها الكثير، لا يبدو أنه يهتم بالإنسان، ويُعنى بهمومه، ويخفف من مشكلاته ومتاعبه، ويجعله يشعر أنه إنسان له قيمة وشأن وأهمية.
هبط بطل المسرحية ميناء نيويورك فأحس أن كل شيء فيها لا يعبأ به، كل شيء لا يريده، كل شيء ليس في حاجة إليه، كل شيء يبصقه كأنه نواة، كأنه ذبابة، مع أنه شيء، مع أنه إنسان، هو الذي صنع نيويورك، فهو الذي يعمل في السفن، وهو الذي يضع الفحم في الفرن، والفرن يطلق البخار، والبخار يدفع السفن بكل ما حملت، وهو لزج كالزيت، وهو شحم كالآلات، وهو كذلك صانع هذه الآلات والتروس، ومع هذا كله يعيش منبوذاً، ويموت منبوذاً.
كان البطل يدق الأرض بقدميه، يدق الجدران بيديه، يدقها بنظراته كذلك، يبحث عن نظرة مودة وحنان، يفتش عن بسمة ودٍّ صادقة، يأمل أن تمتد إليه يد مواسية حنون، تشجعه وتعطف عليه، وتعينه وتساعده، وتخفف شيئاً من همومه وأحزانه، وتأسو شيئاً من كلومه وجراحاته، لكنَّ رجاءه كله خاب، وأملَه كله صوَّح، وبقيت المدينة الضخمة العملاقة كما هي، لا تعرفه ولا تحبه، ولا تأبه بشأنه في قليل أو كثير، بقيت نوعاً من اللامبالاة الشاهقة، نوعاً من عدم اكتراث يناطح السحاب.
وماذا عن الناس في المدينة الضخمة؟ أولئك الذين يركبون المترو السريع بضوضائه الشديدة، فينزلون في صمت، ويصعدون في صمت، وعلى وجوههم كآبة قاتمة. يقول عنهم أحد الكتاب الذين زاروا مدينتهم، هو (أنيس منصور): "إنهم لا يختلفون عن أهل أي بلد في الدنيا في ليلة رأس السنة، إلا أنهم يفتعلون الإنسانية، ويفتعلون الطفولة، في حين أنهم في أي بلد آخر، أناس عاديون بلا افتعال، وبلا محاولة كاذبة لأن يتذكروا أنهم كانوا بشراً في قرن من القرون.
ونمضي مع الكاتب الناقد وهو يحدثنا عن حياة الناس هناك، عن نواديهم الليلية، وأوقات فراغهم وأمانيهم، عن تخمتهم المادية وخوائهم الروحي، عن يأسهم ومللهم، وبحثهم عن الجريمة والشذوذ، عن تسلط حفنة من المرابين اليهود على وجدانهم ونشاطهم وأزِمَّة أمورهم، عن الشبان البائسين الذين يهربون من مجتمعهم هروباً شعورياً أو لا شعورياً، عن أملهم في اكتشاف عالم جديد لا يدرون شيئاً عنه، ورغبتهم في صياغة غدٍ جديد دون أن يعرفوا شيئاً عن صياغته، وشروطها ولوازمها. هم يتوقون لصياغة دنيا جديدة بدلاً عن هذه التي سئموها وملوها ورفضوها، دون أن يفعلوا شيئاً من أجل إيجاد هذا البديل سوى الرفض السلبي العاجز، والأماني الفارغة، والأحلام الأفيونية، والأوهام والخيالات والسمادير.
يقول الكاتب عن هؤلاء الشبان: "في النوادي يعيش طول الليل، الجيل الجديد، الذي يسمونه الجيل الصارخ أو الجيل الصاخب، بلا فلسفة ولا ثقافة ولا مشكلة ولا أزمة، فالجيل الجديد لا يقرأ، ومعظم هؤلاء الساخطين شبان دون العشرين، ويشربون الشاي أو السجاير ساعات متتالية، ويسمعون إلى موسيقى عاوية داوية، وبعد ذلك يخرجون".
لم يقل لنا الكاتب الشاهد إلى أين يخرجون؟ لكن من الواضح أنهم يخرجون إلى مجتمعهم، دون أن يكون في أذهانهم أي حل يواجهون به مشكلاتهم إزاءه، كما أنهم يخرجون، وليس بينهم وبينه ولاء يشعرون معه بخيوط من المودة تشدهم إليه، وتجعلهم يتفاهمون معه.
يخرج الواحد منهم ليكون مثله مثل بطل تلك المسرحية الأمريكية، عندما هبط ميناء نيويورك، فشعر بالغربة الطاحنة تسحقه وتهدد كيانه، وأحس أنه غريب منبوذ فطفق يدق الجدران بيديه، وبنظراته كذلك، دون أن يحظى بشيء يقدر فيه أنه إنسان، إنسان صنع هذه الأشياء الكثيرة المكدسة، والآلات الدائرة باستمرار، والجدران القوية الشامخة، والأبنية العالية التي تناطح السحاب، كل شيء من حوله إنما هو من صنعه المتقن المبدع، لكنه مع ذلك لا يتعرف عليه ولا يحبه، ولا يسنده ولا يعينه، ولا يأبه بشأنه، ويعامله بإهمال شديد، ونوع من اللامبالاة والتجاهل وعدم الاكتراث. مسكين إنسان هذه الحضارة!.. لقد غدا رقيقاً للآلة التي صنعها، وعبداً لمنجزات جهده وذكائه وعنائه.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق