الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته
دولة المسلمين في الأندلس
قال المؤرخ الإنكليزي المشهور "فشر" يصف دولة المسلمين في الأندلس وحضارتهم فيها، وذلك في كتابه عن تاريخ أوروبا في العصور الوسطى:
دولة قوية راضية، عليها أمراء وخلفاء أمويون يحكمونها حكماً مستنيراً من عاصمة لهم، هي قرطبة. وقد انعقدت مخايل التحضر والنعمة والاستقرار على رأس هذه الدولة، كما امتلأت عاصمتها بالسكان من جميع الأديان. والزائر القادم إلى قرطبة وضواحيها في القرن العاشر الميلادي لا يلبث أن يرى بلداً توافرت فيه دلائل الحكومة المستنيرة المعنيّة أكبر عناية بشؤون الزراعة والتجارة والصناعة، إذ يرى فيما يرى فلّاحين يزرعون الأرز وقصب السكر في أرض تسقيها ترع ونواظم مائية قام على تنسيقها مهندسون من العرب، كما يرى فيما يرى صُنّاعاً يصنعون الآنية من الزجاج والأدوات من العاج والجلد في دقة ورونق وجمال.
والزائر لا يستطيع إلّا أن يرى كذلك فيما يرى الدواوين الحكومية، والصفوف من الموظّفين الكاتبين، الذين استبدلوا الورق بِرُقوق الغزلان للكتابة، حتى إذا دخل قرطبة نفسها لم يستطع إلّا أن يعجب من أهلها وغلوِّهم الشرقي الذي تطلّب تسع مئة حمّام لغسل أبدانهم، وأربع مئة مسجد لتهذيب أنفسهم، فضلاً عن طرق مرصوفة الحجارة، وساحات ظليلة واسعة ذات عمد، وعقود مسقوفة تتوسّطها نوافير مائية متألقة، وتزينها مئات المصابيح المصنوعة من الفضة، كما تزيّن المسجد القرطبي الكبير بأنوارها المنعكسة على عُمَدِه الرخامية.
ولم تكن هذه المباهج الخلابة خاصة بالسادة العرب، بل نعمت بها رعية الخليفة الأموي من جاليات المسلمين الذين قدموا مع الفاتحين، وطوائف المسيحيين الذين رضوا بالفتح وبالعيش في ظلال الإسلام آمنين على أن يدفعوا للدولة جزيةً سنويةً معلومة، وأولئك هم المستعربون على قول المصطلح المعاصر، وهم جزء هام من المجتمع الإسباني، ويرجع إليهم الفضل في تسرّب الحضارة العربية، وما امتلأت به هذه الحضارة من علوم اليونانيين إلى أوروبا اللاتينية في العصور الوسطى.
وقبل أن نحاول التوقف لدى شهادة "فشر" هذه دارسين محلّلين، يَحْسُنُ بنا أن نقدم ملاحظة مهمة، تتصل بشهادة "فشر" وغير "فشر" ممن هُدوا إلى شيء من الإنصاف خلال حديثهم عن الإسلام وأهله وحضارته. هذه الملاحظة هي أن هؤلاء الكُتّاب على الرغم من مواقفهم المشكورة التي نحمدها لهم، ونقر لهم فيها بالفضل والشجاعة معاً، لا يمكن لهم أن يتخلصوا من شوائب كثيرة عالقة في أعمق أعماقهم وأخلادهم، ولا يقدرون على النجاة منها لأنها صارت جزءاً من مكوّناتهم الثقافية ومكوّنات الحضارة الغربية التي ينتسبون إليها.
وهم في ظلال هذه الشوائب يجانبهم الفهم السليم والتحليل الصادق، عن سوء نية حيناً، وعن حسن نية حيناً آخر، في كثير من الأمور التي تتصل بدراساتهم للإسلام والمسلمين، ولا غرابة أن ترى أحدهم يكون منصفاً، ويشهد شهادات طيّبة، لكنه مع ذلك في مواقف أخرى يهبط ويُسِف.
لذلك فمن الضروري جداً أن نقرر أنّ نقلنا لشهادة أحدهم، واعترافنا له بالجميل، وشكرنا إياه على الإنصاف، وعلى الشجاعة الأدبية التي يمتلكها؛ لا يعني الموافقة على كل ما كتب، فنحن نتوقّف عند الذي نعتقد أنه وُفِّقَ إلى الحق فيه فحسب، ولا عجب في ذلك؛ فالحكمة ضالة المؤمن.
وحين نعود إلى "فشر" وشهادته، يحقّ لنا أن نفخر بما فيها من ثناءٍ مُسْتَطاب على الدولة الإسلامية في الأندلس، تلك الدولة الراقية المتحضّرة التي تقوم عليها حكومات مستنيرة تُعْنى بشؤون الناس، وتسهر من أجل راحتهم، وتبذل جهدها من أجل أن تسودهم النعمة والأمن والراحة والاستقرار.
أما العناية بالأبنية والمساجد والحمامات، والترع والنواظم المائية، ودواوين الحكومة، وما إلى ذلك فقد فصّل فيه "فشر" وأجاد، وهو أمر مشهور مقرر بالنسبة لحضارة الإسلام عموماً، وحضارة الأندلس منها خصوصاً، لكنَّ ثمة أمرين يحسن التوقف عندهما:
- الأول: ما قرره المؤرخ الإنكليزي من امتلاء قرطبة عاصمة الأندلس بالسكّان من جميع الأديان، مما يدل على طبيعة الحرية والعدالة العميقة في الحضارة الإسلامية، فهي لا تعرف الاضطهاد الديني، وإجبار الآخرين على اعتناق الإسلام، بل تضمن لهم أن يعيشوا تحت لوائها بأمن وسلام، وحفظ كامل لجميع حقوقهم، على الرغم من قناعتها وإعلانها أنهم كفّار وهالكون ومن أهل النار.
- الثاني: ما قرره "فشر" أيضاً من أن النعم التي كانت في الأندلس لم تكن حِكْراً لطائفة دون أخرى، بل شملت الأندلسيين جميعاً، الحاكم منهم والمحكوم، المسلم منهم وغير المسلم، مما جعل مجتمعاً عادلاً يقوم وينهض، ويمارس دوره في الحضارة الإنسانية، ويسهم بشكل خاص في نقل الحضارة والعلوم والمعارف إلى أوروبا اللاتينية، من خلال مساجد الأندلس ومعاهدها، التي كانت خلايا حيّة، تزخر بشتّى أنواع الثقافات والمعارف البشرية. إن للحضارة الأندلسية المسلمة، يداً كريمةً معطاء، على البشرية جميعها، وفي شتى الميادين: لقد كانت شعلة هداية تنقل كلمة الحق للحيارى، وتنير الدروب للضالين، وكانت منارةً من منارات الكرامة أرسَتْ للإنسان حقوقه وكرامته، وكانت خليةَ نحل، تعجّ بشتى ألوان النشاط البشري النافع البناء، وكانت مثابةً للحق والحرية والمساواة، وكانت موئلاً ومعملاً للرقي والتقدم والنهوض، وكل ما من شأنه إسعاد الإنسان.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق