الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي
الإنسان الغربي والفنون
ما مِن شيء يعكسُ التشويهَ النفسي، والقلقَ الروحي، والخواء الداخلي للإنسان الغربي بالمعنى الحضاري الواسع كالفنون، من الرسم والنحت والأدب، ذلك أن الفن هو المتنفسُ العفوي الوحيد المتبقّي له للتعبير عن أزمة الفكر وأزمة الوجدان، وأزمة السلوك، تلك التي يعاني منها ويكابد، وهو مسوق للدمار باستمرار في حضارته التي مزقته شر ممزق.
لقد فتنته صحةُ العلوم النسبية عن حقائق الإيمان المطلقة، وسحرته روعةُ المنجزاتِ الكبيرة عن الأهداف والغايات، وسدَّت عليه تروسُ الصناعة الضخمة آفاقَ الطبيعة وآفاق نفسه على السواء، وسلبته آلية التكنيك الاجتماعي لمجتمعه الصناعي حرية الفعل ذي المعنى الأخلاقي، وحرمته دقةُ الأرقام روعةَ الخيال، وانغمس يدورُ ويدور من أجل إشباع مطلب لا يشبع؛ اسمه زيادة الإنتاج.
وربما كان المسرح الغربي المعاصر أكثرَ الأنواع الأدبية إبرازاً لهذه الحقائق، وذلك لأن الفن المسرحي يكون في العادة ألصق بالحياة الاجتماعية من سائر الفنون الأخرى، ولأن للمسرح في الحياة الاجتماعية والتراث الأدبي للحضارة الغربية مكانةً خاصة ليست لسائر الفنون الأخرى. وللمسرح منذ نشأته وحتى عصرنا الراهن، قصةٌ مع القدر والحرية، تأخذ صوراً مختلفة، وأشكالاً شتّى، لكنه لم يُلقَ عليها غبار النسيان، ذلك أنها المحور الذي دارت عليه كبرياتُ الأعمالِ المسرحية بشكلٍ أو بآخر.
يقول الدكتور عماد الدين خليل: إن الذي أعطى قضية القدر هذا الالتحام الوثيق بالمسرح هو أن المسرحَ أساساً من معطيات القارة الأوروبية، تميَّزت به منذ أن طلعت أثينا على العالم بتراجيدياتها الكبرى، وإلى اليوم حيث يطلع من هذه القارة بالذات روادُ مدارس ومذاهب مسرحية لا يقر لها قرار حتى تطلع بعدها موجات جديدة تكتسحها وتطغى عليها.
ومعروف أن علاقة هذه القارة الصغيرة باللهِ عز وجل منذ فجر التاريخ وحتى الآن لم تقمْ يوماً على أساس صحيح فيما يجبُ أن تكونَ عليه العلاقةُ بين الخالق والعباد. إن هذه القارةَ الصغيرةَ، ذاتَ الظروفِ القاسية، والمناخِ الصعب؛ ظلَّ أهلها يتقاتلون فيما بينهم بحثاً عن موطئ قدم يمكِّنهم من ضمان حياتهم، وتأمين موارد عيشهم. ظلوا يتقاتلون ويتصارعون حتى لم يبقَ في وجدانهم مساحة يحتلها شعور نبيل بالسلام الذي يعم الكون، وبالحب الذي يسيِّرُ الخلائق، بالعطف والمودة التي فُطِرَ العالم والأشياء عليها، كما أن هذا الصراع استغرق كل وقتِهم وكل جهدهم، ولم يترك لهم وقتاً يطمئنون فيه إلى ما يعتملُ في نفسِ الإنسان دائماً من نداءٍ روحي وشفافيةٍ سماوية تدعوه في لحظات تأمله وسكينته أن يرفع عينيه إلى السماء، ويستجيب للنداءات التي تدعوه من هناك أن يرتفع ولو قليلاً عن مستوى الطين الذي يحاصر وجوده من كل مكان، ويُثْقِلُ روحه وضميره، عقله وفكره، وجدانه وسلوكه.
نعم لقد عرفت الحضارةُ الغربيةُ المسيحيةَ، لكنها لم تعرفْها كما بُعِثَ بها المسيحُ عليه الصلاة والسلام، يقول الكاتب الأمريكي "درابر": إن الجماعة النصرانية وإن كانتْ قد بلغت من القوة بحيث ولَّت قسطنطين المُلْك، ولكنها لم تقطع دابرَ الوثنية، ولم تقتلعْ جرثومتها، وكانت نتيجةُ كفاحها أن اختلطت مبادئها بمبادئ الوثنية، ونشأ عن ذلك دين جديد مختلط، وهناك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه أي الوثنية قضاءً تاماً، ونشر عقائده خالصة بغير غبش. وإن الإمبراطور قسطنطين رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين الوثني والنصراني أن يوحدهما ويؤلف بينهما.
وشهادة الأمريكي "درابر" واضحةٌ جليةٌ جداً، لكنني مع ذلك أسوق شهادة واحدٍ من علماء الإسلام الأوائل هو القاضي عبد الجبار، وهي شهادة وجيزةٌ وغنية يقول فيها: إن روما ما تنصَّرت، ولكن المسيحيةَ تروَّمتْ، وفي هاتين الشهادتين ما يكشف عن ضآلةِ استفادة أوروبا وهي زعيمةُ الغربِ فكراً وحضارةً من هدي السماء.
نريد أن نخلصَ من ذلك كلِّه إلى أن معرفةَ أوروبا بالله عز وجل معرفةً حقيقية تيسِّرُ لها سبيلَ السعادة؛ ظلتْ محدودة جداً، فأدّى هذا إلى مآلٍ وخيم ظهرت آثاره أكثرَ ما ظهرت في تدمير بشرية الإنسان وآدميته، واستلالِ روحه وخصائصه، وتركِه نَهْباً لشتى الصراعات، ومنها الصراع القائم الدائم في حسّهم بين الحرية والقدر، مما يظهر نتاجه بوضوح في النشاط المسرحي؛ القديم منه والحديث.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق