الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي
قدر الله وإرادة الإنسان في التصور الغربي
هل ثمة مجال في تصور الغربيين لأن يلتقيَ قَدَرُ الله تعالى بإرادة الإنسان في انسجام وتوافق، ومن أجل أن تكون خطوات الإنسان أكثر ثباتاً، ونظراته أعظم سداداً، وطريقه أبين وأصح!؟ هل ثمة مجال في حس الغربيين لأن يَمد اللهُ سبحانه وتعالى يد العون إلى الإنسان في ساعات يأسه وقلقه وحيرته وتخبطه، فيرفعه إلى آفاق الأمل والرجاء، ويتدفق عزمه بالهمة والمضاء، ويبصر الدرب اللاحب العريض الذي ينبغي أن يسلكه صوب مصيره؟! هل ثمة مجال في تصور الغربيين وحسّهم لأن يكون القدر صديقاً حميماً للإنسان لا عدواً لدوداً له؛ صديقاً يسير معه جنباً إلى جنب، يهديه إذا ضل، ويقوِّمه إذا سقط، ويُسرع به إذا أبطأت به أحداث الزمن وكبّلت خطاه عقبات الطريق؟!
يبدو أن الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها ستكون بالنفي؛ ذلك أن نظرة القوم هناك للقدر نظرة العدو للعدو، نظرة مَنْ يرى الآخر يشحذ سلاحه، ويتحفز للانقضاض عليه والفتك به وتدميره، يستوي في ذلك من ينظرون إلى القدر على أنه قوة علوية تنزل من فوق فتغلب وتسيطر وتقهر، ومن ينظرون إليه على أنه ينبع من حيث هم، من بيئتهم وتراثهم، وماضيهم وتقاليدهم فيَغْلِبُ هو الآخر ويسيطر ويقهر.
فالكاتب المسرحي الأمريكي "يوجين أونيل" واحد من الطائفة الثانية في نظرته للقدر، فهو يرى أن ما يقع لنا من أحداث مصدرُه أنفسُنا التي طُبِعْنا عليها، والتي لا نستطيع أن نتحول عنها لنكون خلافَ ما نحن عليه، فقوى البيئة والبيولوجيا التي هي كامنة فينا وظاهرة، والتي لا نستطيع الفكاك منها قط؛ هي التي تصوغ حياتنا، وتملي علينا اتخاذَ مواقفَ معينة، شئنا أم أبينا.
ولقد أوضح "أونيل" مفهومه هذا بما فيه الكفاية، وبيّن كيف أن الإنسانَ أسيرُ قوى بيولوجية وبيئية تتحكم في تركيبه النفسي الذي لا يستطيع أن يحيد عنه، ولعله أخذ نظرته هذه عن فكرة للطبيعيين خلاصتها: أن الإنسان محكوم في تركيبه الذهني والنفسي بعوامل الوراثة وظروف البيئة، وهو في كل مشكلة يُلْقَى فيها يصارع الضرورات التي تضيّق عليه الخناق صراعاً تؤثر فيه اعتبارات الوراثة والبيئة التي لا منجى منها ولا فكاك.
ولم ينس "أونيل" أن يقف مع أصحاب النظرة الفوقية للقدر، ليعلن معهم رثاءه لحال الإنسان، وحبه العميق للإنسانية التي تقف في خضم الكون محارَبَةً وعزلاء في الوقت ذاته. وهكذا يبدو القدر في حس الغربيين بيئياً كان أم فوقياً، يضع الإنسان في العالم؛ وحيداً أعزل مجرداً من السلاح، إزاء قوى تفوقه بكثير، عليه أن يغالبها حتى النهاية. وهكذا يؤكد أنهم يجمعون على حس مشترك بالعداء المرير، والخصومة الضارية، والصراع غير المتكافئ بين الإنسان وبين القوى الغيبية، وهو حس تشرّبته دماؤهم طيلة عصور التاريخ الغربي ابتداء من عهد اليونان وحتى العصر الحديث، حيث التأكيد التام المستمر على علاقة الضغينة والبغضاء بين إرادة الإنسان وبين القدر الغالب.
كاتب مسرحي آخر هو "جان آنوي" نرى عنده ما رأيناه عند "أونيل"، فأبطالهُ جميعاً مأسورون، إنهم أسرى قدر غالب نافذ ينبثق من الباطن هو حصيلة مكونات البيئة والوراثة والتجارب الزمنية المتراكم بعضها على بعض في كيان الإنسان، في لحمه وعصبه وشرايينه، في مزاجه وذوقه، في ذهنه وقلبه، في عقله وروحه، في مطامحه وآماله، فيما يُسَرُّ به وفيما يُساء. وهو بالذات يختار ماضي الإنسان وتجاربه وعلاقاته، والإنسانُ لديه توّاقٌ للحرية، لكنه يعاني من ضغط سلسلة من الأحداث الماضية الثقيلة، بمعنى أن الماضي تؤكده تبعية الشخص لمحيطه الاجتماعي بدلاً من أن يكشف عن ذاته الأصيلة العميقة فيستحيل بسببٍ من ذلك حملاً ثقيلاً يجره البطل طيلة حياته، وتصبح حياته كابوساً من المتاعب والآلام.
إن بعض أبطال هذا الكاتب يتطلع إلى الطهر والبراءة، لكن ماضيه الدنس يلح عليه ويمنعه من ذلك. إنه يريد الخلاص ولكنه لا يستطيع.
الحق أن نظرة القوم للقدر نظرة شديدة الخطأ، وهي تهمنا من حيث انعكاسها على نفسية المرء، إذ يظل يشعر طيلةَ عمره بالصراع والتقاتل، وأنه وحيد معزول عن كل عون، ومطلوب منه أن يدخل معركة ضارية مع قوى أكبر منه وأعظم، ومثل هذا الشعور كفيل بأن يقضي على كل ما في نفسه من سلام وأمن، وهدوء وراحة، فيظل متوتر الأعصاب، سوداوي المزاج ممزق الوجدان. وإننا حين ندرك ذلك بعمق نضع يدنا على أحد الأسباب القوية التي تقف وراء شقاء الإنسان الغربي ودماره.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق