الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي
القدر والحرية في المسرح الغربي
يمكن لك أن ترى في النشاط المسرحي، للغربيين المعاصرين، فكرة القدر الغالب من جهة، والحرية التي تحاول الظفر من جهة أخرى، تظهر بصور شتى وأشكال مختلفة لترسمَ ظلالاً كئيبة في حس الغربي ووجدانه، وتجعل حياته نهباً لشتى الصراعات، وتنأى به عن سلام القلب، وراحة الوجدان، وطمأنينة السريرة، فإذا به يشعر أنه ضعيفٌ مغلوب يُراد به الشر، ويُكادُ له من قِبَلِ قوى أعظم منه وأكبر، لا مفر له من مجابهتها، ولا سبيلَ له إلى تأكيد ذاته، وإثبات وجوده وفاعليته إلا من خلال الصراع معها.
إنه موقف يمكن لك أن تتبينَ من خلاله ماذا يدور في حس القوم وشعورهم الواعي منه والباطن؛ عن ماهية العلاقة بين الله عز وجل وبين الإنسان، عن طبيعة الصلة التي تقوم بين الفرد الأعزل وبين القوة التي تنأى عن الأبصار، وتمارس إرادتها ضدَّه بشكل أو بآخر.
إنه المنطلَقُ اليونانيُّ القديم الذي انبثق عنه المسرح الغربي أولَ مرة، وأخرج للناس أولى التراجيديات الكبرى، واستمر يصدر عن مَعينه هذا عبر العصور المختلفة شعورٌ بالصراع لا بالوئام، وبالسوء لا بالنفع، وبالأذى والشر لا بالمعروف والخير.
وفي عصرنا الحاضر لم يتبدل هذا الشعور قط، ولم يفقد دلالته وإيحاءه العميق، بل على العكس ازداد إيحاءً ودلالة، إن بوسعك أن تتأكد من ذلك من خلال نظر فاحص في المسرح الغربي المعاصر، فلا تخطئ أن ترى فيه العلاقة بين الله تعالى وبين الإنسان؛ تُصَوَّرُ على ذلك النحو الخاطئ الذي يبدو فيه الإنسان ريشة تافهة تذروها الرياح العاصفة الهوجاء، أو ذرة تائهة تتقاذف مصيرَها الإرادة الغالبة، لا حولَ لها ولا طَوْل.
ولقد أثّرت طبيعة أوروبا، وتكوينها الجغرافي والبشري مضافاً إليه ضآلة استفادتها من هدي المسيح عليه الصلاة والسلام، على تصور العلاقة بين الإنسان والقوى الغيبية، فأقامتها على قواعدَ من الصراع والعداء والحقد الذي لا ينضب له معين، يظهر ذلك حتى لدى أشد المسرحيين الغربيين بعداً عن الإيمان بالله عز وجل، حيث لا يخلو مسرحه من هذا الإيحاء المسيطر على أعصاب الغربي، وذهنه، وشعوره ولا شعوره، وهو أنَّ هناك قوة لا تراها العيون هي التي تحدد مصائر الناس، وتعبث بوجودهم، وتهزأ منهم وتسخر، وتقسو عليهم وتضطهد، سواء كانت تلك القوة روحيةً غيبية، أم طبيعيةً اجتماعية، أم ماديةً جبرية، وسواءً جاءت من فوقٍ، أم انبثقت من تحتٍ.
يقول الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل: هذا هو موقف الإنسان الغربي من القدر، ابتداء من "سلاكرو" حيث الجبريةُ المطلقة، وحتى "سارتر" حيث الحريةُ المطلقة، يصدُر الجميع على ما بينهم من تفاوت عميق عن موقف واحد، ويتحركون على أرضية واحدة، يمكن تلخيصها بأنها الصراع مع القوى المحيطة بالإنسان، والكفاح الدائم ضد العالم الذي يضطرب فيه.
إن القدر الذي تصب فيه هذه القوى جميعاً هو عدو لدود للإنسان، يسعى إلى سحقه، ويهدف إلى دماره، لا لشيء إلا لأنه يمتلك من أسباب القوى ما يستطيع به أن يتحدى الإنسان الضعيف العاجز المجرد من السلاح، ومن ثم تختلف مواقف الغربيين من هذا العناء المسلَّط على رقاب الناس؛ فمنهم من أعلن استسلامه المطلق وحنى رأسه لمعاول القدر تنزل فتهشمها تهشيماً لا يرحم، ومنهم مَنْ حاول أن يبحث عن أسباب هذا العناء في داخل الإنسان، في عالمه الباطني، وفي الأرض التي يتحرك عليها، وآخرون دفعهم هذا الموقف المريع إلى أن يتمردوا على القدر، وأن يلغوه من حسابهم إلغاءً، وأن يعلنوا من جهتهم حرية الإنسان، وقدرته الذاتية على الوصول إلى مصيره دونما خوف أو إرهاب ينصب عليه، من فوقه أو من أعماق ذاته.
إن هذه النظرة العدائية، ذاتَ الإيحاءِ المحزن المدمر، والأثرِ العنيف المرهق، وهذا الموقف الذي يقوم على الصراع والتقاتل، والتدافع والكيد، والإضرار والأذى، هما نتاج تصورٍ منقوشٍ في ذهن الغربي، مستكنٍّ في أعماقه، متغلغلٍ في خلاياه جميعاً، وحسٍّ مطبوعٍ في أعصابه ودمه، ووجدانه وعقله، ووعيه الظاهر والباطن، وشعوره ولا شعوره، منذُ عصورِ أجداده اليونان القدماء الذي أرسوا الدعائم الأولى لهذا الموقف المحزن بين الإنسان وقدره.
وما مِن ريب أنه كان لهذا كلِّه أثرٌ كبير فيما يعانيه الغربي المعاصر من تمزق داخلي، وتآكل نفسي، وبُعدٍ عن الانسجام والتواؤم، والرضى والسكينة.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق