الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي
الإنسان بين التوحيد والتعدد في المسرح الغربي
حين ينحرف الإنسان عن العبادة الحقة لله الحق، فإنه يسقط على الفور في شَرَكِ أحطِّ العبوديات، عبودية الهوى، وعبودية المال، وعبودية التراب وما إلى ذلك، فإذا به بدلاً من أن يعبد الله الواحد القهار فقط، دون أي شريك آخر، يعبد كثيراً من الأصنام، سواء كانت مادية أم معنوية. ولذلك إذا كانت السمة الأولى للإسلام هي التوحيد؛ فإن السمة الأولى للجاهلية هي التعدد، سواء كان هذا التعدد واضحاً مباشراً، أم خافياً ضمنياً.
وجاهلية الحضارة اليونانية –التي لها أكبر الأثر في الحضارة الغربية المعاصرة– كانت تؤمن بكثير من الآلهة المزعومة، يدرك ذلك جيداً كلُّ مَنْ عرف شيئاً من أساطيرهم الوثنية المشهورة، التي عُنِيَتْ بها وبخرافاتها العجيبة، حضارةُ الغرب المعاصر، عنايةً بالغةً فائقة، واستلهمتها كثيراً في الآداب والفنون بأنواعها، لكنها في المسرح أظهر منها في أي باب آخر.
وبصرف النظر عن فكرة التعدد في ذاتها، وما فيها من خطأ بالغ، وظلم للحقيقة، فقد أضافت الجاهلية اليونانية القديمة إليها فكرة العداوة الضارية بين البشر وبين أولئك الآلهة المزعومين، وخير مثال لذلك أسطورة "برومِيثيوس" سارق النار المقدسة. كان بروميثيوس هذا يستخدمه كبير الآلهة المزعومة "زيوس" في خَلْقِ الناس من الماء والطين، وقد أحس بالعطف على البشر، فسرق لهم النار المقدسة من السماء وأعطاها لهم، فعاقبه "زيوس" على ذلك بأن قيده بالسلاسل في جبال القوقاز، حيثُ وَكَّلَ به نَسْراً يرعى كبده طوال النهار، وتتجدد الكبد في الليل، ليتجدد عذابه في النهار، وهكذا دواليك. وليس من ذنب لـ"بروميثيوس" إلا أنه أراد أن يعاون الناس بالنار فسرقها لهم فاستحق هذه العقوبة، على أن "زيوس" لم يكتفِ بمعاقبة سارق النار بل أراد أن ينتقم من البشر أنفسِهم، فأرسل إليهم "باندورا" أول كائن أنثوي على وجه الأرض، ومعها صندوق مغلق فيه كافة الشرور ليدمر الجنس البشري بذلك، فلما تزوجها "إبيميثيوس" أخو "بروميثيوس" وتقبل منها هدية "زيوس" فتح الصندوق فانتثرت وانتشرت الشرور وملأت وجه الأرض.
تلك هي طبيعة العلاقة بين الله عز وجل وبين البشر في حس اليوناني القديم. إنها علاقة عداوة وبغضاء، وتربص وشر، تدل هذه الأسطورة عليها بشكل شديد الوضوح، فالنار المقدسة نار المعرفة، قد استولى عليها البشر اغتصاباً وسرقة، على الرغم من إرادة "زيوس"، ليعرفوا أسرار الكون والحياة، و"زيوس" كان يريد لهم أن يظلوا في جهل مطبق فساءه هذا العمل، فوزع بينهم الشرور عن طريق حيلة الصندوق الذي حملته "باندورا"، وصبَّ نكال عذابه على "بروميثيوس" ذلك الذي عطف على البشر وسرق لهم النار ليستفيدوا منها.
ولقد قالت أوروبا في جاهليتها الحديثة كلاماً كثيراً جداً عن الأساطير اليونانية المختلفة، وعن دلالاتها وإيحاءاتها، وعن هذه الأسطورة بالذات، لقد قالت عنها: إنها تمثل صراع الإنسان لإثباتِ ذاته، إثباتِ وجوده، إثباتِ فاعليته وإيجابيته، وأن عصيانَه وتمرده، إنما هو برهان الإيجابية والفاعلية، وإثبات الذات.
إنه جهل مطبق فاحش الغلط يصفه الأستاذ محمد قطب بقوله: "إنه انحراف بشع تكاد تنفرد به –فيما أعلم– تلك الجاهلية اليونانية، فالجاهليات الأخرى –فيما أعلم كذلك– قد توهّمت وجود آلهة متعددة، وجعلت من بعض هؤلاء الآلهة؛ آلهةً شريرين، صناعتهم الشر والانتقام والإيقاع بالإنسان بلا غاية سوى التدمير والإهلاك، ولكن الجاهلية اليونانية وحدها هي التي اختصت بتصوير هذا الصراع المنفِّر بين البشر والآلهة المزعومة من أجل إثبات فاعلية الإنسان وإيجابيته، فكَتَبَتِ اللعنة على الإنسان أنه لا يُثْبِت ذاته إلا على حساب عقيدته، وأن ضميره لا يصطلح مع الله فلا يقوم الوئام في داخل نفسه بين رغبته الفطرية في إثبات ذاته، ورغبته الفطرية في الإيمان بالله".
لقد تسربت هذه الأسطورة في أعماق اليوناني القديم، ووارثه الغربي الحديث وهي في الغرب اليوم، تستكن في لا شعور أبنائه ووعيهم الباطن، وتترك لديهم إحساساً واضحاً أو مبهماً بأن المرء لا يستطيع إثبات ذاته إلا من خلال الصراع بينه وبين إرادة الله التي تقسو عليه وتضطهده كما يتوهمون، وهذا يقود من دون ريب إلى نتاج مُرٍّ وخيم، وهو بالضبط عكس ما يتركه الإسلام في حس المسلم من أنه قادر على إثبات ذاته والتفوق والابتكار لا من خلال الصراع، بل من خلال طاعة الله عز وجل، والانسجام مع تعاليمه الكريمة التي تريد له الخير والسعادة في دينه ودنياه، وتحاول أن تجنبه الشرور والمهالك، وتمد له يد العون والغوث والهداية.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق