الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي
القدر والحرية في حس الغربيين
هلُمَّ معاً نحاولْ إزاحةَ الركام الذي نلتقي به في حس الغربيين للقدر والحرية والعلاقة بينهما، لنصل إلى التصور الإسلامي، الراشد المضيء لهذه القضية البالغة الخطورة، فلنفعلْ ولنتساءلْ بعد ذلك: أثمة مبررٌ أو إيحاء بوجود صراع دائم بين الإنسان والقوى التي لا تدركها الأبصار؟ هل ثمة أساسٌ معقول للحقد والنقمة بين القدر وبين إرادة الإنسان؟ أثمة أي سبب مقبول لأن يكون القدر في موضع الحرب والقتال العنيف مع البشر؟
من خلال التصور الإسلامي الراشد يكون الجواب على هذه الأسئلة جميعاً بالنفي، فالإنسان ما دام يهتدي في حياته بنور الله عز وجل الذي يشع على صفحات الكون، ويقدم الحلول لمشكلاتِ البشرية، ويلقي أضواءه على طبيعة العلاقة بين الخالق عز وجل وبين البشرية، ويضع المخلوق البشري في مكانة ممتازة جداً، إذ يعلن أنه أثمنُ عناصرِ الحياة وأنفسُها على الإطلاق، فسوف يرى هذا الإنسان أن إرادتَه ليست سوى امتدادٍ لقدرِ الله تعالى، الغالبِ النافذ، وأن قدرَ الله تعالى هو اليد التي تأتي للإنسان في ساعاتِ يأسهِ وتخبُّطِه، وحيرتِه وقلقه، وشقائه وأحزانه، لترفعَه إلى آفاقِ الأملِ والفرح، والسعادةِ والرجاء، لتطهره وتزكيه، وتهديه وتكرمه، وتقودَه صوب الطريق اللاحب العريض، طريق الهداية والسعادة في الدنيا والدين، وتنأى به عن الشرور والأذى، وتجنبه عثارَ الطريق وأشواكَه ورمضاءَه.
إن الإنسان في التصور الإسلامي، النظيفِ الراشد، أكرمُ عند الله عز وجل من أن تقفَ حريتُه عاجزةً، إزاء ما يحيط بها من قيود البيئة والطبيعة، والعلاقات الاجتماعية، وأخطائه التي وقع فيها ذات يوم، ثم حاول بصدق أن ينجو منها، لأن حريتَه إنما تَسْتَمِدُّ من المعين الأكبر؛ معين قوة الله عز وجل وقدرته المطلقةِ الواسعة، وهو مَعينٌ غني كريم، ثرٌّ دفاق، يحرر الناس، ويمنحهم فرصة الاختيار والاختبار عن مسؤوليةٍ تُحْتَمَل، وأمانةٍ تُبَلَّغ، ورسالةٍ واضحة تحددُ كل شيء من قبل، فلا لَبْسَ ولا إبهام.
والإنسان في هذا الكون ليس مجرد قطعٍ تتراصف إلى جانب بعضها، منبتَّةِ الجذور بالعالم، مقطوعةِ الأواصر بالحياة، مبتورة الوشائج بالكائنات. إن الأمر على خلاف ذلك تماماً، فالإنسان في التصور الإسلامي يعمل في انسجامٍ وتكاملٍ كوني مع الكائنات الأخرى، مرئية وغير مرئية، ضمن النسيج المتشابك المحكم لهذا الكون الذي ترتبط به مصائرُ خلائقِه وتتوحد في المدى البعيد، إنْ في عالم الغيب، وإنْ في عالم الشهادة. إنْ فيما يمتد إليه نشاطهُ المستمر الدؤوب، وإنْ فيما تعجز عنه قوتهُ الفانيةُ المحدودة.
فهذا التصور يقف تماماً على النقيض مما وجدناه في الحس الغربي في القديم والحديث، حول القدر وحرية الإنسان، من مواقفَ عديدة، ورؤىً شتى، وتصورات متباينة، تحمل جميعاً طابَعَ الانغلاقِ على العالم والكون، والكراهية العميقة للقوى التي لا تراها العيون، وتسعى جميعاً بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تكريس الأوهام التي عَلِقَت بتصور الغربيين، وقدّمت لهم الكون منذ قدامى اليونان في صورةِ مسرحٍ لآلهةٍ مزعومة، تحرقُهم شهوة الانتقام، وتدفعُهم الأثرةُ إلى أن يرفعوا سلاحَهم القاهر في وجه الإنسان الشقي المنكود.
إنه ليس ثمة مجال في حس الغربيين أن يروا الإنسان، كما هو في التصور الإسلامي الراشد أكرمَ عند الله عز وجل من أنْ تقف حريته حائرةً ضالة إزاء ما يحيط به من قيود البيئة والطبيعة، وآثام الماضي وأخطائه، وأنَّ بإمكان حريته أن تكسر هذا الحصار، وتفكَّ هذا الطوق، وتشكِّلَ مستقبلها ومصيرها. إن الإسلام يوقد في الإنسان شعورَه بكرامته، وإحساسَه بِقَدْرِهِ الكبير، ويُشْعِره أن ثمة قوةً كبيرة علوية، أكبر من البيئة والطبيعة والأخطاء، تسندُه وتقويه، وتريدُ له الخير، وتحبُّ له الهداية، وتفرحُ له إنْ أدركَ طريق السعادة والهناء.
أثمة مجال لدى الغربيين لأن يقف الإنسان موقفَ الهادئ المتبصّر ليعرف مَنْ هو؟ وما مكانُه في الحياة؟ وما دورُه؟ وما غايتُه؟ وأن يعملَ جاهداً على توجيه حريتهِ لتنسجمَ مع حريات الآخرين، وأن يجاهدَ ليكونَ مصيره متوحداً تماماً مع تجربة حياته على الأرض، بدلاً من أن يعلنَ تمردَه الأعمى ضد هذه القوى، ويصطرعَ معها؟ الجواب: لا، وهو جوابٌ تشهدُ عليه أدلةٌ لا تحصى من شواهدِ الحياة الغربية.
أما التصور الإسلامي فهو يهتفُ أَنْ نعَمْ، فللإنسان أن يسعدَ ويهنأ، ويطيبَ ويصفو، لا من خلال الصراع والعداء، بل من خلال الانسجام والتعاون، والتوحد والترابط مع الآخرين، ومن خلال طاعته لله عز وجل وانسجامه مع هديه الكريم.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق