الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي
حكمة القدر بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية
ها هو ذا الشاعر العباسي علي بن الجَهْم يُلقى في السجن، فيتأمل الأقدار والحكمة وراء السجن، والسجن ثقيل على النفوس فيقول:
قالت: حُبِسْتَ، فقلتُ: ليسَ بضائري حَـبْــسي، وأيُّ مهنَّــــدٍ لا يُغْـــــــمَدُ
أوَ ما رأيـــتِ اللـيــــثَ يألفُ غيـــلَهُ كِبْــراً، وأوبـــــاش الـسبــــاعِ تَرَدَّدُ
والشـــمسُ لولا أنهــــا محجـــــوبةٌ عــن نــــاظريكِ لما أضاءَ الفرقــــدُ
غِيَــــرُ اللـيــــالي بادئــــاتٌ عُــــوَّدٌ والمـــالُ عـاريــــةٌ يُفــــــاد ويَنْفَـــدُ
ولكــــلِّ حــــــالٌ مُعْقِــبٌ، ولربَّمـــا أجـــــلى لك المكروهُ عمّا يُحْــــــمَدُ
إن الشاعر يتأمل في حكمة القدر التي سيق معها إلى السجن، فإذا به يهدأ، وإذا بنفسه تكف عن القلق، وإذا بالطمأنينة تسري في أعماقه، ذلك أنه لا ينظر إلى القدر الذي فعل به ذلك نظرة العدو للعدو، بل إن نظرته تحاول البحث عن حكمة ربما دقَّت فما رآها المرء ساعةَ المكروه، لكنها موجودة فيما وراء الشدة، وربما كان وراء الشر الظاهر خيرٌ عميق، وربما أجلى لك المكروه عما يُحْمَدُ كما يعبر الشاعر نفسُه الذي يزدحم صدره بالأمل، ويتدفق بالرجاء، ويوصي نفسه بالصبر الذي يُعْقِبُ راحةً يطمئن إليها، ثم إنه ما دام قد غشي الحبسَ لغيرِ دنيَّةٍ نكراء، فما من ضير:
لا يُؤْيسنَّــــكَ مِنْ تفــــرّجِ كربــةٍ خطبٌ رماكَ به الزمـــــانُ الأنكدُ
واصبــرْ فإن الصبرَ يُعْقِبُ راحةً في اليوم، تأتي أو يجيءُ بها الغدُ
كم من عليـــلٍ قد تخطّــاه الـردى فنجـــا وماتَ طبــــيبُه والعُــــوَّدُ
والحبــــسُ ما لمْ تَغْشَـــهُ لدنيَّــــةٍ شنعــــاءَ، نِعمَ المنـــزلُ المُتَوَرَّدُ
بيــــتٌ يُجــــدِّدُ للـكريـــمِ كرامـةً ويُزارُ فيه، ولا يَزورُ، ويُحْقَــــدُ
قارنْ هذا الشعور بالقدر عند ابن الجهم الذي يُلْقي الراحةَ في النفس، والسلام في الصدر، والطمأنينة في الفؤاد، والسكينة في الأعصاب بشعور الغربيين بالقدر، أولئك الذين لا يمكن أن يتصوروا أو يشعروا إلا ما تصور وشعر آباؤهم وأجدادهم من أن الفوضى تعم السماوات والأرض، والعداء لا تنطفئ شعلته بين عالمي الغيب والشهادة، والنار التي لا تهدأ سخائمها تؤجج الأحقاد بين بني الإنسان وبين القوى الأخرى التي تريد الإيقاعَ بهم، ومحقَ سعادتهم، والوقوفَ بقسوةٍ لا ترحم في دروب أهدافهم ومصائرهم.
شتان شتان بين شعور هؤلاء، وشعور ابن الجهم!.. إنْ من حيثُ المبدأ وهو خطأ الفكرة أو صحتها، وإنْ من حيثُ العاقبة، وهو تمزقُ النفس أو توحُّدها، قلق الضمير أو سلامه، اضطرابُ الأعصاب وتوترها، أو هدوؤها وسكينتها. إن البونَ شاسع بين هذين الخطين المتباعدين المتناقضين، خطِّ الشعور الغربي الشاذ المنحرف المدمر بالقدر، وخط الشعور الإسلامي كما نجده لدى ابن الجهم مثلاً الذي يقول:
واللهُ بـــــــالغُ أمـرِهِ في خَلْقِهِ وإليهِ مصدرنـا غداً والموردُ
ولئنْ مضيتُ لقلّما يبقى الذي قد كادني وليجمعَنّا الموعـــدُ
فإنه حتى لو انصرم العمر المحدود، وانقضت الحياة الفانية، ولم تشتفِ النفس الخيِّرة من ظالميها، فعدالة الله عز وجل لا بد أن تتحقق، وجزاؤه العادل لا بد أن ينال الجميع.
أيُّ سلامٍ يتركه هذا الشعور في النفس؟! وأيُّ سكينة يبثها في الأعصاب؟! وأي طمأنينة ينشرها في الحنايا؟! إنه لشيء عظيم جداً ذلك الذي يتركه الحس الإسلامي بالقدر من هذا العطاء الخيِّر المبارك الذي يتنزل برداً وسلاماً على نفوس المصابين.
انتقلْ من هذا الحس الرائع إلى نقيضه المدمر مما تجده في الغرب من رصيد مشترك للتراث القديم الجديد حمّل الإنسان نظرة مأساوية حزينة للعلاقات بين قوى الكون وخلائقه، بين الإنسان وخالقه، بين الغيب والحضور، فالغربيون على اختلاف اتجاهاتهم يُجمِعون على الموقف الموحد الذي يصدرون عنه، والذي كما يدلُّ عليه فَحْصُ الرؤى الغربية في هذا المضمار واحدةً واحدة، ينبثق عن الحقد والتقاتل والصراع، وحيث المنظار القاتم الأسود يصور فوضى أبدية لا تؤول إلى قاعدة، ولا تنتهي إلى مَعْلَم، ولا يقر لها قرار.
إن التعامل مع القدر في التصور الإسلامي معاناة خصيبة غنية، لا صراعاً عابثاً، ولا تواكلاً مرذولاً، بعد بذل الجهد في الأسباب، واستفراغ الجهد والطاقة في الوسائل، لا يبقى إلا التوكلُ على الله، والتسليمُ له جل شأنه، والرضى بقضائه وقدره أيّاً كان. إن بوسعك أن تلمسَ مثل هذا الحس لدى السيّاب الذي قال بعدَ مرضٍ طال:
لكَ الحمدُ مهما استطالَ البلاءْ
ومهما استبدَّ الألمْ
لك الحمدُ إنَّ الرزايــــا عطاءْ
وإنَّ المصيباتِ بعضُ الــكرمْ
ألمْ تُعْطِني أنتَ هذا الظلامْ
وأعطيتني أنتَ هذا السَّحَرْ
فهل تشكرُ الأرضُ قَطْرَ المطرْ؟
وتغضبُ إنْ لمْ يَجُــــدْها الغمامْ؟
إنه التسليمُ المحمود، والرضا العميق، والتوكلُ الكريم، والقَبولُ بالقدر والقضاء، وتفويضُ الأمور كلِّها إلى الله عز وجل، والأَوْبَةُ إلى رحابهِ الكريمةِ العظيمة.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق