الاثنين، 8 أغسطس 2022

معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا

     حين يتأمل الدارس في دور الأندلس كمعبر من معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا؛ يمكن له أن يلاحظ أن تأثير هذا المعبر لم يكن خاضعاً باضطراد للموقف العسكري والسياسي الذي يكون عليه المسلمون، يقوى بقوته، ويضعف بضعفه. ولقد بات أمراً مفروغاً منه ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن الأندلس الإسلامية كان لها حتى في عصور ضعفها واضمحلالها نفوذ هائل على إسبانيا المسيحية، ولم يمنع تغير ميزان القوى لصالح الممالك النصرانية من استمرار هذه الممالك في إسبانيا والبرتغال في الاستفادة من ثقافة المسلمين الأندلسيين، والاضطلاع بِدَوْرِ حَمْلِ عناصرها، ونقلها إلى مختلف بلدان أوروبا.

     بل إن تغير ذلك الميزان لصالح القوى النصرانية؛ كان يتيح أحياناً الفرصة لتأثر أعظم وإفادة أكبر، ولهذا كانت مدينة طليطلة دون نزاع أكبر مركز انتقلت منه الثقافة الإسلامية و"العلم العربي" على حد تعبير العالم الإيطالي "ألدو ميلي" إلى الغرب، لأنها كانت أول مدينة أندلسية سقطت في أيدي "ألفونسو السادس" ملك قشتالة، عام 477هـ/ 1085م.

     ولم تفقد هذه المدينة صبغتها العربية الإسلامية في هذا السقوط مباشرة، بل تأخر ذلك فترة طويلة. وقد بدأت حركة الإحياء العلمية في بلاط "ألفونسو السادس" نفسه، واستمرت في عهد "ألفونسو السابع"، وكان بلاط هؤلاء الملوك مركزاً ثقافياً يجتمع في جنباته علماء المسلمين والمسيحيين واليهود. وكانت جهود هؤلاء العلماء منصبة على الترجمة من اللغة العربية.. لغة الثقافة والعلم والحضارة؛ إلى اللغة القشتالية أولاً، ثم إلى اللغة اللاتينية، قبل أن تصبح القشتالية لغة علمية تصلح لما تتسع له اللغة اللاتينية، التي لم تختفِ في طليطلة حتى قبل سقوطها في أيدي النصارى، وعلى الرغم من استعمال اللغة العربية "في الأعمال الرسمية أو على ألسنة العلماء" كما يقول "ألدو ميلي".

     يمكن للمرء أن يقرر بأن التأثير الحضاري للإسلام والمسلمين في البلاد الأوروبية قد استمر قرابة تسعة قرون، هي مدة الحكم الإسلامي للأندلس، مضافة إليه الفترة التي أعقبت سقوط هذا الحكم، والتي عاش فيها من بقي من المسلمين في الأندلس تحت الحكم الإسباني، وتحت وطأة العسف والتنصير الإجباري، والتي استمرت حتى أوائل القرن السابع عشر الميلادي حين صدرت أوامر نفيهم النهائية.

     وهذا التأثير -وإن خضع لقانون المد والجزر، واختلفت درجته تبعاً للظروف العسكرية والسياسية- ظل حياً طيلة تلك القرون، وبعضها -فحسب- كافٍ في إثبات ما ذهب إليه أو أجمع عليه الباحثون ومؤرخو الاجتماع المسلمون والغربيون على حد سواء؛ من أهمية ذلك التأثير وعمقه وقوته. وإذا كانت الأندلس أهم أقنية هذا التأثير ومعابره، فإن الذي يليها في الأهمية صقلية وبالرمو، وأخيراً يأتي دور الحروب الصليبية التي تشكل القناة الثالثة من أقنية التأثير من حيث أهميتها.

     وقد كتب العالم الإيطالي "ألدو ميلي" عن حركة النقل العلمي في شبه جزيرة الأندلس يقول: أما في شبه جزيرة الأندلس فقد كانت حركة نقل العلم العربي إلى العالم المسيحي أعمق تغلغلاً وأشد قوة، ودامت مدة أطول عهداً من كل مكان آخر، كما تحقق هناك التطور الذي كان لا بد أن يعتمد عليه تجديد العلم الأوروبي.

     ويقول عن دور صقلية: إذا كان سلطان المسلمين في صقلية قد اتسم بالتسامح إلى حد بعيد كما هي العادة، فإن سلطان الملوك النورمانديين -وهم الذين حكموا صقلية بعد خروجها من أيدي المسلمين- لم يكن أقل من ذلك على عكس ما جرت به عادة المسيحيين. ولقد كان هؤلاء الملوك، الذين احتفظ قسم كبير من الأهلين في ظلهم بعقيدة الإسلام، حُماةً عظاماً للعلوم؛ ولا سيما روجر الثاني. ثم يقول: وقد استمرت هذه الحالة المواتية إلى أقصى حد لنمو حضارة لامعة تحت حكم الملك العظيم والإمبراطور فردريك الثاني.

     ويوازن كثير من الباحثين بين أهمية تلك الأقنية الثلاثة: الأندلس، وصقلية وبالرمو، والحروب الصليبية، ولعل الصواب أن يقال: إن الحروب الصليبية كانت مجرد حافز ومنبِّه، أما الأثر الأقوى فكان للأندلس أولاً، ولصقلية وبالرمو ثانياً.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة