الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته
المسلم والمسجد الجامع في قرطبة
إذا كان بين المسلم وبين المساجد العظيمة نسب في الإيمان والحنان، وألفة روحية تجمعهما إلى بعضهما فإن المسجد الجامع بقرطبة من أهم المساجد في العالم بعد الحرمين الشريفين والأقصى المبارك التي لها في القلب مكانة خاصة وحب عميق.
إن المسجد الجامع في قرطبة من أكرم المساجد على قلب المسلم، وأقربها إلى وجدانه، وأحبها إليه، وبينهما تاريخ مشترك، ومودة قوية ضاربة في الأعماق، وصفات لا يخطئ المرء أن يراها عند كل منهما على السواء.
أنت أيها المسجد الخالد مثال حي لفاعلية المسلم وحيويته وإيمانه ونشاطه وتفوقه وسبقه وجده ودأبه، فقد قطع إلى قرطبة المفاوز والجبال، والسهول والبحار؛ فاتحاً غالباً منصوراً حتى شارك هناك منارة للإيمان، ومثابة للنور والعرفان، وتحفة للفن والذوق الرفيع.
إن هذا المسلم الذي رفع منك العماد، وبناك بالعز والغلبة والظهور خالد بخلود رسالة الإسلام المحفوظة، وأمته التي قامت على أمر الله تعالى هادية مهدية، داعية للخير، محذرة من الشر، أمة تستعصي بإذن ربها على الفناء، فهي حارسة لشعلة الإيمان، ساهرة على حماية مواكب الحق، مبلغة في أذانها العظيم تلك الحقائق والأسس الإيمانية الكبرى التي جاء بها النبيون الكرام، وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام.
وقد قضى الله تعالى بخلودها وبقائها فأنى لها الزوال!؟ وكيف تنقرض هذه الأمة التي حملت هذه الأمانة وتكلفت بتبليغ هذه الرسالة!؟ نعم؛ إن هذه الأمة قد تخرج عن جادة الصواب، وقد تفشو فيها دعوات جاهلية تحاول أن تمسخ شخصيتها وهويتها، وقد تهزم مرة ومرات لكنها لا بد أن تعود في نهاية المطاف إلى رشدها، وتتمسك بإيمانها، فتعود إلى دورها الريادي لتحمل الأمانة من جديد، وتبلغ الرسالة مرة أخرى.
أیها المسجد العظيم!.. إن المسلم الذي بناك في تلك البقعة النائية عن ديار الإسلام الأولى ومهده ومطلعه قد انتدب نفسه لحمل رسالة الحق، والعمل بدأب وإصرار لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ليل الجاهلية إلى فجر الإسلام، وأنت إذ تقوم في قلب إسبانيا النائية عن جزيرة العرب إنما تمثل المسلم الذي لا تعرف أرضه الحدود، ولا يعترف بالفوارق الوطنية والحدود الجغرافية الضيقة، ولا يُقِر أفُقُه الواسع تقسيم الناس حسب الأصقاع والثغور واللغات والألوان.
لقد وسعَتْ عاطفته المؤمنة، ورسالته المسلمة، ودولته الممتدة، وعزيمته الغالبة الشماء؛ الشرقَ والغرب، فليس الفرات ودجلة في الشام والعراق، والدانوب في أوروبا، والنيل في مصر، والتاج في طليطلة، والوادي الكبير في قرطبة؛ إلا موجة صغيرة في بحره الواسع ومحيطه الأعظم، وسعّتْ كذلك كل الأمم والأجناس والعادات والتقاليد والألوان واللغات والأزياء والموروثات الطيبة وصهرتها في بوتقة الإيمان العظيم، لتخرج من ذلك أنبل دولة شرفت بها الإنسانية وعظمت، وأكرم مجتمع عرفه تاريخ البشر، وأصدق حضارة طلعت عليها الشمس، وخير أمة أخرجت للناس.
أیها المسجد العظيم!.. إن الغيب سر من أسرار الخالق جل شأنه، فلا يدري أحد متى تعود إلى أهلك وذويك!؟ لكننا الآن في عصر يقظة إسلامية هادية طيبة مباركة، وعسى أن يكون من بركات هذه اليقظة أن تعود مجدداً للإسلام، فيصدح فيك الأذان، ويرتل القرآن، وتقام الجُمع والجماعات الحسان.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق