الاثنين، 8 أغسطس 2022

عبقرية البناء في مسجد قرطبة

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

عبقرية البناء في مسجد قرطبة

     ومسجد قرطبة هو المسجد الوحيد في أرض الإسلام الذي اعتمد على فكرة العقود المزدوجة، التي لا تجد واحداً من بينها يزيد قطره على خمسة وعشرين سنتيمتراً، وتنهي الأعمدة بعقود، وعلى رأس العمود قاعدة جديدة أقام عليها المعماري الفنان عموداً آخر، وتتشابك الأعمدة بعقود هي غاية في الدقة والرشاقة والذوق.

     فإذا نظر المرء إلى ذلك رأى نفسه في حديقة من حدائق الإيمان، كأن الأعمدة أشجار، والعقود فروع أثقلتها الثمار، أو كأنها نافورات تجمد ماؤها. وتمتد هذه الحديقة وتتسع، ويخيَّل إليك أنها تخطت البحار والجبال والصحارى حتى اتصلت بمساجد الشرق، في مصر والشام والجزيرة العربية.

     والمحراب آية رائعة من آيات الفن، وهو عبارة عن حجرة صغيرة، أو مسجد صغير سقفه من قطعة واحدة من الحجر على هيئة صدفة، وفوق بلاطة المحراب والبلاطتين المحيطتين بهما عن يمين وشمال ثلاث قباب صغيرة هي الذروة روعة وجمالاً ودقة فن.

     واستخدام الضوء كان بنسب تتوازن مع ما يدخل من الأبواب.. وهناك تحت القباب كانت قراءة القرآن، نور القلب تحت نور السماء، ونور السماء يتدفق على الأيدي المتوضئة.. نور القلوب ونور الشمس، نور البصيرة ونور البصائر.. نور الإيمان الرباني، ونور المؤمنين الربانيين، نور على نور.

     وفي الجزء الشمالي من المسجد صحن مكشوف تغطيه أشجار البرتقال، فإذا أسعدتك المنى فزرت المسجد، وكنتَ ناظراً إلى الخارج رأيت التداخل بين الأعمدة الرشيقة وبين أشجار الحديقة. وثمة اتجاه لدى بعض الإسبان -مسؤولين وغير مسؤولين- يرمي إلى نقل الكاتدرائية التي أقحمت على المسجد إقحاماً يؤذي العين، وينبو على الذوق، ويفسد سيمفونية الجمال المتكاملة في المعمار العام للمسجد، إلى مكان آخر مجاور، وإعادة المسجد إلى صورته التي كان عليها من قبل، وقد لقي هذا الاتجاه قبولاً طيباً، فالمسجد في كماله واكتماله عمل عبقري ندر أن يجود بمثله الزمان، حتى إنه بوسعك أن تقول: إن الذين يفدون إلى قرطبة إنما يفدون أساساً لزيارة المسجد، بل إن بوسعك أن تقول: إن قرطبة نفسها هي ضاحية للمسجد.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة